سنة جديدة على غزة … وفلسطين

                سنة تطل على الفلسطينيين تضيف لعمر الإحتلال الجاثم على صدورهم عاماً جديداً ومرفقاً معه ثلاثة أشهر من أسوأ محرقة شهدتها البشرية انفلت فيها الوحش الإسرائيلي مدعوماً من العالم الغربي الذي تجاهل كل ما كان قد كتبه في العدل وحقوق الإنسان لصالح إبادة جماعية كانت تتم بالصوت والصورة والبث الحي أمام الجميع دون أن يتدخل أحد لإيقافه وانكشفت فيه الدول العربية والإسلامية كأمم عاجزة كسيحة .

               سنة جديدة يحصي فيها الفلسطينيون شهدائهم يلملمون جراحهم ينظرون من أمامهم ومن ورائهم مفتقدين أحبتهم وما طبعته الجريمة الإسرائيلة على حاضرهم كإمتداد لجريمة لم تتوقف وعلى مستقبلهم في ظل تخلي الجميع عنهم حيث وقفوا وحيدين في مواجهة أعتى النظم وأشدها عنجهية ليس لقوتها التي انهارت يوم السابع من أكتوبر من العام قبل الماضي بل لحجم الإلتفاف الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وما توفره من إمكانيات الدولة الأقوى في العالم وتضعه تحت تصرف الدولة التي تخترق القوانين الدولية صباح مساء كل ذلك يصنع فارقاً هائلاً يشكل الشعب الفلسطيني ضحيته الدائمة دون أن يرف للولايات المتحدة أي جفن بل يتفاخر قادتها بدعم كل هذا الخلل الدائم للأعراف الدولية .

               لقد تلقت اسرائيل دعماً دوليا على امتداد الحرب وفتحت لها كل مستودعات ومصانع الأسلحة في العالم لإعادة تكريس صورة الردع التي اهتزت يوم السابع من أكتوبر بل وأبعد لإعادة ترسيم اسرائيل كدولة مهيمنة إقليمياً بعد أن بدت كدولة فشلت للحظة غير قادرة على الوقوف أمام جماعات محلية صغيرة ولو لساعات وقد كانت تقدم نفسها دولة تعرض خدماتها على دول عربية للحماية من دول اقليمية أخرى لذا كان القرار الأميركي بالدعم اللامحدود الذي انهال على اسرائيل وتفاخر زعماء دوللين بأنهم يحملونه بأنفسهم في بدايات الحرب .

              مشروع اسرائيل في الضفة لا يقل فداحة عن غزة فقد انزاحت اسرائيل في عقودها الأخيرة بفعل ميكانزمات الحركة الديمغرافية بين الكتلة اليهودية ولإسباب تشحن توربيناتها طبيعة دينية كانت التبرير الوحيد لنقل يهود العالم إلى فلسطين واحتلالها وتشريد شعبها ففي العقود الأولى حكمها هجين علماني قومي يستمد تلك القومية من الدين وهو من قام بتاسيس المشروع لكن الدين الذي كان مبرر الإقامة وفي حين لم  يكن ظاهراً في سلوك التيارات العلمانية المؤسسة ولكن الإنزياح المتدرج فعل فعله في الإعلان بشكل سافر لحظة وصول القوى الدينية للحكم عن مشروعها الأبعد .

            لم تكن خطط اسرائيل كلها خصوصاً في عقودها الأخيرة التي كان مهندسها بنيامين نتنياهو ابن المؤرخ اليميني بن تسيون نتنياهو سوى مقدمات لإسدال الستار على حل الدولتين كمقدمة لضم الضفة الغربية بإعتبارها “جزء من أرض اسرائيل ” كما وصفها في كتابه ” مكان بين الأمم ” وتلك جاءت فيما عرضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته السابقة  بما أسماه بصفقة القرن والتي قامت على ضم الضفة الغربية لإسرائيل وحيث أن القوى الدينية والنصوص الدينية  تعتبر الضفة الغربية كانت مسرح أحداث التوراة ،قبر يوسف في نابلس وقبة راحيل في بيت لحم والحرم الإبراهيمي الذي تطلق عليه النصوص ” مغارة الماكفيلا” في الخليل و” الهيكل”  في القدس وهكذا تستمد السياسة ثقافتها من تلك النصوص لتشرعن الإستيلاء على الضفة الغربية كفعل يكتسي طابع القداسة في المجتمع اليهودي .

                  تشير كل الوقائع للمخطط الإسرائيلي والذي أعلنه وزير المالية في الحكومة القومية الدينية بتسلئيل سموتريتش بالخيارات الثلاثة التي وضعها أمام الفلسطينيين في الضفة وهي أما العيش أذلاء تحت الفوقية الإسرائيلية كخدم وعبيد أو من لا يريد عليه الرحيل ومن لا يقبل بالخيارين فله السيف مستمداً هذا البرنامج من أسطورة ترويها النصوص عن دخول يهوشع بن نون الذي تسلم قيادة الرحلة من موسى بعد الخروج من مصر متجهاً إلى فلسطين وقد قام يهوشع حسب سردية النصوص بحرق مدينة أريحا بسكانها كأول مدينة دخلها … هذا مصدر إلهام لركن أساسي في الحكومة الإسرائيلية والذي كان قد تصلب أثناء تشكيل الحكومة بالحصول على وزارة المالية لتمويل المشروع وكذلك بالحصول على منصب وزير في وزارة الجيش الإسرائيليلة بما يتعلق بالضفة الغربية وصلاحيات السيطرة عليها وتشير الأرقام أنه في فترة سموتريتش تمت مصادرة 24 ألف دونم ويظهر حجم الكارثة أن ما تم من مصادرته منذ اتفاق أوسلو حتى قبل عامين هو 50 ألف دونم أي أن عامي ولاية سموتريتش شهدت نصف ما تم في ثلاثة عقود وهو رقم كبير لكنه يعكس تسارع المشروع السياسي الأيدلوجي .

                  عودة لغزة التي صبت فيها اسرائيل ليس فقط مئآت الآلاف من المتفجرات والصواريخ والقنابل المدمرة بل صبت فيها كل حقد التاريخ على الشعب الفلسطيني فالوحشية التي أظهرتها اسرائيل لم تكن حرب وعمليات عسكرية بل عملية إبادة وتطهير اعترف بها رئيس الأركان السابق ووزير الدفاع سابقاً موشيه يعالون عندما قال في برنامج تلفزيوني اسرائيلي أن اسرائيل ارتكبت في شمال قطاع غزة عملية تطهير عرقي وما أن قال ذلك حتى فتحت اسرائيل كل نيرانها ضده وأبرز الذين هاجموه لم يكن رئيس المعارضة يائير لابيد بل الرئيس الإسرائيلي اسحق هرتسوغ الذي لا تعطيه وظيفته حق التدخل في السياسة لأن اسرائيل نظام برلماني ومنصب الرئيس هو منصب بروتوكولي لكن الرئيس الذي كان يضع بصمته في بدايات الحرب على الصواريخ المرسلة لغزة خرج أيضاً عن صلاحياته ليهاجم يعالون .

            لكن يبدو أن للثقافة الإسرائيلية معاييرها المصابة بعلة نفسية من مسائل التطهير والإبادة فينما أن الشعب اليهودي هو أكثر شعوب الأرض حديثاً عن الإبادة لا يجد تناقض مع ما يرتكبه ضد الشعب الفلسطيني وتلك تنطلق من الفوقية والتقسيم .. تقسيم الأمم ووضع الأمة اليهودية فوقها وتلك حالة كان يجب أن تخضع للتشريح النفسي لدى المشتغلين في هذا الحقل ، فما تخزنه الذاكرة من كراهية للفلسطينيين والتي جاء كثير منها من معارك نقلتها الصوص تم تصوير الفلسطيني فيها كمتوحش وبعيد عن الحضارة وتلك تحولت إلى ثقافة وبدورها تلك تحولت إلى سياسة ومهمات عسكرية فما حدث بغزة أبعد كثيراً من الحروب .

                 تدخل غزة عامها الجديد مجردة من روحها ومن كل شيء فقد قام الإسرائيلي بعملية تجريف كاملة للروح والجسد وكل أمكانيات بقاء البشر الذين سجلوا معجزة جديدة في البقاء بعد أن تم تجويعهم وذبحهم وتقطيعهم وحرقهم وتجريف مستشفياتهم ومدارسهم وجامعاتهم وبنية قطاع غزة التحتية في انتقام هو الأشد في التاريخ لكن الامر مع الفلسطينيين لا يتوقف عند نزعة غريزية أو جيش يبحث عن شرفه الذي تمرغ  قبل خمسة عشر شهراً بل أن الأمر يتعلق بحسم صراع طويل باتت فيه اسرائيل ترى أنه توفرت لحظة تاريخية لذلك الحسم الذي يشكله الوجود الفلسطيني على الأرض والذي لم يتحول فيه الشعب صاحب المكان إلى هنود حمر التاريخ الجدد وظل شاهراً سيفه وارادته في وجه طغيان المحتل وجبروته ولم ينكسر رغم كل ما مورس بحقه من بطش مدعوماً من أعتى القوى الدولية لكن ورقته الأقوى ظلت وهي أنه بقي على الأرض مزاحماً للوجود الإسرائيلي دون أن ييأس أو يستسلم أو يرفع راية بيضاء تنتظرها اسرائيل منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن .

                 تعرض الشعب الفلسطيني للخذلان كانت غزة تدفع ثمنه من لحمها الحي الذي تطاير في الشوارع وعلى السطوح وفي الأروقة الدولية ولكن ما أظهرته آلة السحق العدوانية في هذه الحرب جسدته عمليات طرد السكان من المنطقة الشمالية لقطاع غزة بمسافة خمسة كيلومترات تمتد من الحدود الشمالية لقطاع غزة وتشمل بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا تقتطع منطقة تمتد من الحدود الشرقية حتى البحر غرباً وقد أجرت فيها بروفة تهجير المواطنين فهل ستكتفي اسرائيل بتلك المنطقة ؟

                  هناك قلق كبير ترافق مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي سيتسلم مفاتيح البيت الأبيض في العشرين من هذا الشهر وهو القريب جداً لإسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو وقد صدر عن ترامب وحاشيته بعض ما يمكن أن يعزز هذا القلق وخصوصاً فيما يتعلق بشاطيء قطاع غزة كمنطقة استثمارية فهو تاجر عقارات ومستثمر بالإضافة لجملة التعيينات التي قام بها بإختيار طاقم بدا بعض وزراء اسرائيل على يسار السياسة قياساً بهم وهم أكثر إنكاراً للتطلعات الوطنية الفلسطينية .

               يدخل الفلسطينيون هذا العام وقد تكالبت عليهم كل قوى الشر والظلم ، مروا بأسوأ تجربة اصطفت فيها كل المؤسسات الدولية والعربية جانباً تتفرج على مأساتهم وبدلاً من انتهاز الفرصة للعودة لأصل المشكلة وهي الإحتلال ومصادرة حقوقهم الوطنية فإن أقصى ما تفعله حتى الدول الصديقة هي الحديث عن إدخال المساعدات والغذاء وتلك حتى فشلت فيها فقد تعرض الفلسطينيون أثناء الذبح لعملية تجويع قاسية كانت العائلة تبحث فيها عن كيلو من الدقيق ولم تجده ومن الطبيعي أن تسمع عائلة بأطفالها أنها لم تأكل الخبز منذ اسبوع وتلك ستبقى شاهدة على أسوأ جريمة تم ارتكابها في القرن الحادي والعشرين وشاهدة على عجز الضمير وانكشاف كل المنظومة الدولية وقوانينها .

                يعتبر بتسلئيل سموتريتش أن عام 2025 هو عام الحسم ، هكذا تتحضر الحكومة الإسرائيلية بخططها لإستقبال الرئيس ترامب صاحب سابقة الضم بالتواطؤ مع بنيامين نتنياهو ولديها كل الخطط اللازمة لذلك في الضفة الغربية ووضع الفلسطينيين في معازل على نمط الهنود الحمر أو السود في جنوب أفريقيا هذا بعد اتمام ضم الضفة الغربية أما قطاع غزة والتي لم يفصح بنيامين نتنياهو عن خططه بالنسبة لها منذ بداية الحرب تاركاً للجيش أن يفعل بلا اعلان ويفرض حقائق السياسة على الأرض التي بدت نذرها ما أعلنه موشيه يعلون عن تطهير عرقي يمارسه الجيش في شمال قطاع غزة .

                  منذ البدايات وضعت اسرائيل نصب أعينها إزاحة الشعب الفلسطيني عن الخارطة بكل ما تملك من قوة وعنف تشبهاً بالولايات المتحدة التي تشاركها ثقافة التأسيس ضد الشعب الأصلي ولكن الشعب الفلسطيني رغم كل الضربات التي تلقاها على امتداد ثلاثة أرباع القرن وأكثر يعود كل مرة من جديد ينهض من تحت الركام يخوض معاركه بغض النظر عن نهاياتها لكن الحقيقة الثابتة التي ظل يكتبها التاريخ أن هناك شعباً ظل يقاتل بأسنانه مطالباً بحقوقه لا يسأل عن الثمن وموازين السلاح ولا عن العدو والصديق يتعثر ثم ينهض ثم يقاتل يصاب بجرح مؤقت ويشفى ويستمر تلك هي رواية التاريخ .