بكبسة زر انطفأت أضواء النظام الحاكم في دمشق بعد حوالي نصف قرن من انقلاب قاده حافظ الأسد ووراثة متعثرة قادها ابنه بشار. وبكبسة زر أيضا دخل من ادلب ومن الحدود التركية آلاف من ميليشيا النصرة التي تشكل الطبعة الأكثر جدة من تنظيم القاعدة فتولوا شؤون الدولة السورية واداراتها المتنوعة، تحت نظر مواطنين صامتين. وفي ما يشبه مشهدا سينمائيا انهار الجيش السوري وهرب ضباطه وجنوده الى حيث يتسنى لهم الهرب، ولم يتح للمواطنين مشاهدة عملية الاختفاء أو التخفي التي مارسها بمهارة جيش اطبق على الدولة السورية منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي وكان رائدا في مسلسل الانقلابات العسكرية التي عرقلت النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي لدول عربية حديثة الاستقلال، وكانت حجة الانقلابات دائما هي اتهام السياسيين المدنيين بالفساد وبالعجز عن تحرير فلسطين.
لم ترجع سورية الى نفسها. اختفى النظام الحاكم وجيشه مثل ملح تحت المطر. لم يشعر السوريون بالخسارة ولا بالربح. نزلوا الى الشوارع لدرء غضب إرهابيين قبضوا على الوطن بأسلوب غير إرهابي. وطن كان مهيأ ليسلم نفسه لأي عابر طريق. لقد فقدت المعاني معانيها، ومنتهى أرباح السوريين اليوم انهم استفاقوا على غياب نظام كان حقيقة قاسية، وكان وهما في الوقت نفسه.
انها بلاد للحرب.
هكذا اختاروها وأطعناهم، وآمنا بأن بلادنا هذه بلاد للحرب، غايتها وحركتها الوحيدة، علامة حياتها. بلاد تتمرن على قتل نفسها، لا تستطيع، تتأكل وتبقى لها حياة قليلة، فقط للحفاظ على حربها. بلاد أهدرت نفسها بالصغائر وتقديم الطاعة لمن اعتبرتهم كبارا، لتفقد معناها الخاص بها وتعلن نفسها ساحة حرب. بلاد تجذب القتلة إذا عز فيها القاتل، تقول: تعالوا إلينا ومزقونا، انتم كاتبو مصيرنا بالرايات القديمة نسلمها لقتلة كثيرين، ولنا أن نختار طريقة القتل بحسب أيديولوجيا القاتل – تكنولوجيا القاتل.
يهنأ القاتل والقتيل.
هكذا وعدونا ونحن نصدقهم.
هي البداية بلا براءتها، في منتهى جوعها تتصارع على طريدة، يكون المتصارعون طرائد بعضهم لبعض. البدائية في عزلتها كأن لا أحد يقربها، لا على أرضها يدب ولا في فضائها يطير.
البدائية في صمتها المطبق، لا أنفاس بشر ولا هسيس حشرات، خصوصا، هنا، لا زقزقة لعصفور وحيد أخطأ سربه ووصل تائها.
البدائية، بدائيتنا، أن نكون وحدنا، لا يؤنسنا سوى البغضاء تشحن حماستنا وتضخ حياة في أجسادنا المستسلمة. وكيف تكون حماسة بلا صوت إذا لم يكن مأوانا الملجأ أو الخندق؟ ولنقل هو الحجر مأوانا، نحن الأفاعي، أبناء الأفاعي، وقد لبسنا صورة البشر.
بلاد الأفاعي بلادنا، كأن لا أحد مر من هنا، لا صوت وحيد صارخ ولا مزمار راع فقد أغنامه ويعزف ليستعيدها. كأن لم يمر من هنا معلم وكتاب، مات المعلم أو أكمل طريقه الى ما بعدنا، تاركا على أرضنا الجرداء كتابه تأكله الشمس ويذيبه المطر ويشربه التراب.
التراب ترابنا يشرب ماء، كتبا، وينبت الأعشاب الخرساء.
البدائية نحن، البدائيون الخرس نحن، ولنا صوت وحيد يعلو عند الجريمة ثم نهدأ مثل أبرياء، مثل أفاع في جحورها ملساء تغري الأطفال باللمس.
وأنا ضائع، حملني الصوت من بيتي وتاه بي.
نفضت الصوت عني فسقطت كمن يسقط عن حصان. نفضت ثيابي وتأكدت من سلامتي ومشيت.
ضائعا مشيت، قلت أنام سبع ليال عند سبعة أصدقاء وفي اليوم الثامن أتذكر بيتي. أصل إليه بالطائرة أو بالقطار أو بالسيارة، ولا أصل على صوت.
بيتي هناك وقد عضه الوحش/ الانفجار. أعبر حطام ما كان بيتا نحو أمكنة بلا رماد، أمشي الى حيث أعشاب وصخور نقية وأجلس مثل كائن هبط من المريخ على أرضنا.
بلا بيت أبدا، بلا ذكريات، ثم استدرك نحو طفولة تبحث عن هويتها بلا أهل، تبحث عن أهل من أجل هوية.
وأنا اعتذر.
تستغرقني حرائق بلادي المسماة سياسة، فلا أتصل بك هاتفيا. ولا أريد لصوتي الرجراج أن يخدش سمعك الرهيف. أريده صوت لقاءاتنا لا صوت الانقطاع، صوتا يشبه صوتك، عدا خشونة تفاحة أدم التي يطربك سماعها.
أعتذر،
وأنا الذي أحتاج، ففي منفاي الوطني أفتقد صوتك، بل أطلب مجرد لهاثك أو غنائك من بعيد، لتضج دورة حياتي.
الحب الذي يعطي والحرب التي تأخذ، وأنت العطاء يصلني بالصوت ولو من بعيد.
انها المخيلة التي تجف، تسقط منها المشاهد الجميلة، الحميمة، في الإقامة والسفر وتشكلات الأحلام.
المخيلة تجف، يتبخر ماؤها الحي، وتبقى حجارة البشاعات، رملها الذي لا يذوب.
كنا في أول الحرب نعتصم بمخيلتنا، نقفز بين الحطام والحطام بفرح من يرجو الحياة، يرى نورها في آخر النفق الطويل.
لقد استهلكنا المخيلة ولم يبق لنا سوى حجارة الواقع السوداء، من حريق طارئ أو حريق أصلي.
والآن، نحن أمام المرآة ولا نعرف هذا الذي نرى.
قبل أن تغزونا الحروب الرخيصة، تعلمنا أن نوقف السيارة وننزل منها وننزع قبعاتنا إذا كان الفصل شتاء، احتراما لجنازة تمر، جنازة امرأة أو رجل نجهلها ونجهله، لكننا ندرك جيدا أنها أو أنه إنسان مثلنا. هؤلاء البشر مثلنا، بأعمارهم المختلفة، إناثا وذكورا، البشر الذين رأينا جثثهم أكواما في غوطة دمشق، لم نفتح عيوننا جيدا إنما غضضنا البصر لأننا ننظر الى مصيرنا بل الى حالنا في الشرق، لا كرامة لإنسان حيا او ميتا، بل هو مادة تجارة الزعماء (الذين نعلمهم والذين نجهلهم) حيا يصرخ في التظاهرات ويعلن ولاءه ولا يسأل، وميتا حين يكومون جثثه للعرض، لاستدرار العطف بطريقة فاحشة، ويصل الأمر الى الإمساك بطفل ميت أمام الكاميرا ليبدو أيقونة في طريق الفناء، ولن تعلق في معبد أو صالة عرض فنية. نسمع أخبار الموت التجارية في السيارة ولا نوقف المحرك، نرى الموتى يملأون الشاشة ولا نتوقف عن التدخين. صار الموت عاديا، بل هو سلعة يتبارى في عرضها تجار الموت الذين هم أيضا تجار سياسة.
من القاتل؟
هو كل من يخاطبنا قائلا: نحكمكم أو نقتلكم.
ولكن، ليس مهما الجواب بقدر ما المنظر هو المهم، حشد الأحياء وحشد الأموات من أجل سياسة هي لعبة القاتل والقتيل… لأننا:
لم نضع الإقامة في أرضنا، في ظلال أشجارنا، في بيوتنا الأبوية، معيارا أول للسياسة.
لم نضع أحلام أطفالنا معيارا للسياسة.
لم نضع حرية قولنا وسفرنا وعودتنا معيارا للسياسة.
لم نضع تنوعنا الديني والعرقي والثقافي القائم على الحرية والاعتراف معيارا للسياسة.
لم نضع…