سوريا تتطلع إلى “لم شمل” اقتصادها المحطم

 العقوبات سيف مسلط على التعافي وانفتاح البلاد على العالم

* الركيزتان الأساسيتان للاقتصاد، وهما النفط والزراعة، شهدتا تدميراً ممنهجاً

* عقود من العقوبات الدولية والعزلة أدت إلى فصل سوريا عن الاقتصاد العالمي

* سوريا واحدة من أكثر الدول التي تفرض عليها عقوبات شديدة في العالم

سنوات طويلة من الصراع، دمرت اقتصاد سوريا وقطاعاتها كافة ودفنت أحلام وآمال الشباب بمستقبل مزهر. واليوم، بعد إسقاط نظام بشار الأسد من قبل فصائل المعارضة وتسلم القائد العام للإدارة الجديدة أحمد الشرع إدارة البلاد، لا أحد يملك بعد رقماً نهائياً عن حجم الأضرار المباشرة وغير المباشرة وتكلفة إعادة الإعمار فيما التقديرات تتراوح بين 250 و300 مليار دولار – حتى أن البعض تحدث عن مبلغ 400 مليار دولار. علماً بأن عملية التقييم بدأت من قبل المنظمات

الدمار في كل محافظات سوريا

والهيئات الأممية فور سقوط نظام بشار الأسد.

عندما بدأت الحرب في عام 2011، كانت سوريا تسير على مسار اقتصادي صحي نسبياً. فقد كان معدل البطالة يبلغ نحو ثمانية في المئة، وكانت الطبقة المتوسطة تشكل نحو 60 في المائة من السكان.

ولكن ما يقرب من 14 عاماً من الحرب الأهلية الوحشية، تركت حوالي 90 في المئة من سكان سوريا في فقر بكافة أشكاله. فيما شهدت الركيزتان الأساسيتان للاقتصاد السوري، أي النفط والزراعة، تدميراً ممنهجاً انعكستا على الاقتصاد بمجمله. فالنفط كان يشكل قبل الحرب ثلثي صادرات سوريا، فيما كانت الزراعة شكلت ما يقرب من ربع النشاط الاقتصادي. وباتت معظم آبار النفط والغاز والأراضي الزراعية والبنية التحتية بالإضافة إلى الطرق وشبكات الكهرباء في حالة دمار شامل.

أما ناتجها المحلي فانكمش بحوالي 85 في المئة بين 2010 و2024 من 67.5 مليار دولار إلى 9 مليارات دولار فقط، كما أن احتياطيات مصرفها المركزي من العملات الأجنبية – اللازمة لشراء الضروريات مثل الغذاء والوقود وقطع الغيار – قد استُنفدت تقريباً.

كذلك، فإن الاقتصاد السوري عانى منذ عام 2011، من التضخم المتصاعد في العام الماضي، حيث شهدت البلاد تضخماً مفرطاً وفقاً لتقرير نشره المركز السوري لبحوث السياسات في يونيو (حزيران) الماضي. وقال المركز السوري إن أكثر من نصف السوريين يعيشون في فقر مدقع، غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

ولم تسْلم العملة السورية بالطبع التي سجلت تراجعات دراماتيكية حيث فقدت أكثر من 95 في المئة من قيمتها، أضافة إلى نقص كبير في الموارد في الأسواق. وفي الوقت نفسه، انتشرت الأنشطة غير المشروعة في جميع أنحاء البلاد للتعويض عن العقوبات الغربية الخانقة.

باختصار، كانت الأزمة “واحدة من أكثر حالات الطوارئ تعقيداً في العالم” كما وصفتها الأمم المتحدة في عام 2024.

العقوبات… والنفط

عقود من العقوبات الدولية والعزلة أدت إلى فصل سوريا عن الاقتصاد العالمي. وكانت هذه العقوبات، التي فرضتها

الشرع يعقد اجتماعاً مع رجال الأعمال والصناعيين من مدينتي حلب وإدلب

الدول الغربية والأمم المتحدة، تهدف إلى الحد من قدرة النظام السوري على تمويل عملياته العسكرية وقمع المعارضة، وإجباره على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن إلى جانب استهداف الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن الانتهاكات، تم توسيع العقوبات لتشمل قطاعات اقتصادية واسعة، مثل المصارف والطاقة.

لقد كان من الطبيعي أن تؤدي هذه التدابير إلى مفاقمة التحديات أمام احتمالات الاقتصاد وإلى شطب الفرص الاقتصادية، وخنق نشاط القطاع الخاص، وتقليص كبير لتعرض البلاد للأسواق العالمية. وكلها عوامل حيوية للتعافي.

والأهم كانت العقوبات المفروضة على قطاع النفط الذي كين يدر الخزينة بالايرادات التي تحتاح إليها، حيث تم حظر بيع وشراء الغاز والنفط ومنتجات ذات صلة من سوريا، وبيع الأجزاء والمعدات والمعرفة الفنية المستخدمة في صناعة الطاقة، كما الاستثمارات في هذه المجالات في سوريا، وكذلك بناء محطات طاقة جديدة والاستثمار في الشركات العاملة في تطوير وإنتاج الغاز والنفط. كذلك، تم فرض عقوبات على شركات وأفراد مرتبطين بهذه الحقول في سوريا. كما عزز “قانون قيصر” الأميركي في عام 2020، الذي وسّع دائرة العقوبات، هذه العقوبات بشكل أكبر.

لقد كانت سوريا تنتج 383 ألف برميل يومياً قبل الحرب. أما الآن، فهي تنتج أقل من 90 ألفاً، وفقا لبيانات البنك الدولي. وبعد تدمير وإتلاف المرافق والأنابيب، بما في ذلك تلك التي تنقل الطاقة إلى العراق والأردن ومصر، باتت البلاد تعتمد بشكل كبير على إيران لتأمين حاجاتها النفطية.

وتمتلك سوريا مصفاتين كبيرتين للنفط، وهما بانياس التي تبلغ طاقتها الإنتاجية 120 ألف برميل يومياً، ومصفاة حمص التي تبلغ طاقتها 100 ألف برميل يومياً. لكن مصفاة بانياس علّقت عملياتها بعد توقفها عن استقبال النفط الخام من إيران والذي كان يشكل الغالبية العظمى من واردات البلاد.

في المقابل، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية على مناطق كبيرة في شرق وشمال شرق البلاد، حيث يتواجد معظم الاحتياطي النفطي، البالغ إجماليه 2.5 مليار برميل، بحسب إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.

كما تضم المنطقة التي تحكمها “قسد” أكبر الحقول في البلاد، بما في ذلك حقل السويدية، الذي كان ينتج ما بين 110 آلاف إلى 116 ألف برميل من النفط يومياً، وحقل الرميلان، الذي كان ينتج 90 ألف برميل يومياً، في الحسكة، فضلاً عن حقول دير الزور، وعلى رأسها حقل العمر النفطي الذي كان ينتج نحو 80  ألف برميل يومياً.

ونقلت “نيويورك تايمز” عن ديفيد غولدوين، وهو مسؤول كبير في مجال الطاقة في إدارة أوباما، قوله إن الحكومة

الشرع يعقد اجتماعاً مع رجال الأعمال والصناعيين من مدينتي حلب وإدلب

السورية سوف تحتاج إلى إثبات ملكيتها لهذه الموارد وحقها في بيعها بشكل واضح. ثم يتعين عليها أن تكون قادرة على ضمان الأمن حتى يتسنى إصلاح البنية الأساسية وتشغيلها.

وفي وقت يواجه قائد “هيئة تحرير الشام” و”إدارة العمليات العسكرية” في سوريا أحمد الشرع، مهمة شاقة تتمثل في توحيد الفصائل، وإعادة إرساء سيادة القانون، وتوفير الأمن وإدارة الخدمات الأساسية، فإنه يواجه في المقابل تحدياً كبيراً وجوهرياً يتمثل في إقناع القوى الغربية برفع العقوبات وإعادة السيطرة على الحقول النفطية وشطب تصنيف “هيئة تحرير الشام” منظمة إرهابية. فالشرع ووزراؤه في الحكومة الانتقالية يرون أن باب إعادة الإعمار يُفتح بعد رفع العقوبات. لكن الدول الغربية تنتظر في المقابل أن تلتزم الحكومة الجديدة بشكل واضح بالإصلاح السياسي وبالاستقرار. وهو ما عبّرت عنه صراحة المفوضية الأوروبية التي أعلنت أن رفع العقوبات وزيادة المساعدات لسوريا يجب أن يتم النظر فيه تدريجياً، اعتماداً على أداء الحكومة الجديدة واستعدادها لتنفيذ الإصلاحات وقطع العلاقات مع إيران وروسيا. في حين جرى حديث أن واشنطن قد تعمل على إصدار ترخيص مؤقت صالح لمدة عام يسمح بإجراء معاملات اقتصادية كانت محظورة سابقاً بموجب العقوبات الأميركية على سوريا.

من جهته، كتب ديلاني سايمون، كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، على حسابه الخاص على منصة “إكس”، أن سوريا “واحدة من أكثر الدول التي تفرض عليها عقوبات شديدة في العالم”، مضيفاً أن ترك تلك القيود في مكانها سيكون بمثابة “سحب البساط من سوريا في الوقت الذي تحاول فيه الوقوف”.

عودة اللاجئين!

بعد أكثر من عقد من الصراع، تظل سوريا أكبر أزمة لاجئين في العالم. فمنذ عام 2011، أُجبر أكثر من 14 مليون سوري على الفرار من منازلهم بحثاً عن الأمان. ولا يزال أكثر من 7.2 مليون سوري نازحين داخلياً في بلدهم حيث يحتاج 70 في المئة من السكان إلى مساعدات إنسانية ويعيش 90 في المئة منهم تحت خط الفقر، وفق آخر بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. كما يعيش حوالي 5.5 مليون لاجئ سوري في الدول الخمس المجاورة لسوريا – تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. في حين أن ألمانيا هي أكبر دولة مضيفة غير مجاورة بأكثر من 850 ألف لاجئ سوري.

وبالتالي، فإنه من بين التحديات الأكثر إلحاحاً التدفق المتوقع للعائدين إلى الوطن. ويرى مراقبون أن استعادة سوريا لأولئك الذين يتمتعون بالتعليم والمهارات والموارد للعودة أمر بالغ الأهمية لإحياء اقتصادها. كما يقول أحد المحللين أن السوريين الذين لديهم المال هم المفتاح”، لكن العديد منهم لن يعودوا إذا لم تكن هناك كهرباء أو سيادة القانون.

لكن في المقابل، هناك مخاطر كبيرة من امكانية عودة هؤلاء، لافتقار سوريا إلى القدرة على استيعاب، ولو جزء بسيط من هذا العدد. فالبنية التحتية المتهالكة في البلاد عاجزة عن تلبية احتياجات السكان المتواجدين حالياً. إذ ثلث المساكن مدمرة أو غير صالحة للسكن. كما أن الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والصرف الصحي في حالة من الفوضى، وفق “فورين بوليسي”.

معالجة الأزمة الإنسانية

إن التركيز الفوري يجب أن ينصب على معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد. إذ يعاني الملايين من السوريين حالياً من الفقر المدقع والجوع، مما يجعل جهود الإغاثة واسعة النطاق ضرورية. وبالتالي، فإن إعادة بناء البنية التحتية الحيوية – وخاصة في قطاعات الطاقة والإسكان والنقل – هو أمر عاجل. كما أن استعادة إمدادات الكهرباء والوقود ليست مجرد ضرورة عملية فحسب، بل هي أيضا شرط أساسي للنشاط الاقتصادي وشبه الحياة الطبيعية.

ما مدى سرعة إعادة بناء الاقتصاد السوري؟

قد تحتاج سوريا إلى ما يقرب من 10 سنوات حتى تعود إلى مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011، وعقدين من الزمن لإعادة البناء بالكامل، حسبما ذكرت مجموعة الأزمات الدولية والتي اشارت أيضاً إلى أن الجدول الزمني “قد يتفاقم في حالة حدوث أي عدم استقرار سياسي آخر”. والتحدي هنا يكمن في جذب الشركات الأجنبية أو المشغلين الذين لديهم الموارد والمعرفة لإعادة البناء.

ختاماً، يعتمد مستقبل سوريا الاقتصادي على قدرة الحكومة في دمشق على تعزيز السيطرة وإرساء شرعيتها ــ بما يرضي ليس فقط سكانها المتنوعين، بل وأيضاً الولايات المتحدة وحلفائها الذين لديهم الكلمة الأخيرة في ما يتصل بالعقوبات.