شبه تقاطع دولي إقليمي داخلي رفع الغطاء عن بقاء النظام
انتقلت سوريا من تاريخ إلى آخر. والأمر لن يقتصر على سوريا نفسها، ذلك أن الحدث السوري يغير توازنات في الشرق الأوسط وأنماطا في في علاقات المنطقة مع “سوريا الجديدة” ومقاربات المجتمع الدولي مع المنطقة. طوى البلد صفحة من تاريخه امتدت لأكثر من نصف قرن. فبعد أيام من القتال والغموض والفوضى منذ بدء العمليات العسكرية لفصائل المعارضة المسلحة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أُعلن رسميا في دمشق عن سقوط نظام بشّار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. وفيما تعرّض نظام دمشق لضغوط خطيرة منذ بدء الصراع الداخلي عام 2011، فإنه تمتع بمناعات بنيوية، كان أهمها خارجي المصدر، وفّرت له مناعة البقاء والاستمرار. فكيف انتقل مصير النظام من
المناعة الكاملة إلى السقوط المفاجئ، وما تداعيات الواقع الجديد على مصالح دول كثيرة معنيّية بالشأن السوري؟
لماذا تمكن النظام من الصمود؟
تمددت مفاعيل ما أُطلق عليه اسم “الربيع العربي” إلى سوريا عام 2011 بعد اندلاعه قبل وأثناء ذلك من تونس ومصر وليبيا واليمن وبلدان أخرى. وعلى الرغم من امتلاك البلد كل حوافز الإنفجار، فإن الأمر كان مفاجئا لكافة المراقبين للشأن السوري. فالبلد محكوم بقبضة حديدية، وسبق أن عرف حراكات اعتراض شهيرة جرى قمعها والإجهاز عليها. وعلى الرغم من استطاعة النظام السوري الصمود أمام الضغوط الشعبية والعسكرية، وتمّكنه من “النجاة” في مراحل كانت حرجة ما بين 2011 و 2015، تاريخ بدء التخّل العسكري الروسي دفاعا عنه، فإن سقوطه، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يطرح أسئلة بشأن ظروف انهيار كل التحصينات الداخلية والخارجية وزوال المناعة التي تمتّع بها، على خلاف ما جرى في بلدان أخرى اجتاحتها، بأشكال وأنماط ومستويات مختلفة، الصراعات التي فجّرها ذلك “الربيع”.
ظروف المناعة وأسبابها
تقاطعت ظروف موضوعية ومصالح عربية وإقليمية ودولية وفّرت للنظام سقوف صيانة ورعاية وحماية تفسّر عدم سقوطه واستمرار بقائه لثلاثة عشر عاما بعد بدء الصراع:
1-موقف الغرب: بقي موقف الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، ملتبسا، لم يدعو إلى إسقاط النظام، ولم يشجع عليه على منوال ما حصل في ليبيا والعراق وقبل ذلك في يوغسلافيا مثلا. وتكشف تيارات المعارضة السورية، عن كلام واضح،
كان مصدره دبلوماسيون أميركيون مفاده رفض دعم أي جهود للإطاحة بنظام بشّار الأسد. والأرجح أن الموقف الأميركي الذي بقيّ متحفظا حتى الساعات الأخيرة قبل سقوط النظام، يعود إلى اعتبار واشنطن أن سوريا قضية أمنية إسرائيلية يعود لإسرائيل وحدها تقويم الوضع فيها، ويأخذ الغرب كله بالاعتبار هذا الأمر. وقد دعم الغرب القرار الأممي رقم 2254 الذي يدعو إلى عملية انتقال للسلطة (يكون النظام جزءّ منعها) من دون أي شرط بزوال النظام.
2-موقف إسرائيل: على الرغم من خطابه المعادي لها، اعتبرت إسرائيل دائما أن النظام السوري كان دائما ملتزماً بقواعد الاشتباك، مدركا للحدود التي لا يمكن تجاوزها. وقد حافظ النظام على هدوء تام على حدود وقف إطلاق النار في الجولان منذ حرب عام 1973، ومنع أي نشاط عسكري فصائلي معاد لإسرائيل من هناك. كما ساهم في إضعاف قوات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، والتزم بخطّ أحمر لا يتجاوزه جنوبا حين تدخّل عسكريا في ذلك البلد (1976-2005). وعملت إسرائيل على الضغط على واشنطن، بعد اندلاع الصراع عام 2011، لتجنّب أي سيناريوهات تؤدي إلى سقوط نظام تعرفه وتأمن لحدود تحرّكه، مقابل ظهور نظام بديل مجهول الهوية والنوايا.
3-موقف روسيا: امتلكت روسيا منذ عهد الاتحاد السوفياتي علاقات متقدمة مع نظام حافظ الأسد في سوريا. تموضعت دمشق إلى جانب المعسكر الشرقي في مرحلة الحرب الباردة. وتعتبر موسكو أن سوريا تتيح لروسيا إطلالة على شرق المتوسط وعلى الشرق الأوسط وعلى العالم من خلال هذه المنطقة، ما يمدد نفوذها داخل المشهد الدولي. وكانت
موسكو قد فقدت نفوذا لها في ليبيا بعد انهيار نظام معمر القدافي عام 2011، واستنتجت أنها تعرّضت لخديعة غربية لا تريد تكرارها في سوريا. وقد التقت أجندة إسرائيل والولايات المتحدة مع أجندة روسيا في منع سقوط النظام في دمشق، لدرجة أن مداولات كثيفة جرت بين الأطراف الثلاثة، تصادفت مع طلب إيراني ملحّ من طهران في هذا الاتجاه، أدت إلى منح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غطاء لتدخل عسكري روسي واسع، في 30 أيلول/سبتمبر 2015، قلب موازين القوى وأوقف آنذاك زحف المعارضة نحو دمشق.
4-موقف إيران: فيما انهارت علاقات طهران مع جلّ العواصم العربية بعد قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، وقف نظام حافط الأسد في سوريا إلى جانب إيران في الحرب التي اندلعت مع العراق (1980-1988)، وتطوّرت مذاك علاقات استراتيجية مستمرة. استثمرت طهران مستويات عالية من الجهد العسكري والاقتصادي والسياسي والعقائدي لدى نظام بشّار الأسد، ودفعت باتجاهه بآلاف من “المستشارين” وعشرات الفصائل الموالية لها في المنطقة، من أفغانستان إلى لبنان مرورا بباكستان واليمن والعراق، لردّ الأخطار التي تهددت النظام السوري إثر اندلاع الصراع عام 2011. وتعتبر طهران سوريا ساحة نفوذ أساسية داخل ما يسمى “الهلال الشيعي”، وإحدى مفاصل العبور الواقعة على طريق طهران- بيروت. ورغم خطورة إدخال طرف سينافسها على النفوذ في هذا البلد، اضطرت طهران عام 2015، من خلال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، إلى “توسّل” تدخل
عسكري روسي في سوريا استجابت له موسكو.
5-الموقف من الإرهاب: أثار ظهور تنظيم “داعش”، وانتشاره السريع في العراق وسوريا، قلقا دوليا أدى لاحقا إلى قيادة الولايات المتحدة تحالفا دوليا لمكافحة التنظيم من 86 دولة عام 2014. وقد استفاد النظام السوري من الأجواء الدولية والإقليمية ضد “داعش”، على نحو أتاح له، كما لروسيا وإيران، تقديم حرب الدفاع عن النظام كجزء من الحرب ضد الإرهاب في العالم. وقد تقدمت أولية مكافحة الإرهاب على مستوى العالم على أي انخراط آخر يدعم المعارضة السورية في قضيتها ضد النظام. وقد ساهم وجود فرع لتنظيم القاعدة في سوريا، حمل اسم “جبهة النصرة” قبل أن ينفصل عن “القاعدة” ويتحوّل إلى “هيئة تحرير الشام” التي صُنفت حينها تنظيما إرهابيا، إلى إعطاء النظام مناعة إضافية تمنع سقوطه ضد هذا الإرهاب الذي بات مشتركا.
ما حسابات العواصم قبل السقوط؟
طرحت التطوّرات مع بدء هجوم الفصائل المعارضة المسلحة في شمال سوريا، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أسئلة بشأن دور هذا التحرّك المفاجئ في التأثير على المشهد المقبل لسوريا داخل التحوّلات الجارية في المنطقة. وكان صعبا، رغم وجاهة أن يكون الأمر مستقلا وله ظروفه الخاصة، فصل الحدث السوري عن تطوّر الحالة اللبنانية إثر ما خلفته الحرب في هذا البلد، كما فصل الأمر عن بداية ظهور أعراض تبدّل في المقاربة الغربية بقيادة الولايات المتحدة لملف إيران بكل جوانبه في الشرق الأوسط.
ويعتبر الصراع في سوريا مرآة لمصالح وأجندات عدد من الدول المتدخلة مباشرة بشؤون هذا البلد، بأشكال وإيقاعات متفاوتة، وتمتلك قوات عسكرية فوق الأراضي السورية. ورغم أن التطوّر ما زال في أيامه الأولى ومن المبكر الاهتداء إلى استنتاجات وخلاصات واضحة نهائية له، فإن الحدث يسلّط المجهر على ما قد يؤثّره على مصالح الدولة التالية:
1-تركيا: انتقلت أنقرة بعد عام 2011، أي تاريخ انطلاق الصراع الداخلي في سوريا، من دعم متدرّج، ثم كامل، للمعارضة السورية، وخصوصا أطراف منها، لا سيما التابعة للإسلام السياسي، إلى تدخّل عسكري مباشر في شمال البلاد عام
2016. وكانت حجّة أنقرة تستند على ما باتت الحالة الكردية في شمال وشمال شرق سوريا تشكّله من خطر على الأمن الاستراتيجي التركي، كونها تعتبر تلك الحالة امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا المدرج على لوائح الإرهاب.
في الأشهر الأخيرة، وبسبب ضغط اللجوء السوري في تركيا وتداعياته على شعبية حزب “العدالة والتنمية” وما يهدده لنظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، روّجت أنقرة لخطاب جديد يدعو إلى المصالحة مع النظام السوري. وقد عملت روسيا على لعب دور الوساطة بين موسكو ودمشق، ونجحت في استضافة اجتماعات بين أجهزة المخابرات السورية والتركية، ثم بين وزراء الدفاع والخارجية في البلدين، على أن تتطور مسارات التطبيع باتجاه قمّة تجمع الرئيسين التركي والسوري.
مارس الرئيس بوتين، ضغوطا على الأسد، لملاقاة نظيره التركي في سعيه للتطبيع بين البلدين. وقد ظهرت نتائج هذه الضغوط في تراجع دمشق آنذاك عن شرط انسحاب القوات التركية من سوريا قبل أي لقاء بين الرئيسين، إلى شرط إعلان تركيا عزمها الانسحاب ووضع برنامج زمني للأمر. وظهر لاحقا، وفق مراقبين، أن الأسد، وبضغط من طهران، بقي متلكئا في قبول فكرة التطبيع واللقاء مع أردوغان.
ورغم نفيّ رسمي تركي، فإن العملية العسكرية لفصائل المعارضة في شمال سوريا حظيت برعاية تركيا من أجل فرض أمر واقع يحسّن من شروط أنقرة ونفوذها داخل سوريا، كما فرض خريطة جديدة أمام كافة اللاعبين، وخصوصا الولايات المتحدة عشيّة استلام دونالد ترامب منصبه رئيسا لبلاده.
2-إيران: تعتبر إيران سوريا مركز نفوذ لها داخل ما يطلق عليه وصف “ممر طهران-بيروت” الذي سبق للعاهل الأردني
الملك عبد الله الثاني أن وصفه بـ “الهلال الشيعي” وحذّر منه. وقد تحرّكت طهران باكرا إثر اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 واستثمرت في العقيدة والسياسة والمال والعسكر والأمن دفاعا عن النظام في دمشق. وعلى مدى سنين هذا الصراع شارك “مستشارون” إيرانيون معزّزون بميليشيات موالية لإيران من أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان لردّ الأخطار التي تهدّدت النظام. وتؤكد معلومات، وفق خبراء، أن قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، قاسم سليماني، الذي قتلته مسيّرة أميركية في بغداد عام 2020، هو الذي زار موسكو واجتمع بالرئيس الروسي وعرض عليه حراجة الموقف الذي يتهدد النظام، وأقنعه بتدخل روسيا في الصراع.
تعرّضت مصالح إيران، خلال السنوات الماضية، لضربات موجعة من قبل إسرائيل نالت من مواقع وقيادات عسكرية تابعة لها ولميليشياتها الموالية على الرغم من التحالف الذي يجمعها مع روسيا. وقد تسبّب قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، في نيسان/أبريل 2024، بانتقال الصراع مع إسرائيل إلى مستوى مباشر أدى لاحقا إلى تبادل القصف المباشر بينهما.
غير أن اندلاع الحرب في لبنان وما تطالبه إسرائيل من وقف للدعم التسليحي الإيراني من سوريا للحزب، ناهيك من ضغوط عربية على نظام الأسد بأخذ مسافة من إيران، إضافة إلى تنافس إيراني روسي على تقاسم النفوذ والثروة في سوريا، معطوفا على تحوّل المزاج الغربي حيال الحالة الإيرانية العامة في المنطقة، عوامل وفّرت أرضية لإمكانية وجود تفاهمات مشتركة لإضعاف الوجود والنفوذ الإيرانيين في سوريا.
وكشفت العملية العسكرية في شمال سوريا عن “انهيار” في صفوف القوى العسكرية التابعة لإيران، سواء بالتراجع أمام الضغوط العسكرية أم من خلال قرار بالانسحاب. وجرى الاعتقاد حينها أن إيران لم تكن جاهزة لردّ هذا الهجوم واستعادة نفوذها والدفاع عن أحد أهم أوراقها في المنطقة.
3-روسيا: تعتبر روسيا سوريا موطئ قدم استراتيجي لها منذ مرحلة الاتحاد السوفياتي، خصوصا لجهة إطلالتها على المياه الدافئة. وقد تحرّكت موسكو لنجدة النظام في سوريا عام 2015 بعد مرور 4 سنوات على بداية الصراع. وتكشف المعلومات عن تفاهمات جرت بين الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ثم مع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مهّدت لإطلاق العمليات العسكرية الجوية في 30 أيلول/سبتمبر من ذلك العام.
اعتمدت روسيا على التدخل الناري جوا مستندة على تحالف الجيش السوري والميليشيات التابعة لإيران براً لقلب موازين القوى ومنع سقوط النظام. ورعت موسكو عام 2017 اتفاقات خفض التصعيد في مناطق الصراع داخل سوريا بمشاركة إيران وتركيا، بما أسس لحالة الستاتيكو التي عرفتها سوريا خلال السنوات الأخيرة. وتم دعم هذه الحالة باتفاق بين روسيا وتركيا لوقف إطلاق النار في إدلب عام 2020.
ورغم التحالف المعلن بين روسيا وإيران، وانخراط الأخيرة في دعم روسيا في الحرب في أوكرانيا، غير أن علاقة البلدين بقيت ملتبسة في سوريا تكشف تنافسا حادا بين مصالحهما. وقد صدرت عن طهران، بشكل غير رسمي، مواقف متبرّمة من روسيا اتهمتها ضمنا بالتواطؤ في ما تتعرض له مصالحها من ضربات إسرائيلية موجعة من قبل إسرائيل.
ويظهر هذا التناقض بشكل أكثر حرجاً في فشل بوتين في إقناع الأسد بدعم سياق تطبيع العلاقات مع تركيا، ما يؤشر إلى معاندة إيرانية لمساعي روسيا، ولما يمثله تطبيع علاقات دمشق أنقرة من تشريع لنفوذ تركيا داخل بلد تعتبره جزءا من نفوذها الإقليمي.
ورغم صدور بيان رسمي من موسكو منتقد للعملية العسكرية للمعارضة في شمال سوريا واعتبارها “انتهاكا لسيادة” البلد، غير أن اللهجة الروسية بقيت حذًرة لم تأت على ذكر تركيا. وفيما أغرى غموض ظروف هذه العملية بصدور سيناريوهات، منها تواطؤا روسيا، فإنه كان غريبا أن يتوجه الاسد لزيارة موسكو في نفس يوم انطلاق العملية وتأخر بوتين في استقباله إلى ما بعد سقوط مدينة حلب.
4-الولايات المتحدة: لم تهتم الولايات المتحدة بالصراع في سوريا إلا من بوابة ما يشكّله من خطر على أمن إسرائيل. وقد تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تهديدات كان أطلقها إذا ما استخدمت دمشق أسلحة كيماوية، وقبل بالحلّ الذي اقترحته روسيا بعد اتهام دمشق بهجوم كيماوي في الغوطة الشرقية بدمشق في 31 آب/أغسطس 2013. وتولّت موسكو حينها الإشراف على عملية إخراج الأسلحة الكيماوية التي يمتلكها النظام السوري إلى خارج البلاد. وقد أسّس هذا التعاون بين بوتين وأوباما في هذا الملف لعقد تفاهمات بينهما أتاحت تدخلا عسكريا روسيا في سوريا عام 2015. ترافق هذا التدخّل، من ضمن تلك التفاهمات، حسب باحثين، مع توقف واشنطن وحلفائها الغربيين عن تقديم أي دعم عسكري نوعي للمعارضة السورية من شأنه التشويش على التدخل الروسي.
وضعت الولايات المتحدة حضورها العسكري في سوريا في سياق مشاركتها داخل “التحالف الدولي ضد داعش”. ويبلغ عديد القوات الأميركية في سوريا حوالي 900 فردا منتشرين شرق سوريا. وتتحالف الولايات المتحدة (في إطار مكافحة الإرهاب) مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تهيمن عليها قوى كردية. ولطالما كان هذا التحالف موضع انتقاد من قبل تركيا التي تعتبر القوى الكردية إرهابية تهدد أمنها كونها امتدادا لـ PKK وتبرر وفق ذلك تدخلها العسكري شمال سوريا.
ورغم صدور عدة مواقف للرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى تعلن نيته سحب هذه القوات من سوريا، إلا أن ذلك لم يحصل، وبقي هذا الوجود، يشكّل تحدّيا لروسيا وتركيا وإيران. وقد نشرت الصحافة الأميركية بعد انتخاب ترامب رئيسا، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تقارير عن استمراره في التفكير في سحب هذه القوات من هذا البلد.
واعتبر المراقبون أن احتمالات انسحاب القوات الأميركية من سوريا قد تكون وراء العملية العسكرية للمعارضة، بدفع تركي، في شمال سوريا استعدادا لتموضع جديد. علما أن كافة الأطراف (أنقرة، طهران، موسكو) تعتقد أنها قد تكون مستفيدة من هذا الانسحاب. بالمقابل فإن واشنطن لم تعاند عملية عسكرية شمال سوريا تضعف نفوذ طهران، لكن موقفها سيكون تحت المجهر إذا ما طالت العملية مناطق نفوذ “قسد” حليفتها في المنطقة.
سوريا: العالم بعد “السقوط”
يفرض سقوط النظام السوري وقائع جديدة سيكون لها نتائج مباشرة على المشهد الإقليمي المحيط بسوريا مباشرة كما على المشهد الكلي في الشرق الأوسط. ستظهر تداعيات الحدث وفق الاحتمالات التالية:
1-الولايات المتحدة: يعزز سقوط النظام توجّها أميركيا لإضعاف النفوذين الروسي والإيراني في المنطقة. وياتي التطوّر متكاملا مع النتائج التي فرضتها الحرب الإسرائيلية ضد لبنان من إضعاف عسكري لحزب الله، من خلال الالتزام بالقرار 1701، وقيادة جنرال أميركي لجنة خماسية مكلّفة بالإشراف على تطبيقة، ما يعني إضعافا لنفوذ طهران في بيروت وانتهاءه في دمشق. ويعزّز الحدث السوري أوراق واشنطن في أي “صفقة” أبدى الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، استعدادا لعقدها مع إيران. كما يضعف الحدث نفوذ روسيا وقدراتها على التمتع بهامش مناورة ذي مصداقية خارج إطار مجالها الأوراسي. ورغم عدم وجود مؤشرات نهائية، فإن مصادر واشنطن تعتقد أن روسيا قد لا يكون لها مكانة في ظل النظام السوري الجديد، ما من شأنه إضعاف موقع روسيا العام ويسهّل على ترامب تسويق تسوية ما في أوكرانيا.
2-روسيا: يجمع الخبراء ومواقف أميركية رسمية على أن سقوط نظام الأسد يعود إلى قرار روسي بالتوقف عن تقديم الدعم له. وقد كان ذلك واضحا في برودة التدخل العسكري الروسي الجوي، وحتى غيابه أحيانا، لرد الهجوم الشامل لفصائل المعارضة. وكان صدر عن موسكو مواقف واضحة بعدم الاستعداد لتقديم الدعم “في ظل انسحاب الجيش السوري من مواقعه”، بما يحمّل النظام مسؤولية الانهيار. وكانت صحف روسية شنّت حملة انتقادات ضد النظام قبل سقوطه، عكست مزاج الكرملين الجديد. وبدا أن موسكو نفسها غير متأكدة من مستقبل نفوذها في سوريا بعد تصريح لوزير الخارجية، سيرغي لافروف، قال فيه أنه “لايمكن التنبوء بذلك”. وسواء غادرت روسيا نفوذها السوري بشكل كلي أو تموضعت بشكل جديد مع النظام الجديد، فإن سوريا لن تكون بيئة حاضنة للوجود الروسي الذي سيخضع لحسابات سورية جديدة. هذا التطوّر يضعف موقع روسيا على الأقل في الأجل القصير وإن تعلن تواصلها مع المعارضة السورية.
3-إسرائيل: تستفيد إسرائيل من توقف سوريا عن أن تكون قاعدة انطلاق وعبور للمخاطر العسكرية التي تتهددها. وتستفيد من أثر الأمر على حزب الله في لبنان، لاسيما تراجع قدرته على إعادة استعادة قواه العسكرية من خلال الممر السوري لسلاحه. تستطيع إسرائيل تسويق انتصار على جبهتها الشمالية، السورية بعد اللبنانية، وتعزيز موقفها داخل إطار الصراع مع إيران. وستراقب إسرائيل إعادة تشكّل السلطة في سوريا والتعلم على التعامل مع الوضع السوري الجديد. وتعتبر حملة القصف الكثيف والشامل للبنى العسكرية للجيش السوري منذ اليوم الأول لسقوط النظام، بمثابة إشعار لـ “الوضع الجديد” في سوريا باستمرار سياستها الأمنية المعتمدة في سوريا في عهد النظام السابق. كما أن تموضعها السياسي والعسكري في الجولان يكشف انتهازية سريعة واستفادة عاجلة من التحوّلات السورية الجديدة.
4-إيران: طهران هي الخاسر الأكبر من سقوط النظام السوري. بعض التحليلات ترى أن رفع الغطاء الدولي (الغربي والروسي) عن مناعة النظام، وغضّ الطرف عن التحرّك العسكري الواسع لفصائل المعارضة، بما فيها “هيئة تحرير الشام، يعود إلى تحوّل عدائي ضد الوجود الإيراني في سوريا. وقد عملت طهران في الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام، على تكثيف اتصالاتها مع تركيا وروسيا وبعض الدول العربية، كما شاركت في “اجتماع تشاور”، في بغداد، مع العراق والنظام السوري، كما دفعت إلى عقد اجتماع لدول مسار استانا (روسيا، تركيا، إيران) في الدوحة انضمت إليه مصر والاردن والسعودية وقطر والعراق. وكانت طهران أعلنت، قبل ذلك، جهوزيتها لإرسال مزيد من الأسلحة و “المستشارين” في حال طلبت دمشق ذلك. فيما أُفيد عن تدخل آلاف من عناصر ميليشيات فصائل موالية لها من العراق وحزب الله من لبنان. ومع ذلك لم تستطع إيران تجنّب سقوط النظام. ويعتبر الحدث “كارثة” جيوسياسية، سيكون لها آثار واضحة وحاسمة على نفوذها في لبنان غرب سوريا وفي العراق شرقها كما سيكون للحدث تداعيات على التوازنات الداخلية في إيران نفسها.
5-تركيا: أنقرة هي الرابح الأكبر في هذا الحدث. تخلّصت تركيا من نظام دمشق الذي خاصمته منذ عام 2011 ورفض دعواتها لتطبيع العلاقات خلال العامين الماضيين. ستعزز تركيا حضورها السياسي داخل مستقبل سوريا إضافة إلى حضورها العسكري في شمال البلاد. وستتخلص تركيا من تمدد إيران صوب سوريا مع إمكانية أن ينسحب هذا الانكفاء على العراق، وهما دولتا حدود جنوب تركيا. فرضت أنقرة أمرا واقعا في سوريا على الولايات المتحدة تلاقي به إدارة ترامب الذي يدخل البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/ يناير الجاري، خصوصا لجهة موقف واشنطن من نفوذ كردي شمال شرق سوريا يقع على حدودها، وتعتبره تركيا امتدادا لحزب العمال الكردستاني PKK المصنف إرهابيا. وستفرض هذا الأمر الواقع على روسيا أيضا داخل أي توزيع جديد للنفوذ الاقليمي والدولي المحتمل داخل سوريا المستقبل.
تخاف سوريا على نفسها، ويخاف العالم من/ وعلى سوريا. تقوم المخاوف التي عاشها العراق وليبيا واليمن وحوّل تلك البلدان إلى ساحات تجاذب وحروب داخلية. والخوف يرتبط أيضا بمسار الانتقال السياسي الداخلي وتدخل أصحاب المصالح في العالم في اللعب بمستقبل هذا البلد. ومع ذلك يتعامل العالم مع هذا البلد بصفته حالة خاصة شديدة الحساسية، ذلك أن لزلزاله السياسي الكبير تداعيات مباشرة على دول أخرى، وربما أيضا على عواصم القرار الكبرى في حسابات صراعها ومآلاته.