مالئ الدنيا وشاغل الناس/ الشاعر أحمد بن الحُسين الجعفي الكندي ( أبو الطيّب المتنبيّ)
نضيء في هذه السلسلة على عدد من سيَر الشعراء العرب، الذين كان لهم أثرًا أدبيًا متمايزًا، تذكيرًا وتدليلًا على ما سطّروه من أمجادٍ مقفّاة مصاغة بالبلاغة الفنيّة .
ونبدأ السيرة بن ملأ الدنيا وشغل الناس في حياته وبعد مماته، فكان الدهر راويًا ومُنشدًا لقصائده. المعتدّ بذاته اعتدادًا قارب حدود النرجسيّة، كأن نفسه بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظم! كلماته اخترقت حُجب الصمَمِ فكان نبيَ عصره بالحكمة والمعرفة بشؤون زمانه، غادر نبوته إلى طلب المعالي فاتّخذ من الشعر صنعته، فـكال المدائح لذوي المناصب من معاصريه، وهجا مناوريه ومن خاب مسعاه لديهم حتى لقيَ حتفه على يد أحدهم. أخفى في فلبه عاطفة لم يبلغ صوغها اكتمالًا إلا في مرثيّاته، كان كثير التفكّر، صاغ أفكاره في قالب الحكمة والتشكّي، على أرقٍ كأنّ الريح تحته! الريح التي عاكست رغباته، فظلّ مسافرًا متنقلًا بين المدائن والآفاق فكان ما قاله عن نفسه: “الخيل والليل والبيداء تعرفني..”
نبيّ زمانه..
“ما مُقامي بأرض نخلة إلّا/ كمقام المسيح بين اليهود..”
أحمد بن الحُسين الجعفي الكندي (أبو الطيّب المتنبي)، (915 م/303هـ- 965 م/ 354هـ). وُلد في الكوفة في محلة كندة، يعود نسبه إلى قبيلة جعفى في اليمن، والدهُ كان سقاءً يبيع الماء في الكوفة، عاش بين البدو فاكتسب بلاغة اللغة وجفاوة الطبع، وفخرًا بالذات حتى وصل إلى حدود النرجسيّة، عايش عصر الدويلات أواخر العهد العباسي، كان يطمح للرياسة والمكانة الاجتماعية هو المولود لأسرةٍ فقيرة وبسيطة: “لا بقومي شَرُفت بل شَرُفوا بي/ وبنفسي فخرتُ لا بجدودي”. لُقّب بالمتنبي كما يُشاع لادّعائه النبوّة في بادية السماوة (بين الكوفة والشام)، وآمن به أتباعٌ كُثر، متحصّنًا بنبوءاته وحِكمه المصوغة في قالب شعريّ أصيل، وما عاد عن ما هو فيه حتى عوقب بالسجن.
وعنه يقول الدكتور طارق شمس في كتابه “المثقف الضال” “: ” المتنبي كان نبيًّا من البشر، وكان عاقلا يرى الأخطاء فعمل على الإصلاح من خلال القصيدة التي كانت الأكثر تأثيرًا في زمانه”.
الأنَا المُتعاظمة والذات الكسيرة
عايش المتنبي غربةً نفسيّة، وعقدة نقص اتجاه نسَبِه المتواضع، فجعل من نفسه محورًا للفخر، فكان يشطح بأفكاره، حتى أصابه داء التعاظُم.
حاول إدراك المجد بالمال فقصد بلدان كثيرة، وامتدح لذلك السلاطين، القضاة، والوزراء: “لا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله/ ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده”.
وعلى الرّغم من أنّ غاية مدائحه التكسّب إلّا أنّه أبدع، فكان الشعر صنعته، والقوافي شغل يديه، تدور معه كيفما دار، وتلين له المعاني: “سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا/ بأنني خيرٌ من تسعى به قدم”.
رافقت أبياته كل جيل واتخذوا منها حكمًا تلوكها الألسن وتطرب لسماعها القلوب، فكان يُضفي على أبياته بُعدًا فلسفيًّا، قيل لتأثّره بترجمات الفلسفة اليونانية.
كيف وهو الواثق المعتدّ بذاته المتفاخر حتى المبالغة. ولو كان المتنبي من بني عصرنا لصلُحَ مدرِبًا في التنميّة البشريّة، يعلّم الناس كيف يحبون ذواتهم ويقدرونها، وينسجون من لاشيئهم بروجًا يطلون منها على الخلق:”الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”، وحتى أن نقادًا قالوا أنّ المتنبي لم يمتدح أحدًا إلًا مدح نفسه معه: “ما الدهر إلا من رواة قصائدي/ إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا”.
مما أثار حنق معاصريه، وانتقده المُحدثون والمتأخرون نقّاد وشعراء، قيل فيه أنه رفع الكذب إلى مرتبة العبقرية. وقيل عنه: “باع ماء المحيَا”.
فاقت المؤلفات عنه سيرةً وديوانًا ونقدًا الألف، منهم من أنصفه كـأبو الفتح بن جني: ” جاء في زمان يُعقم الخواطر، ويُصدئ الأذهان، فلم يزال فيه وحده بلا مضاه يساميه، ولا نظير يعاليه، فكان كالقارح الجواد يتمطر في المهامه الشداد، لا يواضح إلا نفسه، ولا يتوجس فيه إلا جرسه.”
ومنهم من أنكر عليه مدائحه، كـأراء عميد الأدب العربي طه حسين فيه: “رفع نفسه فوق قدرها،… ولم يكن إلا عبدًا للمال..”. ومبديًا نفوره منه في كتابه “مع المتنبي” : ” وليس المتنبي مع هذا من أحب الشعراء إليّ وآثرهم عندي، ولعله بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار”.
فقد عدّه أنه نزل بشعره عن كرامته، ومروءته، وباع فنه لمولاه: “أسمج ما كان في المتنبي حين كان ينشد بين يدي ممدوحيه من هذه الخيلاء التي لا تمثّل إلا ذلّة وضعة وضعفا وسخفا”.
حُلم السلطة بين المدح والهجاء
ناقش المتنبي عدّة موضوعات شعريّة، لعلّ أهمها المدح والهجاء، وكان له في ذلك مآرب عديدة، منها التكسُب، وطلبًا للجاه والسُلطة.
اقترن اسمه باسم سيف الدولة الحمداني أمير حلب، طلاه بمدائحه وطلاه سيف الدوله بعطاياه ما جعله يُثري بعد إملاق. كان الإعجاب بينهما متبادلًا وليس رهين التكسُب والصيت، يرافقه في غزواته، ويشهد الوقائع، ويصوّرها في شعرِه تصويرًا بليغًا، ويضفي على وصفه نفسًا ملحميًّا: “لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا/ وَعادَة سَيفِ الدَولَةِ الطَعنُ في العِدا”.
أرخّ للمعارك شعرًا، وهجى الخصوم، نال منزلة رفيعة في البلاط، ينشد الشعر في حضرة الأمير من قعود، مما أثار سخط الحاسدين لمكانته ونقمتهم، ومنهم شعراء كبار على رفعة ومستوى ، مثل: أبي الفراس الحمداني، وابن خالويه. وهو الناصحُ تفاخُرًا: “وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني/ أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى”
طالت إقامته لدى سيف الدولة إلى ما يقارب التسع سنوات كما تقول بعض الروايات، تعويضًا عن مجدٍ سياسيّ لم يدركه لا بالتمنيّ ولا بالسعي: “تجري الرياح بما لا تشتهي السُفن”. وعندما كثُرت الوشايات عنه والمكائد بُغضًا وتضليلا، أصاب سيف الدولة فتورًا من ناحيته، ولم يعد يكترث له: “أزل حسد الحُسّاد عني بكبتهم/ فأنت الذي صيّرتهم لي حُسّدا”. حتى قال فيه ميميته الشهيرة مُعاتبًا: ” يا أعدل الناس إلا في معاملتي/ فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”، وفارقه متحسِرًا: “يا من يعزّ علينا أن نفارقهم/ وجداننا كل شيء بعدكم عدم”
رحل إلى مصر قاصدًا بلاط كافور الإخشيدي، طامعًا في تحقيق مكانة لديه، “قواصد كافور توارك غيره/ ومن قصد البحر استقل السواقيا”، كان في مرماه صريحًا ومُباشرًا: “وغير كثير أن يزورك راحل/ فيرجع ملكا للعراقيين واليا”، ولكن كافور لم يكن مجرّد حاكم له ماضٍ في العبوديّة، بل كان ذكًيا بحيث فهم المتنبي وأقصاه بالوعيد والتسويف: ” يا قوم من ادّعى النبوّة بعد محمد، أما يدعي المملكة بعد كافور” .
شغله المتنبي بمدائح زائفة ومتذللة، ولمّا يئس، رحل عنه هربًا بقصيدة مطلعها: “عيدٌ بأي حال عدت يا عيد..” وفيها مافيها من التلميز والهجو اللاذع: ” جودُ الرجالِ من الأيدي وجودُهُم/ من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ” ” “أكلما اغتال عبد السوء سيّده/ أو خانه فله في مصر تمهيدُ” وكرّر فيها لفظة “عبد” في أكثر من محل، وفيها بيته الشهير والذي عدّه كُثر عنصرية وقحة: ” لا تشترِ العبد إلا والعصا معه…”
بعد ذلك قصد العراق وفارس فمدح عضُد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز الذي أكرمه، وفي عودته إلى الكوفة لقي مصيره حتفًا على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي الذي تعرّض لأخته في قصيدة هجا فيها ابنها ضبة بن أبي يزيد الأسدي العيني، كما تشير العديد من الروايات، “فقُتل هو وابنه محسّد وغلامه مفلح …”
كان المتنبي نخبويًا فيما يطرح بحيث لا يتداعى في شعره، وكان يعرف من يمدح وكيف يمدح، والاختلافُ بيّن بين مدحه سيف الدولة ومدحه لـكافور.
المتنبي الإنسان
“وما كنت ممن يدخل العشق قلبه/ ولكن من يبصر جفونك يعشق”
لا يُقال كثير عن حياة المتنبي العاطفية، ربما لجفاوة طبعه التي اكتسبها من عيشه صبيًا في البادية، وربما لبُعد تطلعاته التي سعى إليها بالمدح والهجو والتفاخر. ومما يُذكر أنه كان له زوجة وولدٌ اسمه “محسّد”.
ولكن النسخة العاطفية الليّنة للمتنبي ظهرت في مرثياته، فيُذكر أنه رثى جدّته، وهي الوحيدة من عائلته التي أتى على سيرتها في شعره، يقول: ” أحنُ إلى الكأس التي شربتْ منها/ وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا/ بكيتُ عليها خيفةً في حياتها/ وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما”. وفي مقطع مؤثّر يقول: ” حرامٌ على قلبي السرور فإنني/ أعدّ التي ماتت به بعدها سُما”.
ورثى أمّ سيف الدولة، وبدى المتنبي في مرثيته واجدًا ومجدًّا في جعل كلّ بيت من قصيدته ينطق حكمةً، فلا يتوقف عند تزيين خصال المُتوفاة، بل يطمح إلى تخليدها بالحكمة والعبرة: ” ولو كان النساء كمن فقدنا/ لفُضّلت النساء على الرجال/ وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ/ ولا التذكير فخر للهلال”. ويقول في مقطع: “يدفن بعضنا بعضا وتمشي/ أواخرنا على هام الأوالي” وفي هذا بدا المتنبي مسكونا بهاجس الوجود، متفكرًا ومتأملا.
وإذ تذكر الروايات أنّ المتنبي كان كلِفًا بــ”خولة” (أخت سيف الدولة)، يُشار إلى أن هذا الحب الخفيّ والذي لم يحدث إعلانه، كان سببا من أسباب انقلاب سيف الدولة على أنيسه المتنبي، وهناك روايات تدحض هذا الاحتمال. ولكن في النظر إلى مرثية المتنبي في “خولة” يظهر التفجّع والبكاء: “يا أخت خير أخ يا بنت خير أب”..
“طوى الجزيرة حتى جاءني خبر/ فزعت فيه بآمالي إلى الكذب/ حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا/ شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي”، وهذه الأبيات لا تحمل عاطفة مؤاساة عادية اتجاه الفقيدة، بل يظهر منها حزن المتنبي الشديد وصدق رثائه.
وللمتنبي أبيات متناثرة في الهجر والعشق: “وعذلت أهل العشق حتى ذقته/ فعجبت كيف يموت من لا يعشق”
“والهجر أقتَل إليه مما أراقبه/ أنا الغريق فما خوفي من البلل/ ما بالُ فؤاد في عشيرتها/ به الذي بي وما بي غير منتقل”.
إنّ هذه الأبيات التي تحمل في ظاهرها كلفًا وتكلُفًا في مواضع عديدة، تدلّ على عاطفة متوقدة، لم يسمح لها المتنبي أن تظهر عن آخرها، وذلك لأن الزمان كان على أهبّة السيف، والمتنبي في سعيه القلق يدوس أطراف المنايا ويحثّ الخطوَ نحو المجد:
“فالموت أعذر لي والصّبر أجمل بي / والبرّ أوسع والدّنيا لمن غلبا”