زيارة الى محترف الفنان حسن الجوني : لا سوق للوحة اليوم

لم تغافله اللوحة وإن قفزت بسرعة الريح وهدوء القط بين يديه . اللوحة عند حسن الجوني كاللسان تواقة إلى الكلام . كلام تشكيل ، تلوين ، ألوان . لوحة بلا بلاط. لأن لوحته بطبقات عديدة. الطبقات فوق الطبقات . أوشحتها رقيقة ولا رقيقة، غير أنها شفافة وهي تنطوي على الأيام في الساحات بدون أن تغرق في شؤون البلاد بطرق مباشرة . شؤون البلاد في اللوحة ، لا شك . لا شك في أن لوحة الجوني انعكاس فجوات البلاد الشيطانية على سطحها وعمقها . ولو أنها ليست سطحها . لأن اللوحات لا تقول على السطح وحده ، حين تندفع إلى الأعماق كما تندفع حصى الغدير . لوحة الباص ، كمثال، بلا بهجة ولا حبور في وجوه الصاعدين في الباص ، من يقلهم إلى مآويهم وهم غارقون في مدهم البلدي . مد لا ينتهي . كما لا تنتهي لوحة الجوني عند مطاف . لوحة بنهاية . هذا صحيح . غير أن نهايتها بلا نهاية . قد يبدو الأمر لعباً على الكلام ، غير أن لاعلاقة للعب على الكلام في الكلام على لوحة حسن الجوني . لوحة تمنح وجهها ما تمنحه . لوحة

حسن الجوني في محترفه

جوهر ، حين تفتر عن ماليس موجوداً على السطح فقط . لا يتبع الفنان اللوحة على نحو تقليدي . لذا ، لن ينوجد فنان من العالم في لوحته . لأن لوحته هو . هو لوحته . وهي تخطو باتجاهه بدون ملل ، لكي يغير أحكامها في اللحظات الأخيرة ، ما بحاجة إلى رشاقة التفاح . ما بحاجة إلى التورط في خفض البصر إلى مساحة اللوحة ، مساحتها وحدها كمساحة رديف لمساحة العالم .

لا وجود للآخر في لوحة حسن الجوني إلا من جنون محكم الوثاق لدى هذا الفنان وذاك . يحب دالي اللوحات السائلة . يحب جوني اللوحات المائلة . لوحاته مائلة ، كما لو أنها تفتي بميلان بيروت ومدن الجنوب . جنوبي يرسم بيروت كبيروتي ويرسم الجنوب اللبناني لكي يتمعن القبض على توبته هناك . بيوت بيروت في لوحاته مائلة على البحر، على هواء البحر ، على هواء ساحل الأبيض المتوسط . بيوت الجنوب دليل على جمال الكون وتنوعه . لا ينوجد على قرب من أحد إلا دالي من محاكاته لأشكاله بعيداً من الهندسات الدارجة. حتى أن الجوني رسم صلب السيد المسيح كما رسمها دالي. ولكن من منظور بؤري مختلف . إنهما في الخضم . خصمان ولا. تمر عين الواحد منهما على اللوحة كما تمر عاصفة فوق ظهر الأرض. لوحة مستطيلة أو مربعة . ولكنها تشترى بالسنتمتر. ضرب الطول بالعرض على سعر السنتمتر. هذا جزء من احترام اللوحة ، لأنها لديه إذا ذهبت إلى الآخر تموت ولا تنسى . أو لا تموت ولا تنسى . لوحة بضربات قوية يضطر من يريدها إلى الصلاة أمامها ، لكي تسود الصلاة على الصمت الممزوج بالإيقاعات ذات السلطان الغامر .

لوحة لا تزال مطاردة ، مطلوبة من اتباعها . لأن ثمة اتباع لها . هذه ليست عقوبة مطبقة . هذا من ثبوت الفاعلية . لأن الرجل لا يرسم على دروج من يطلبون لوحته ، وهم يتمنون أن لا تظهر غريبة على حائط الصالون إذا ما مر عليها النظر بالخطف . أو بالتمهل . رفض الجوني رسم ما يريده المعلقون . برجوازيو ما بعد الحرب الأهلية . أو أثرياء الحرب . ثمة

بعض من نساء الجوني

من يقول أن للوحة الجوني ذراع ، إما أن تمدها لطالبها . أو لا تفعل . وهي إذا تفعل أولا تفعل ، تشتعل قبل الفعل على ساعاته في محترفه في منطقة المنارة ، حيث يظهر ندم الفنان على بعض اللوحات إذ اضطرّ إلى أن يكره نفسه على وجودها في منازل الآخرين .

حين يقف الجوني امام لوحته يقف كمن تأكد من اتخاذه قراراً . زيارته في محترفه الواقف في هواء المنارة التاريخية ، الهادية السفن البعيدة ، زيارة لقلق لا يتفوه به إلا قليلاً . زيارة لتلال قرمزية ، سماء تلوح على وجهها أمارات التأييد لكل شراك التشكيل، بيوت مطعوجة، بائع صحف يصحف اللوحة بوجود كأنه وجود رحل متيم باللوحة ذاتها . لا يرسم إلا وهو يرتدي برنسه، بحيث لا يبدو مختلفاً عن طبيب على وشك القيام بعملية جراحية بيدين لا تخشيان التوكيد . الفنان جراح اللوحة . تلال قرمزية إذن ، بحر مرسوم بألوان الجوني ، بحر يمنح الفرصة الأخيرة للسباحة على زعيق نوارسه المخفية وفوانيس مراكبه وهي تتعلق بها كما تتعلق الزوجات بأزواجهن .

خريج أكاديمية سان فرناندو، الأستاذ في الجامعة اللبنانية ، رئيس قسم الفن التشكيلي على مدى أعوام ، لن يظهر تأثره بغويا إلا من لوحان الإمارات البعيدة في بعض اللوحات . رسام ، ملون ، لا يقرب النحت . لا يعنيه النحت . ذلك أن النحت في اللوحة واحد من مظاهرها . لوحان دالي وغربا في جزء من لوحاته يستدعي التدخل في اللوحان . الإذن بالدخول، أولاً . ثم ، لا شيء سوى بداية النظر إلى حلال العمليات الفنية بحيث تصبح اللوحتان على مسافة ضوء . هذه حرفة الفنان . لا أبعد من مسافات الضوء . لا أسرع من الضوء . لا تعديل وقفات . بالعكس . حبٌ لا يندم على حب ما دام الكلام على رب واحد . رب واحد للفنانين. عشرات اللوحات المصفوفة على حيطان المحترف المتداعية ، المستوفة اللوحة فوق اللوحة . اللوحات أنصار . لوحات بأحجام وأحجام . موجودة من وجود البشر فيها . لوحات واقعية سحرية ، تجريد لا يزال حياً في بعض اللوحات بتفوهات جديدة . ذلك أن الجوني مدرك لزمن التجريد البعيد . تجريد لم يعد يشبه نفسه منذ خمسينيات القرن الماضي . لوحة التجريد لوحة احتمالات لا لوحة تجريد لا يزال يقف وقفته القديمة من دون اعتدال .

لا يرسم الجوني على الورق أولاً. لأنه لا يخشى الحلول الفورية . وقفة صلاة أو إعلان حب . إثرها ، تقع اليد في صحة اللوحة على القماش المشدود في طريقه إلى الإتحاد بين العناصر . لوحة على حامل ، ألوان في وضعية المذهول بين اليدين . هكذا ، تقوم اللوحة على النفور المتبادل أولاً، في توجهها إلى صوتها الرخيم . بعدها ، تبلغ العلاقة بين الجوني واللوحة أعلى درجات الوعي والفهم ، بحيث لا يعودان يخضعان لقوانين العلماء ولا للتوقعات الجاهزة . روائح الألوان الزيتية كونٌ بما فيه. رائحة الألوان الزيتية طيبة وثقيلة. زيت واكليريك . بلاستيك حراري شفاف . بلاستيك لا زجاج . لا

المدينة المائلة

يهتم بوضع قناع على وجهه حتى لا تدخل المحاليل في انفيه ومسام الوجه . لا يخشى الفنان ألوانه . الألوان جزء متحد به. تعل المواد بالألوان الزيتية يقول . يقول أن الألوان ” تساهم في إرضاء المشغولات اللونية في اللوحة ،من قوة طباع الألوان على اللوحة. الأحماض بالألوان كالذخائر بالأسلحة. لا سلاح بدون ذخيرة”.هذا جزء مما قاله الفنان حسن الجوني في حواري معه في محترف تفوح منه روائح اللاهوت التشكيلي . ذلك أن الجوني كغروتوفسكي في المسرح . لا شيء لديه ، لا شيء بين يديه إلا المعبد والرهبان . المسرح معبد والممثلون رهبان . الجوني راهب معبده القديم ، مقصد الأثرياء والموسرين والأصدقاء والزملاء والرفاق . لذا ، علق على بابه كرتونة بخط اليد تدعو الزائرين إلى اختصار الزيارة ، لأن العمر لحظة. “اختصر زيارتك، لأن عمراً لا يكفي لكتابة لوحة”. مئات اللوحات، تشدّ، بدون أن تحتاج إلى درجات من الفهم إلا لمن يرى فيها تلويح اليدين . تجيء اللوحة من العالي إلى فرص الظهور . لا أشياء غريبة . لا شيء سوى بيوت بيروت والجنوب وكل ما يروقه أن ينوجد فيها من قرويين وفلاحين وأولاد المدينة المقهورين . مدينة مائلة بكل تفاصليها . جموع الناس في بيروت حراس بيروت . ميلان المدن من العنف الساقط عليها منذ عشرات الأعوام . جولات الحرب الاهلية في بيروت . الإعتداءات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني منذ أربعينيات القرن العشرين. “بيروت فضاء خاص لا يمكن ولوجه، بالألغاز والتهويمات وبالشهادات المزورة. ولدت في بيروت. عشت في بيروت. انعكس ذلك بشكل أساسي على لوحتي، ذات الهيكل البنائي الواضح، لمدينة ملموحة ومحسوسة ومكثفة باللوحة”، يقول وهو يغير وجهات الضوء في اللوحة. وهو يغير وجهات الضوء على اللوحة. باللوحة هتاف مكتوم . باللوحة توقع حدوث شيء ما بعد حدوثها . حدوث شيء باهر . سر من أسرار لوحة رجل لا يهمه أن يؤم الفنانين وهو يقف بين حراس المدينة . ناسها المغلولون ، المغلوبون.

المدينة على تعريشاتها في لوحة حسن الجوني . كأن بينهما نهوض واحد . لذا ، يقدمها بأحجارها ، حجراتها ، شوارعها ، نوافذها جهة الشمال واليمين ، بدون أن يحلي ما هو على ما هو عليه في مواضعه . المدينة هي المدينة ، لا فسيحة ولا متجنبة. “لم أتوقع ذلك. وجدته في اللوحة، كما أجد وجهي كل صباح في المرآة. المدينة مستبطنة في اللوحة، لأنها لا تتجسّد كاملة فيها. صحيح أن فيها من الحنين إلى المدينة القديمة الكثير، غير أن منطق العلاقة بين الموضوع والمادة المرئية، لايدع الحنين يشوش على قوى التعبير”، يقول للحصاد .

بيروت في لوحة حسن الجوني، لا يشوبها الجماد، لأن عنوانها الأكبر في روحها الإيقاعية. التبصر باللوحة يقود إلى القراءة هذه. في اللوحة إيقاعات كثيرة. ثمة ما هو حميم على هذا الصعيد. لأن ما يرسمه الفنان حسن الجوني من بيروت، جزر

ميلان الحجر على البحر

بيروت الساحرة والمسحورة في آن، في تبادل الإيقاعات بين الساحر والمسحور . لذا، تحضر في اللوحة، بخيالاتها الأنثوية المتطاولة. بيروت أنثى العالم باللوحة. ليس هذا شأن مسقط الرأس. ذلك أن الجوني، يرسم السهول على درج موسيقي أو مدرّج موسيقي، هجّ من سوناتا حزينة. الشغف بالموسيقى واضح باللوحة. “يسم اللوحة شغف بالموسيقى والقراءات الشعرية. أجمع بين الرسم والشعر والموسيقى في لوحاتي. ترتبط الفنون هذه بلوحتي. هذا ما دأب عليه مبدعو لوحة “التجريد الموسيقي”، الفاصلة بين لغات شكلية مختلفة والجامعة بينها بصلات عميقة. بيد أن لوحتي لا تحسب على التجريد الموسيقي. تجمع بين ما هو مدرك وما هو مختبر بالحواس. اللوحة نتاج الحوار الدائم بين الأشكال والإشارات والبقع والخطوط وكتل الضوء والظل والحزوز والتلوين والدفق والتكثيف والتجسد. ليست هذه حكاية عجيبة من حكايات شهرزاد. إنه البحث الدائم عن مناطق الجمال. الأخير لا يذبل”.

لوحة دوار، وهي تقنص اللحظات الاجتماعية في حياة الناس. لن يسير الناس في الفسح . الناس بالباص( البوسطة )، على شاطئ البحر مع الصيادين، بائع الصحف، بائع العصافير، مشاهد عشرات السنوات في لمحات تضع اليد على الوجوه ، تضغط عليها ، تضغط على خدودها برفق لا لكي تروضها . لكي تقضي معها ما استطاعت من أوقات . اللوحات رحلات بطرق مستقيمة إلى مرتفعات اللوحة. باللوحات ذات التعبيرية المتقدمة خطوات على التعبيرية من صمت اللوحة القرنفلي . تركيز على العالم الداخلي للفنان . التعبيرية ، أن يرسم الفنان ما يشعر به من خلال ما يراه . لا أن برسم ما يراه على ما هو عليه . الصمت في اللوحة عميق . للصمت صوت أقوى من الصوت. مشاهد متكرّرة من ميراث لا

ينضب. حكواتي المقاهي الشعبية، لا يزال حياً في لوحات حسن الجوني. المقهى الشعبي، لا يزال حياً في لوحته. البحر الأبيض المتوسط، علامة العلاقة بأرض الأمتنان العاطفي، لا أرض الولادة. تنطوي أعمال الجوني، بهذا المعنى على أشياء تبدو معروفة، غير أنها تتحول وهي تذخر بالتنشط في هوائها لكي ترتفع من مساحتها إلى مساحة العالم . إكمال معياري يقود إلى جذرية الجوني بعلاقته بالمساحات ، أصالته داخل هوادجها .

حسن الجوني فنان ورشة دائمة ، لا فنان مرحلة ما بعد الدراسة. معلم في اللوحة. لوحة مفعمة بالغنائية الموحية. تلك لوحة حسن الجوني. لوحة “أرض موعودة، مفقودة. أشهد من خلال لوحتي على زمني وعلى تغير الأزمنة. لم تشخ اللوحة، غير أن لا سوق لها اليوم. لا علاقة لذلك بالسوية الفنية، لأن اللوحة اللبنانية ذات سوية لا تعلق في زمن ، لا تعلق على زمن . السؤال، سؤال المستقبل. ذلك أن اللوحة تعيش من نفسها على نفسها. إن مستقبل اللوحة مرهون، في لبنان، بمدى تحمل الفنان لمسؤوليته. لا يعرف مقدارها ولا حساسيتها سواه. عسى أن تصبح الحرية، منطلقاً حقيقياً للإبداع، بعيداً من الهاوية المستترة خلف ظلال الفوضى”.

“إننا كائنات متجسدة تقدر، بلحمها، أن تلتقي العالم. عالم يضعها بامتحان مستمر ما استمرّ الفنان . إن ذلك لا يلزم أحداً بالحمق ولا بعدم الأصالة. كل فنان يطمح بالوصول إلى قمة مبتغاه وبالطريقة الأقرب إلى ذاته. وإذ تقود كل الدروب إلى روما على ما يقول المثل الشعبي، فهذا ليس معناه أن درب الذرى الجمالية مباحة ومستباحة. الأمر يستوجب، المزيد من الأبحاث والمراجعات للمخزون الثقافي، بهدف وضع اللوحة اللبنانية في المسار العالمي الواعي”، يقول