سمّيتكَ لبنان وما سمّيتُ بيلاطس

مرة واحدة في السنة أكرر هذا النداء، مكتفياً بتبديل الرقم فيما العذابات نفسها باقية. تختلف أسماء الجلادين والضحايا كما تختلف الأساليب أيضاً.

واستمر في النداء:

أحقاً يا سيد أراك في التورية. رأيتك عند سيف المتوسط جسداً يتمدد، وقد علا رأسك تاج الشوك وما استطعت تبيان المعالم. قال بحارة بعيدون التاج جنوباً وقال بحارة أبعد إنه شمالًا وما أكدوا. كان جسدك غيباً تلمع خلاله بقع دمك الطليل، عيناك الى فوق وقد سمروك عند السيف خمسين مرة (بدءاً من العام 1975) وقال بيلاطس إنك ببطء تموت، وغسل يديه للمرة الألف، قال سوف يعتزل عند تمام موتك أو يموت قبلك ولا يشهد.

سميتك لبنان وما سميت بيلاطس.

ولبنان يحيل دائماً الى السيد المسيح، هو الفادي وهو موضوع الفداء. وها نحن نمارس كعادتنا فعل التكرار بتجارب مستعادة وبآلام لا جديد فيها وبحيرة لا تنتهي الى هداية. وفي إحصائية أولى بعد استراحة أولى من حرب لبنان (المتداخلة مع صراعات حادة إقليمية وعالمية) 200 ألف قتيل و500 ألف جريح وعدد غير معروف من المعوقين وهجرة 900 ألف مواطن بلا عودة. مأساة تعادل، مع فارق عدد السكان، مقتل 20 مليوناً وهجرة مئة مليون من الولايات المتحدة الاميريكية. مأساة تحولت في محطاتها المتلاحقة الى انكسار في نفس المواطن اللبناني، يعوض عنه بالتعصب الطائفي أو بالولاء الأعمى لزعيم أو لدول قريبة أو بعيدة، ووصل الأمر الى تبدلات عدة في لغة الخطاب السياسي يجمعها الابتعاد عن العقلانية والواقعية. تحولت اللغة الى مجرد صوغ للكلام على وقع التعصب والتحامل، وغالباً كوسيلة لتزوير الوقائع. ويستند “أبطال” الاعلام السياسي الى انكسار المواطن اللبناني وعجزه عن التدقيق في صحة ما يسمع وما يرى وفي البحث عن طرق تبعده عن الهاوية. وسبق ان كتبت في بدايات حرب لبنان ما يشبه مكاشفة بالمأساة، بعيداً من تحشيد المواطنين حول شعارات لا طائل منها وتذهب بهم الى حتفهم الجماعي. ومما كتبت: نمضي الى عالم لا يفرق بين السكين وحبة الحنطة الجارحة. نبيع ما خلفه المحاربون في سوق النخاسة. أيها البوار الجميل. أيها البشر. زمن الملاحم ولى وصار الموت لعبة الخبثاء. تصرخ انت في اقبية الوثنيين. تقرأ القصائد التي نظمت أيام الفتوة. تستعيد همومك الصغيرة. تقدم البرائات ولعنة آبائك.

خمسون سنة على حرب لبنان، ومثل الحروب الأهلية فهي لا تنتهي طالما الأهل موجودون وخلافاتهم قائمة من المستوى البسيط لدى العاملين في الزراعة الى المستوى المعقد الذي يتشابك مع مصالح كبرى محلية ودولية ويتغذى بأرزاق الناس وأرواحهم مقدماً تبريرات لا تقنع سوى أصحاب الحماسة البلهاء. ولن تنتهي حرب لبنان طالما أن المشرق العربي يشكل رئتها التي يتنفس من خلالها لهيب الحقد الفردي والجماعي. ولبنان هو دائما مختصر هذا المشرق ومختبره ومرآته. ومن لبنان يمكن قراءة أحوال ومآلات الموزاييك المشرقي الذي يبدل أزياءه لكنه يستوحي في تصميمها الخطوط والألوان المتقاطعة للقبائل المتصارعة.

هذا الموزاييك المشرقي موضوع اهتمام زين نور الدين زين. يكتب  ميشال جحا عنه وعن أستاذة آخرين في الجامعة الاميريكية في بيروت، ويصفه قائلاً: كان الدكتور زين يصور لنا وقائع التاريخ بأسلوب قصصي كاريكاتوري ساحر ومشوق فيجعله وكأنه ينبض بالحياة، ويحول مادة التاريخ الى قصة يرويها بأسلوب ذاتي خاص به. المراجع متوافرة للطلاب في المكتبة. أما خبرته كاستاذ وتجاربه فهي جديدة لا يجدونها في كتب المراجع. لهذا كان درسه متعة وفائدة. سألته مرة وحرب لبنان في بدايتها: كيف ترى؟ : قال: مثل “كبكوبة” صوف لعبت فيها قطة فأصبحت خيوطها مشربكة. لكن زين يذكر في كتابه “الصراع الدولي في الشرق الأوسط” : قد تكون الهضبة الصخرية الصغيرة عند مصب نهر الكلب، على بعد ستة اميال الى الشمال من بيروت، أهم بقعة تاريخية على وجه الأرض، وهي لا تزيد عن بضع مئات من الأمتار طولاً. في هذه البقعة الفريدة يستطيع الزائر أن يرى سبعة عشر نقشاً وتماثيل منحوتة على الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الجزء من العالم على أيدي المصريين القدماء والأشوريين والبابليين والاغريق والرومان والمماليك والأتراك والعرب والفرنسيين والجيوش البريطانية – من رعمسيس الثاني في القرن 13 قبل الميلاد الى الجنرال ولسن قائد الجيوش البريطانية، والجيوش الفرنسية الحرة، الذي احتل سورية ولبنان عام 1941. وما كان الكاتب الألماني ارنست جاخ بمسرف في القول عندما كتب في كانون الأول (ديسمبر) 1916: إن الحرب تأتي من الشرق، والحرب ستندلع بسبب الشرق، وتحسم في الشرق.

النظام الطائفي لصيق بالكيان السياسي اللبناني منذ إقرار نظام المتصرفية عام 1864 على الأقل، وقد تكرس في نظام لبنان الكبير الذي رعته فرنسا المنتدبة، وكان أول عقد في الشرق يعتمد الطوائف أساساً للحياة السياسية. وكانت الحجة ان الاعتراف بالطوائف أفضل من اهمالها وتركها تنخر جسم المجتمع وتحطمه مع الاحتفاظ بقشرة وحدوية مصطنعة. واستطاعت الصيغة المسماة ديمقراطية الطوائف أن تؤمن نوعاً من التوازن بين تقدم المجتمع و “فرملة” قدرة الطوائف على تحطيم وحدته.الى أن وصل الوضع الى طريق مسدود وانفجرت الحرب أو الحروب الطائفية نتيجة هشاشة العقد الطائفي ووطأة الضغوط الناتجة عن الوجود الفلسطيني المسلح، ووصول الجماعات الطائفية اللبنانية الى تكوين ميليشيات مسلحة خاصة بها، وطغيان الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة المسلحة للجيش السوري والدولة السورية كلها، وأخيراً النفوذ الإيراني الناتج عن مساعدة طهران مقاومة اللبنانيين للاحتلال الإسرائيلي والمسحة الأيديولوجية التي طبعت المقاومة بطابعها على وجه الاجمال.

وبعدما كان لبنان الطائفي بنهضته التربوية والاقتصادية والثقافية جاذباً للمشرق العربي، أصبح نتيجة حربه الاهلية المعقدة مصدراً لتفجير مجتمعات المشرق الى جماعات دينية وقومية وعرقية، ولم تمنع ذلك الانقلاب العسكرية التي أسست ديكتاتوريات قاسية ومختلفة، خصوصاً في سورية والعراق.

هكذا لبنان الطائفي يطبع المشرق بصورته. بحيث تبرز إسرائيل كدولة تكاد تهيمن على هذا المشرق وتطرد نخبه الى اطراف الدنيا طلباً للحرية واتقاء لحياة العبودية تحت نير العصبية الإسرائيلية المتخلفة.

وهذا الشرق لا احد يعرفه على وجه اليقين، ففيه تجتمع الأزمنة في لحظة واحدة ولكل منها جذوره. جيران ولغات لا تتجاور. فضاء يبتلع صرخة النهار وتنهيدة المساء. فضاء الطائرات الحارسة أو المنذرة بقصف.

الشرق حيث لا قانون سوى المصادفة. من قانون حمورابي الى دساتير الدول الهشة السريعة التعديل. لا قانون في الشرق سوى سرعة العبور الى الآخرة. قانون الانتحار أو “الشعب يريد”.

والنسيان نعمتنا الوحيدة. ننسى لنعيش. نبدأ من صفر بعدما حطمتنا الأعداد. وأفضل النسيان أن نضيع المفتاح. نبقى خارج البيت، في عراء السؤال.