زار مئة بلد في أصقاع العالم وله أكثر من مئتي كتاب ومخطوطة
من الرياض – رنا خير الدين
يوثّق التاريخ غالباً محطّات وإنجازات من جاؤوا إلى هذه الأرض، من متميزين ومبدعين ورحالة ومخترعين، وعملوا صلاحاً لأجل المجتمع من ناحية علمية، إنسانية، أو في مجالات العلوم كافة موثقة على شكل اختراعات أو
مخطوطات أو حتى أفكار، والاستكشافات حيث تنضوي هذه الوثائق على مرتكزات اجتماعية لها أبعاد إنسانية محورية غيّرت أو ساهمت بشكل أو بآخر بانفتاح الشعوب على بعضها أو سارعت إلى تطويرها في تغيير النمط الذي كان سائداً آنذاك.. المقياس التاريخيّ ليس في عدد الإنجازات الذي يحقّقه الفرد إنما في البقاء في ذاكرة التاريخ بعد الرحيل هو خير دليل على البراعة والإلهام.
يندرج ضمن هذه الإنجازات الرحالة العرب الذين تعجّ رحلاتهم بالمغامرات والاكتشاف وأبرز هؤلاء الرحالة: ابن بطوطة، ابن خلدون، ابن المجاور وغيرهم.
في هذا التقرير، سنتناول سيرة الرحالة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأديب والمؤرخ السعودي، رحمه الله (1926- 2022)، كما سنتطرّق إلى أدب الرحلات عنده وأهم المحطات والبلدان التي زارها في حياته والدوافع وراء زياراته.
هو محمد بن ناصر بن عبد الرحمن بن عبد الكريم بن عبود بن محمد بن سالم آل سالم الذي ولد في بريدة تنقّل في عدّة مناصب تعليمية في المملكة مكّنته من زيارة معظم أصقاع العالم، له أكثر من 200 كتاب ومخطوطة في أدب الرحلات حيث حقّق رقماً قياسياً في كتب الرحلات العربية.
تمكّن الشيخ العبودي من إثراء المكتبة العربية لكثرة رحلاته إلى بقاع العالم فدوّن كل ما رآه ووصفه وصفاً دقيقاً بين الأوضاع الاجتماعية والجغرافيا والطبيعة وأحوال المجتمع، جمعها على شكل مذكرات ثم حوّلها إلى مطبوعات
متوفرة اليوم للمؤرخين والباحثين في شتى المجالات. هذا الإرث التاريخي العربي الذي تركه الشيخ العبودي الهام يعدّ أرشيفاً واسعاً شيّقاً.
نشأته
تلقى الشيخ العبودي تعليمه الشرعي في بريدة على يد عدد من العلماء ومنهم الشيخ صالح بن إبراهيم الكريريس، الشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ صالح بن أحمد الخريصي وغيرهم، وفق نظام الكتاتيب أي قبل إدراج التعليم النظامي في المملكة. ونظام الكتاتيب هو مكان لتعليم الناشئة القرآن الكريم والدين ومبادئ القراءة والكتابة والخط والحساب يشرف عليها معلم. والكُتاتيب يُعدّ من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين.
جاب الشيخ العبودي أكثر من مئة دولة تعرّف فيها على قيم وحضارات الشعوب وتلمّس أحوال المسلمين في مختلف الأماكن وكان يسعى دوماً إلى تدوين كل ما يشاهده ويقابله من لغة، أدب وجغرافيا وسياسة وفكر لكل مجتمع يزوره.
عمل مدرساً ومن ثم تسلّم إدارة المعهد العلميّ في بريدة وأصبح أميناً عاماً للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة لمدة
ثلاثة عشر عاماً، وأخيراً أصبح الأمين المساعد لرابطة العالم الإسلامي. مُنح ميدالية الاستحقاق في الأدب عام 1974.
مؤلفاته
“أقول وقد جاوزت ستين حجة
ألا ليت شعري ما يؤول له أمري
رأيت بقاع الأرض طراً وطوّفت
بي الرحل من بر بعيد إلي بر
وزرت بلاد الهند والسند كلها
وما كان خلف الهند قطراً ورا قطرا
ومن الصين واليابان والمشرق الذي
يقيم به قوم من السمر والصفر
وفتّشت بلدان الأفارقة التي
يحلّ بها السودان من أقدم الدهر
من الزنج والحبشان والبوشمن الأولى
منازلهم في جانب الرأس في البحر
ومن غانه السفلى وتنزانيا إلى
سفالة ذات الذكر في سالف العصر
وأمريكة الوسطى ومن في جوارها
من السود والكاريب في الأرض والجزر”….
هذه الأبيات من قصيدة للشيخ العبودي في كتابه “بين الأرورغواي والباراغوي” ص. 51، حيث نتمكن من التماس بعضاً من أجواء جولاته، فقد اختصر بعدة أبيات رحلاته ووصفها بحنكة في تعابير شعرية. هذا ولم يكتف إلى هذا
الحدّ الوصفي بل مزجه في كتاباته الأدبية حين وصف سفره ورحلاته التي كانت هادفة لتتبّع أحوال المسلمين اضافةً إلى مشاهداته وانطباعاته.
للشيخ العبودي أكثر من 200 كتاب ومخطوطة، تحوي جميعها مشاهدات وصفية دقيقة لرحلاته وجولاته وقد وثّقها حتى باتت اليوم موسوعة شاملة عن العالم.
مؤلفاته أكثرها في أدب الرحلات ومنها في الدعوة والأدب واللغة. بعض كتبه في أدب الرحلات:
- “رحلات في أمريكا الوسطى”.
- “صلة الحديث عن أفريقية”.
- “إلى أقصى الجنوب الأمريكي”.
- “ذكريات في أفريقيا”.
- “على قمم جبال الأنديز”.
- “جولة في جزائر جنوب المحيط الهادئ”.
- “على ضفاف الأمازون”.
- “إطلالة على أستراليا”.
- “إلى بلاد الشرق الأوسط”.
- “في أعماق الصين الشعبية”، وغيرها الكثير لا تُعدّ ولا تُحصى.
وفي الأنساب نذكر له: “معجم أسر عنيزة”، “معجم أسر شمال القصيم”، “معجم أسر جنوب القصيم”، كما له عدّة كتب في اللغة منها: “كلمات قضت”، “الكلمات الدخيلة في لغتنا الدارجة”، “الأصول الفصيحة للكلمات الدارجة”.
“في أفريقية الخضراء”…
في كتابه “في أفريقية الخضراء” حيث كانت أولى رحلاته، زار خلالها ثلاث عشرة دولة في أفريقيا، تعرّف على خصائص الشعوب فيها وأحوال المسلمين سياسياً وإنسانياً وجغرافياً عدا عن جولاته المتتابعة ليلاً ونهاراً للاستكشاف، فقد كان الشيخ العبودي يدرك قيمة الوقت وعالي الهمّة.
وفي هذا الكتاب عرض الشيخ العبودي تفصيلياً الأحداث، واستوقفتني زيارته إلى كمبالا، في فقرة عنوانها “جولة في كمبالا” جاء فيها: “على الرغم من حاجتنا إلى النوم لأننا لم ننم نوماً كافياً منذ مدة طويلة لم نستطع مقاومة الرغبة في التجول في مدينة كمبالا، فخرجنا بعد العصر على أقدامنا، فألفيناها عاصمة حقة، إذ إن الأفريقيين فيها لهم محلات تجارية ويساهمون في إدارة الأمور التجارية فيها على عكس الحال في نيروبي كما أن الأوروبيين هنا قلة لا تذكر، ولكن الشأن هنا للهنود على قلتهم النسبية. ويظهر اليُسْر على أهل المدينة، وكذلك مظاهر الصحة والعافية. وعلامات الغنى والترف، وهم أي السكان الأفريقيين ينتمون إلى الجنس الزنجي الخالص ذي اللون الأسود. ويلفت نظر السائح السعودي مثلنا هنا كثرة الجلباب (الجلابية) والطربوش الأحمر والطاقية البيضاء…”.
هذه الفقرة تطلعنا عن كثب على أسلوب الراحل في الكتابة الوصفية السردية على شكل مذكرات يأخذ القارئ بها إلى عالمه ورحلاته. وهذا أبرز ما ميّز الشيخ العبودي وجعله يحتل مركزاً ثقافياً مرموقاً في المملكة والعالم لكون كتاباته اليوم باتت وثائق تاريخية اجتماعية.
كما يُلاحظ في كتابه “رحلات في أميركا الوسطى” الاتجاه السائد للتوثيق والمعرفة ونشر الحضارات والثقافة من
خلاله الأسلوب التعبيري الشيق والسلس، حيث أشار في فقرة “إلى المكسيك”: “في الساعة السابعة مساء بتوقيت (ميامي) كانت الطائرة المكسيكية من طراز د، س 9 تغادر المطار وبقي على غروب الشمس قليل من الوقت”، اخترت هذه الفقرة عمداً للقول إن الشيخ العبودي قد أجاد الأسلوب الوصفي الدقيق من خلال استخدامه للمكان والزمان، أي خصائص الوصف البديهيّة، بالتالي كان العبودي على دراية واسعة بالعلم والثقافة في شتى المجالات من خلاله معرفته بطراز الطائرة وحرصه على الدقة من خلال نقلها، ما أكسب كتاباته مصداقية!
إبراهيم يعقوب: سبعون عاماً من الإبداع في سيرة العبودي
في كلمة له مع “الحصاد” أشار الإعلامي إبراهيم يعقوب أن مَن يستعرض حياة الشيخ محمد العبودي، رحمه الله، يجد أنها كاللوحات العالمية التي تشدّ المشاهد إليها مهما تغير موقعه للنظر إليها، ففي كل زاوية جوانب إبداع وجمال تنافس الجوانب الأخرى وسوف يقف مذهولاً أمام تنوع اهتماماته وتميّزه في كل نوع مع ارتباطه بمسؤوليات العمل حتى بلغت سنوات خدمته سبعين عاماً وظل القلم رفيق دربه يتعامل معه بحرص شديد أينما كان، لتكون كتبه ومؤلفاته مراجع قيمة تبقى من بعده ولا يمكن فصل الناحية الأدبية عن الجوانب الأخرى، لأن الأدب كان حاضرا في جميع مؤلفاته.
ويتابع قائلاً: كانت جلساته الأسبوعية حلقات نقاش ثرية للثقافة والأدب والتراث وأحياناً تدور حول كتاب ألفه أحد الحاضرين ويدور النقاش حوله.
وقد كان أدب الرحلات لدى الشيخ العبودي يمتاز بالوصف الدقيق للأحداث والمجريات مع نقل مشاهداته في كتب الرحلات والتي بدأها بكتاب “في أفريقية الخضراء” وهو عبارة عن كنز من المعلومات عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما وصف حال المسلمين وما يواجهونه من تحديات وما يحتاجونه من دعم ليكون لهم دور أكبر
في بناء مجتمعاتهم، بحسب يعقوب.
محمد المشوح: الشيخ العبودي علامة فارقة في الأدب والثقافة
الدكتور محمد المشوح مؤسس الثلوثية للنشر والتوزيع أشار لـ”الحصاد” أن الشيخ العبودي كان ولا يزال علامة فارقة في الأدب والثقافة في العالم العربي، وهو من أبرز الكتّاب السعوديين. تبين غزارة إنتاجه الأدبي المبكر عن نهمه في الكتابة وفيض العلم لديه ما يصنفّه مع العلماء الذين مرّوا عبر التاريخ. فهو كتب في جميع مجالات الأدب والعلوم فينطبق عليه أنه عالم موسوعي، والموسوعية تعني أنه يجيد ويتقن العديد من العلوم التي كتب ودوّن عنها.
وأضاف: لقد احتفلنا في دار الثلوثية قبل سنوات من وفاته، رحمه الله، ببلوغ مؤلفاته مئتي كتاب وهذا عدد غزير وكبير، بعضها يصل إلى عدّة مجلدات، لاقت كتاباته اهتماماً من الباحثين في المملكة وخارجها وهذا يبين الأثر الكبير الذي تركه هذا العلامة في المشهد الثقافي.
وفي نهاية حديثه قال المشوح: نتطلّع دوماً إلى المزيد من الدراسات والبحوث التي تُعنى بابداعه وؤلفاته وكل ما أنتجه لخدمة الثقافة.