في حفل تكريمه بحضور وزير الإعلام اللبناني ونخبة من الشعراء والفنانين والأصدقاء
إنها دهشة الشعر لكل المصابين بالإبداع والإشراقة الشعرية وتفتح أمام أعينيهم عمارة الابتكار، حيث يعيد الشعر معنى الحياة إلى الذات الإنسانية بأفق مغاير على نحو جميل.
في هذه المناسبة، مناسة تكريم الشاعر طلال حيدر، كنا أمام دعوة إلى حرية الكتابة مع قصائده، هناك يحق لك التأويل الذي يليق بدواخلك. إنه الصوت الذي مهما غاب به الزمان يبقى رجع صداه في نبضات عمالقة الفن اللبناني. والشعر هو حقنا في الحياة والتأمل في مكنوناتها متجسّدًا في الفنون الأخرى.
أن تكتب عن شعر طلال حيدر معناه أن تحفر لتنقّب عن ذهب الشعر، عن الإنسان والزمان والمكان والطبيعة بوعي وشغف.
تمكن الشاعر من تطويع اللّغة المحكيّة وأسعفته اللهجات التي استقاها من معاجم القرى البعلبكية ومن ثقافته المتنوعة، لتكون نواة الأغاني اللبنانية تراث الفن المحلي والعالمي الذي شهدت عليه أعمدة بعلبك وأرواح الرومانيين والحضارات كافة. هكذا يكتب طلال حيدر بحبر يستنطق الحجر والبشر فهو الشاعر الذي لم يترك المقصي والمهمش، بل صنع منه سياجًا إبداعيًّا أيضًا.
إنه صاحب أجمل كلمات تجلّت في الأغنية اللبنانية، وفتحت أفقًا شعريًا مختلفًا، وكانت شعرية الرؤى تندرج ضمن هذا الافق. نقول إنه صاحب اللغة الوطنية والشعرية، لأنها لغة لبنان ولهجته، بها دمج الصور وراح يتقلب من المحسوس إلى المجرد، قرّب الشعر إلى ذهن المتلقي سواء أمن جمهور الشعر كان أم من جمهور الفن.
حفظت الذاكرة اللبنانية حارسة التراث، كلمات كثيرة للأغنيات التي كتبها ولُحّنَت، وفيها ما لا يخفى عن اللبنانيين إنه سحر سهل البقاع وتأثيرات مناخه ومياهه وترابه الذي يتحكم في مزاج الشعراء.
هذا الحفل التكريمي الذي يستحقه طلال حيدر أعادنا بالذاكرة إلى طفولة كنا نصغي فيها إلى وديع وصباح
ما يدفعنا إلى مساءلة الفن اليوم في ظل التقنيات الحديثة، بعد أن كانت الأغنية تحتاج إلى فترة زمنية لتصبح بهيئتها النهائية.
توثق قصائده لتفاصيل الريف الذي عاش فيه ولم يتركه على الرغم من قسوة الحروب التي أصابت هذا البلد. تجده في مكان آخر يحمل معه بعلبك يبتدع لها معجمًا ثقافيًا وتراثيًا استمده من قلعتها وهو يسافر على وتد الشعر الثابت كأعمدة آثار هذه المدينة العظيمة: بعلبك الشعر.
تراه يرقص أمام أعمدتها، وفي ساحة النجمة ويقف وقفة تمثال الشهداء وخطواته قصيدة ومعه عبد الحليم كركلا صديقه الذي رافقه مسيرة عمر، ومارسيل خليفة الذي كان يجالسه وفيروز ووديع الصافي…
إنه الشاعر الذي بالرغم من حيويته وحركاته السريعة، يتمتع بهدوء يجعله ينصت إلى صوت داخلي ينقله من توترات الشعراء وقلقهم إلى مستقر أسطر القصيدة.
ماذا نكتب نحن جيل الشباب عن هذا الإرث اللبناني. نشاهد طلال حيدر وعمالقة هذا البلد في شبابهم وقد نشعر أنه ما زال أمامنا طريق طويل نحمل فيه رسالة الأدب والثقافة التي أمّننا عليها شعراؤنا الكبار.
طلال حيدر الذي قدم من ذاته للثقافة هو خليل الأوراح الشعرية صنع من تجاربه نصوصًا تبدع نفسها بنفسها ووقف مصغيًا إلى نداء الشعر، هذا الرجل، رجل ثقافة ومحبة لأنه عرف كيف يتعايش مع أبناء وطنه، أن يكون شعره جامعًا للبنانيين تحت شعار الفن.
عاش داخل ذاته وخارجها يستلهم من الشوارع فتات الشعر لتلقاه بعد فترة كلمات وألحان بهية على لسان “الصبوحة” وفيروز وماجدة الرومي ومارسيل خليفة ووديع الصافي وأميمة الخليل وغيرهم ممن كتب لهم طلال حيدر وأهدى إليهم خاتم القصيدة كما ذكرنا. كذلك لقد كان الشاعر صديق الكبار والصغار يصغي إلى الجميع سمته التواضع تلك التي لم تفارقه.
تجلس مصغيًا في مسرح كركلا في منطقة حرش تابت لبنان، تسابق الزمان وأنت تعرف أنها ما هي إلا مسافة فرح قصيرة وينتهي الحفل، تحاول أن تقبض على اللحظة، تحدق بحركة رفعت طربيه وروح الفكاهة في أثناء تقديم المكرّم وهو يذكّر طلال حيدر بلقائهما الأول كذلك شوقي بزيع وغيرهما… تنصت بعمق إلى عبد الحليم كركلا رمز الفن اللبناني الأصيل، كركلا الذي ما زال حتى اليوم يهتم بالفن ويقدم له أحسن ما عنده للكبار والصغار.
وماذا عن هنري زغيب الشاعر قريب قلب سعيد عقل الذي يذكره في كل مناسبة، تحدث هنري زغيب مصطلح الإبداعوغرافيا ومنحه لطلال حيدر واعتبر أنه بين طبقتي الزمان والمكان سيخلد طلال في الزمان، على أنّ الشعر مصنوع من المحسوس والمجرد هكذا طلال يجمع بين الأضداد لتأتي المفارقة صورة شعرية تستقر في أغنيات لحنها وغناها عظماء الفن في لبنان. هنري زغيب يرى أن الفن خالد والمبدع خالد أيضًا بينما السياسة تنتهي بانتهاء الولايات، هل سمعتم من قبل بالفنان السابق كما تسمعون بالوزير السابق؟
بالإضافة إلى كلمة وزير الإعلام زياد مكاري والفنان عبد الحليم كركلا وكلمة شكر لابن الشاعر المكرم،
غاب مارسيل خليفة الفنان بل الكاتب الذي حالت عاصفة ثلجية في أوروبا دون حضوره فقد ترك كلمة بعنوان” بياع الزمان”
وتمحورت كلمة الفنان مارسيل خليفة حول بداية علاقته بصاحب المناسبة، وحديثهما عندما كان رفقة محمود درويش ومن ذلك اللقاء وعن شخصية طلال حيدر وشعره. يقول مارسيل:
والقصيدة الوحيدة التي حفظتها منذ ذلك الحين هي حريته المطلقة .
ويعتبر خليفة أن الشاعر المكرم تارة يتحوّل إلى أب حنون يحكي عن أولاده بحب فائق ، وطوراً يحكي بشغف مارق عن عشيقاته في كل أصقاع الأرض وفي الوقت ذاته كان زوجاً مشغول البال ونهر الحب الجارف لشريكته في صمت القصيدة التي لم يكتبها بعد. ثمّ يسيل شِعره بهيستيريا جنونيّة تفجّر أعمى ، لم يكن يقول الشعر ، كان هو الشعر بعينه ، كان قصائد لا تنتهي . ويذكر ما قاله له في آخر اللقاء قال له محمود درويش: “شو هالبركان هيدا”.
ويضيف الفنان والملحن مارسيل أنه من الصعب لمن لا يعرفه ، ولمن لا يراه يجلس ويشرب ويمشي معه أن يكوّن فكرة حقيقيّة عن شخصيته . يرقص عارياً كالغصن تحت الشمس بلا حياء وحتى الإغماء . يقهقه بفرح الوجود الكئيب وعندما يرقص يحوّل الوجود بركاناً ثائراً وأعجوبة . رقّص كل النساء من أجل غجريّة
نبت كالشوكة في ” بدنايل ” وصار شجرة باسقة. تحرّر من قيود الله والعقل. ينزل تمزيقاً بالمحرّم ويشيّع العصيان. يحترف الكذب ويتسلّح بالشعر والحنين إلى المطلق .
شاعر حقيقيّ ، يتألم ويصرخ ويخيب . لكنّه لا يستسلم، لا يترهّل . أعرف بأنه يعبث به هواء الخوف وتتدحرج إلى جوانبه أوراق الغيظ والتعب والحزن ورغبة مهشمّة ، مصلوبة في الحياة . . وبالشعر الرجاء
رقيق تخنقه الوحشة ويجرحه الحنين من الحزن.
بطل بقاعيّ . مأخوذ شعره من المتسكعين والباعة المتجولّين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة
بطل وصعلوك في آن حرّ حتّى الانتحار والجنون جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ هجّاء ، مدّاح “
أما شوقي بزيع فقد ألقى كلمة بعنوان “شاعر النقاء الرعوي والتفتح المشمس للمجازات”.
يقول شوقي بزيع في بعض من كلمته حول الشاعر المكرّم:
إذا كان الشعرُ العظيم هو الابنَ الشرعي للبداهة والموهبة وتمزقات القلب، لا ذلك الذي تُنتجه العقولُ والأفكار في معامل الحذلقة والتعسف التأليفي , فليس على المرء سوى العودة إلى كتابات طلال حيدر لكي يقفَ على الخلطة الأكثر نجاعةً للابداع , حيث الكتابةُ رقصٌ بارعٌ مع القيود , واصطيادٌ ماكرٌ لبرق الرأس .
ويتابع بزيع في جزء آخر من كلمته عن نشيدِ أناشيدِ طلال حيدر الجديدِ هذا، حيث تجد في الشعر معلقات على الريح، واحتفاءٌ بالمفقوداتِ، يلقي طلالُ على عاتق مخيلتهِ الهذيانية، مهمةَ التنقيب عن الدلالات الممحوة للحروف، التي تلبس حيناً لبوسَ يثربَ والأندلس وفلسطين، ولبوسَ الأنوثةَ الكونيةَ حيناً آخر. كما يظهر من جهة أخرى، وكأنه أورفيوسُ البقاعيّ الذي آثر التضحية ببعلبكَّ الواقع، لكي يخترع من عندياته بعلبكَّ التخيل، حتى إذا شرعت أصابعُهُ الراعشةُ بالعزف على أوتار الفقدان، أصيبت الأشجارُ بالثمل، والصخورُ بالطراوة، والنجومُ بالحنين الدامع، فيما خرجت من أوكارها نسورُ القرنةِ السوداء، لتُدَوْزِنَ تحليقَها على إيقاعِ كلماته .
ومع ذلك فإن الحرمانَ وشظفَ العيش لم يكونا الممرَّ الالزاميَّ للكتابة عند طلال حيدر، بل بدا شغفُه باللغة، جزءاً أصيلًا من شغفهِ بجمال الوجود، كما لو أنه مزيج غرائبيُّ الطقوس، من عروةَ بن الورد وزرياب وعمرِ الخيام وغارسيا لوركا وزوربا اليوناني والرحبانيين وعبدِ الحليم كركلا .
بالنسبة إلى شوقي بزيع طلال حيدر وخلافاً لمعظم الشعراء العرب، لا نعثُر في شعره على تفجعٍ كربلائيّ أو تلذذٍ مازوشيٍّ بالألم، بل ثمة فرحُ بالوجود، يلاقيهِ في منتصف الطريق فرحُهُ باللغة، التي تبتعد عن الإنشاء السقيم والشروح المملة، لتتحلَّقَ حول نُواتها كما تفعل الينابيع، والتي لا حاجةَ بالشاعر لإيصالها الى الملأ، لأن الوردةَ لكي تؤدي الوظيفة المنوطةَ بها، لا تحتاج للذهاب الى أي مكان، بل يتكفلُ عطرُها بالمهمة، تماماً كما هو حالُ الشجرةِ مع الثمار، والنجمةِ مع التلألؤ الدامع، والبيوتِ مع الذكريات.
هكذا نجد لدى الشاعر القدرة على التقاط لحظة الإشراقة الشعرية المفاجئة التي تحمل طابعًا جماليًّا عاليًا، وصنع عوالمه الخاصة، ومن الواقع والخيال، استلهم معجمًا تفاعلت فيه عناصر الطبيعة التي امتزجت بروحه وأثّرت في المتلقي.