ببريقها المتوهج .. لماذا تعذر وجود امتدادها الفني ؟
حاز محمد عبدالوهاب على العديد من الألقاب،فهو مطرب الملوك والامراء ،وهو موسيقار الأجيال كما انه الدكتور،وايضا هو اللواء،بالأضافة الى حصوله على الكثير من الأوسمه والنياشين والقلادات ، ،وكان في كل الحالات هو المطرب الأول، (قبل ان يعتزل الغناء في الحفلات ،وتلك وحدها قصة) ثم هوالموسيقار الخالد. كان صوته هو سفيره الأول،ثم كانت موهبته في الموسيقى والتلحين،هي شهادة استمراره في المقعد الأول،سواء في عالم الألحان وفنون الموسيقى أوفي الغناء،ومن خلال جماهير امبراطوريته الفنية الواسعة الانتشار على امتداد الأرض العربيه، خصوصا بعد ظهوره على شاشة السينما، وتألقه في سلسله من الأفلام الغنائيه،وساهمت الصوره المرئيه،وتجسيدها،مع جمال الصوت

توقف بعده فن التجديد في الموسيقى العربيه
وسحره،في تأكيد زعامته لفن الطرب. لكن عبدالوهاب لم يتوقف عند جاذبية أوتار صوته وايقاعاتها الخلابه، واّثر ان يمتد فنه المتجدد ويعبر تلك الجاذبيه، التي تربطه بجمهوره ،الى عالم اّخر، متجدد ايضا، انطلق اليه عبر ارادة قوية تشبع نهمه،وتحوله الى نبع متدفق من الألحان وفنون االنغم والرتم الموسيقى،وكان محرضه ألأول على أن يرتاد هذا العالم الحافل، هو ذلك الشاعر العظيم ،أمير الشعراء(احمد شوقي)،فهو استاذه وراعيه، فقد اّمن بموهبته، وقدرته في ان يصنع لنا اّذانا جديده،على حد قوله،وكانت نصيحته الأساسيه، والتي كان يمعن في تكرارها عليه(لاتنظر خلفك ابدا يامحمد،قدم لنا نغما جديدا، وانطلق الى الأمام لكي تصنع لنا فنا حديثا).ولم يدخر عبدالوهاب جهدا في تحقيق ذلك ،وقد سئل ذات مره،ماهو اعز شيئ لديك ؟ أجاب على الفور،( فني أولا ثم أولادي).صحبه أحمد شوقي الى اوروبا،وتعرف على فنونها وموسيقاها باّلاّتها المتعدده،وأنغامها المتطوره،ومدى تعبيرها وجمالياتها.لذلك كان اقتحامه لهذا العالم ،الذي لم تألفه الأذن الشرقيه من قبل ،وهو الموسيقى العالميه،فانكب عليها،وعلى دراستها ،بفنونها،ومن هنا كانت انطلاقته الى عالم جديد من الفنون المختلفة في اطار الموسيقى والغناء،مما ساعده على ادخال الكثير من الألأت الموسيقية الغربيه الى عالم موسيقانا الشرقيه،واستخدامها بشكل يضيف،ولا ينال من النغم الشرقي،تأكدت بذلك ريادته في هذا الانفتاح على ذلك العالم الجديد،واكسب موسيقاه سحرا جديدا، ومن هنا لابد لنا ان نتوقف عند الشخصية الأهم،وصاحبة الفضل الأكبراوالأعظم، في وجود (عبدالوهاب)الموسيقار الذي عرفناه ،وشكل لنا وجداننا الفنى،وهو امير الشعراء(أحمد شوقي) فهو الأب الروحي، وهو المدرسة التربويه والثقافيه، التي تربي عبدالوهاب في كنفها، بحيث يمكن ان يقال ان عبدالوهب موهبة فذه لا جدال فيها،ولكنها موهبه ايضا كان يمكن ان تندثر،أو تتخبط، ولاتنتج سوى فنا (معدلا) عما تم وراثته،وليس بذلك التراث العظيم،من التأليف والأبتكاروالأضافة،الذي خلفه نتيجة رعاية وتوجيه أمير الشعراء (احمد شوقي).أو كما وصفه سعيد باشا لطفي اول رئيس للأذاعة المصريه عام 1934 . ( ان محمد عبدالوهاب قصيدة من قصائد احمد شوقي) .
علاماتان في تاريخ الموسيقى العربيه
هما علاماتان في تاريخ الموسيقى العربيه سيد درويش،وعبدالوهاب ،وقبلهما كانت هناك اسماء،ومواهب ،ان حاولنا التعرض لها فسوف نرجع الى تاريخ الغناء العربي من بداية عصر (زرياب) واسمه الحقيقي هو(ابو الحسن على بن نافع الموصلي)،وقد ولد في الموصل عام 789 في عهد (الخليفه المهدي في العصر العباسي (789)وقد مات في قرطبه عام (845) في عصر(ألأندلس)
سيد درويش ودوره
يكتب حاليا تاريخ الموسيقى العربيه وفن الغناء عموما، ابتداء من عصر.سيد درويش الذي ولد في 17 مارس عام 1892،وينسب اليه انه مؤسس فن الموسيقي العربيه،وليس فقط باعتباره المجدد لفن الموسيقى العربيه.وترتيبا على ذلك فقد اطلقت عليه تلك الألقاب، وحصل في مصر على لقب (فنان الشعب) .االتحق سيد درويش ،وهوفى الخامسة من عمره بأحد الكتاتيب ليتلقى العلم ويحفظ القرآن،وبعد وفاة والده وهو فى السابعة من عمره، قامت والدته بإلحاقه بإحدى المدارس، وبدأت تتضح موهبة درويش الفنية من خلال مدرسته وحصة الموسيقى، وتفتحت موهبته، من خلال انخراطه في الحياة الشعبيه، بكل واقعيتها ،من حيث التقاليد المرعيه ،والحياة اليوميه لكل فئات الشعب من حيث الجانب الأجتماعي لحياة الأسره ،ومطالبها، وطبفاتها ,مستوياتها وتطلعاتها ،كذلك للوجود الأجنبي سواء الأحتلال منها،أو

ينسب اليه تأسيس فن الموسيق العربيه
للوافدين لمصر ،والمقيمين على ارضها،والمشاركين في مؤسساتها الأقتصاديه،سواء كانوا مستثمرين أو عاملين. ثم في الحركة الوطنيه وزعمائها في تلك الفترة ابتداء من مصطفي كامل الى سعد زغلول ، وقد لحن ( يابلح زغلول) و(قوم يامصري مصر دايما بتناديك )و( بلادي بلادي لك حبي وفؤادي) قد استطاع من خلال موسيقاه ان يترجم كل ذلك عبر فنه، سواء بتطوير فن الموسيقى والغناء من نقله، من حيث التأثير التاريخي التركي او الفارسي ،الى فن جديد تلعب فيه الموسيقى بجانب الكلمة ،دورا رئيسيا ،لا يقتصر على مصاحبة المغنى او المطرب في ترديداته اللفظيه وتكرارها التقليدي،الى الأرتباط باللحن المحدد للنظم او للكلمات.لقد صنع طابعا مصريا شعبيا، وقام بتفصيله من خلال النغم الموسيقى وجعله لغة للشارع ومعبراعن حال المصريين، بعدما كانت الموسيقى ،نوعا من الترف يقدم فنا خاصا بالسرايا ت والنخب ذات الأصول الأجنبيه التي ترتهن بالطابع التركى ،كما أنه أضاف إليها إضافات، وعمقا بعيدا عن طابع الارتجال والتطريب الذى ساد الألحان من قبله،
لقد تناولت الحانه صورا ملازمة للحياة الشعبيه ،وللطوائف العماليه. وقد لعبت موسيقاه دورا كبيرا في نجاح مسرحيات نجيب الريحاني.،ومنها ( ولو) وعلى الكسار،ومنها (احلاهم ) ومنيرة المهدية ومنها (كلها يومين). كما تطرقت الحانه الى فن الأوبريت ومنها (شهرزاد) و(العشرة الطيبه) بالأضافة الى العديد من الأغاني التي مازالت تعيش حتى اليوم ومنها ( طلعت يامحلا نورها ،واغنية زوروني كل سنه مره). لم يكن سيد درويش مجرد ملحن بالمعنى التقليدى، بل باعث ومجدد ومؤسس للموسيقى العربية، وقام بصنع طابع مصري شعبي من الموسيقى وحولها الى لغة للشارع ومعبرة عن حال المصريين، بعدما كانت الموسيقى زمنا تعد فيه فنا يعزف في القصور ولا تتجاوب معه سوى النخب ،والتفافها حول ذلك الطابع التركى، كما أنه أضاف اليها انغاما ساحرة من خلال اّلات جديده ،مهد لها، بتوليفات مبتكره ،وأحدث فيها عمقا مدروسا يبعد عن اسلوب الارتجال والتطريب الذى ساد الألحان من قبله،واستطاع بذلك فصل الموسيقى العربية عن القالب التركى،وأبرز الملامح المستقلة فى الموسيقى العربية، وحولها إلى مقامات وجملا إلزامية، ما جعل الملحن يأتى فى المرتبة الأولى بعدما ظل مهمشا يقتصر دوره، على شكل ثانوى بجانب المطرب.
عبدالوهاب ودوره
لا ينبغي لنا ان نطرح مفاضلة بين سيد درويش،وعبدالوهاب ،فكلاهما عملاق في تاريخ الموسيقى العربيه، وكلاهما مجدد وخلاق، ومساهمنه جوهرية في مدى العطاء، ويمكن القول انه لولا سيد درويش ،ماكان عبدالوهاب، ولولا عبد الوهاب لأختنقت من الموسيقى ايقاعاتها الجماليه الحديثه ،بفعل انغلاقها وانكفائها على ذاتها،دون تجديد أو

لبدايات تاريخ فن الغناء العربي
تطوير،وبذلك تتخلف عن حركة وتطور الزمن المعتاده .عبدالوهاب تحت رعاية احمد شوقي ،اتجه الى حركة التجديد،وكما يعرف عن حركة النهضة في المجتمعات المختلفة ،فانها تنهل من الثقافات المختلفة، ولذلك فان نهضة المجتمع تعنى في بداياتها بحركة (الترجمه) التي تتطلع الى المعرفه والثقافة،والتنوير من خلال الدراسات والأبحاث حول القضايا المختلفة،واجنهادات المفكرين حيالها .،والأنفتاح على الثقافات المختلفه واختيار ما يتلائم،مع ثقافة المجتمع،وما يستهدفه من غايات ،وهو أمر شديد الحيويه لمعنى التقدم. عبدالوهاب هو الثقافة الفنيه،والدراسة العلميه ،وهو ايضا الأجتهاد في صنع المستقبل،لا الدوران في اطار الواقع ،وماتم الحصول عليه من الميراث القديم . لقد التحق عبدالوهاب بمعهد الموسيقى الشرقيه( العربيه الآن) ،وتفوق على الدارسين ،واتجه نحو التجديد في فن الغناء ،من خلال عدم المط والتطويل ،مما اثار المشرفين على المعهد ضده ،حيث انهم يتمسكون بالتراث القديم ، ولذلك تم فصله من المعهد. التحق بمعهد ايطالي للموسيقى في القاهره ،وهناك ادرك فن التأصيل للعمل وأهمية البروفات الى حد ان يكون مستواك في الأداءبعد البروفات 200 %،تحرصا من عوامل متعددة بينها التوتر ان ينخفض مستواك فتكون في مأمن ،حيث تحتضنك نسبة 100& وبذلك تضمن نجاحك. تعرف عبدالوهاب على انتاج اساطين فن الموسيقى في الغرب والشرق،ونهل من ينابيعها، وقال في تصريح له (أنني على موعد يومي لابد ان التزم به مع انسان مهم في حياتي الفنية ،وحين سألوه عنه قال (انه محمد عبدالوهاب) أي انه لابد ان يختلي بنفسه، لكي يتأمل ماذا يمكنه ان يقدم من نغمة جديده.وكانت تلك الرغبه الملحة في تقديم الجديد ،هي سر بقائه على القمة في فنه. قد يندهش القارئ حين يعلم ان عبدالوهاب لم يكن راضيا عما يسمي (عبدالوهاب القديم ). وقال في حوار مع المذيعه الراحله ( ليلى رستم) في احد برامجها في بيروت ،وقد اندهشت لهذا الرأي ،وابلغته بوقائع من خلال ممارساتها بأعجاب الكثيرين بأعماله القديمه ،ورد قائلا (والله دا شيئ يسعدني). كما انه أدلي في نفس الحلقه التي اجرتها معه باعترافات حول نقله لبعض الألحان الأجنبيه الى موسيقاه ،ومنها افتتاحية اغنية ( أحب عيشة الحريه) وانها مأخوذه من قطعه للفنان العالمي ( فيردي) واغنية أخرى بها مازوره اجنبيه وهي اغنية ( ياورد مين يشتريك). تحدث عن (قانون حماية الملكيه الفكريه للمؤلفين والملحنين ) وقد كان رئيسها في فترة من الفترات،وماهو المسموح والمفروض،والفرق بين النقل والأقتباس والتأثير،وحدود كل منها.
الحان عبدالوهاب الخالده
قال عبدالوهاب في احاديثه مع ( سعدالدين وهبه) في حلقات (النهر الخالد) انه يؤمن ان الاعمال التي تعيش هي الأعمال التي لها وزن فكري،وثقافي سواء بالنسبة للكلمة أو للحن. وهو مقياس له تقديره واحترامه ،ونتذكر من اعمال عبدالوهاب ( الكرنك،والجندول،وهمسة حائره ،ومجنون ليلي والنهر الخالد، وأنشودة فلسطين ،وكليوباترا) وغير ذلك ما يصعب حصره في تاريخ طويل يمتد الى أكثر من سبعين عاما ،وهو يتربع على عرش الطرب سواء من خلال صوته المتفرد أو الحانه ذات الاعجاز ،ومنها للعديد من المطربين والمطربات ،وفي مقدمتهم سيدة الغناء العربي ( أم كلثوم).
والسؤال .. لماذا لم تمتد مدرسة عبدالوهاب ؟
كان لسيد درويش مدرسة ،وأول من تأثروا به كان عبدالوهاب ذاته، وفي الحانه الأولى لمسات من سيد درويش ،ومن يتابع عبدالوهاب يتذكر الحان مثل ( فيك عشرة كوتشينه في البلكونه) وهي تتجاوب مع الرتم الشعبي لسيد درويش ،والحانه مع فوزى الجزايرلي، كما تأثر بفن سيد درويش ملحنون كبارا مثل الشيخ زكريا احمد ورياض السنباطي ،ومحمدالقصبجي ،ومن بعدهم احمد صدقي وسيد مكاوي.الا ان عبدالوهاب بعد ان تعرف واقترب من (أحمد شوقي) تفتحت عيناه واذناه على رتم جديد من الموسيقي استهواه ،وعكف على دراسته،وهو يروي أنه بعد ان استمع الى موسيقى الرقصة الشهيره (الرومبا) وكان قد انتهي من تصوير فيلم (الورده البيضاء) الا انه أخذ أغنية بشارة

نبرة مختلفه.احساس عارم .قوة تعبير فياضه
الخوري(جفنه علم الغزل ) و استعان بنغمة تلك الرقصه ،ووضعها في اللحن ،وأقحمها في الفيلم، فالمتعه الفنيه هي شاغله حتى وان كلفته تضحية مالية في المزيد من الأنفاق . كان يجد ويبحث وراء الجديد ،سواء في اللحن أو في الآلآت.وقد قدم لعالم الغناء اصواتا كثيرة ،وانتج لها افلاما وقدم الحانا،ومن هذه الأصوات . (محمد أمين ) وقد لحن له( نور العيون يا يشاغلني) وظهر معه في فيلم ( ممنوع الحب) ، وجلال حرب ،وقد انتج له فيلم ( الحب ألأول) مع رجاء عبده، ومن اشهر اغاني هذا الفيلم أغنية ( البوسطجيه اشتكوا ،ومحمد عبددالمطلب،وقد انتج له فيلم ( تاكسي حنطور)،ومن اشهر اغنيه (يانايمه الليل وأنا صاحي) وسعد عبدالوهاب (ابن شقيق عبدالوهاب الشيخ حسن) وقد أنتج له فيلمين هما (بلد المحبوب) مع شريفه ماهر واشهر اغاني الفيلم ( حلوين أوي بنات البندر) والفيلم الثاني ( سيبوني اغني) وأشهر اغاني الفيلم اغنية ( ياورد يازرع ايديه) ، ولكن كل هذه الأصوات توارت بعد ذلك لسبب رئيسي ،هو أن نغمة الصوت قريبة الشبه بصوت عبدالوهاب،ودائما الأصل ابقى وأصلح، وكان اّخر تلامذة عبدالوهاب (عبدالحليم حافظ) وبعده كان (محمد ثروت).ولكن عبدالحليم حافظ كان يتمتع بأكثر من عامل للأستمرار ،وايضا للبقاء .الأول هو اختلاف النبره ،فهو صوت جديد لا يتماثل مع أحد ، وقد جاء بعده من يتماثل مع عبدالحليم ولم يبق وسرعان ما اعتزل بعد فيلم واحد،وهو المطرب ( كمال حسني) وقد انتجت له ماري كويني فيلما واحدا وهو (ربيع الحب)1956 .والعامل الثاني في نجاح عبدالحليم واكتساحه بجانب النبرة المختلفه يقول عبدالوهاب انها قوة التعبير لديه، لدرجة ان ليلي مراد قالت (انا أصدق عبدالحليم حين يغني) ويقول عبدالوهاب ( انني استمتع بتمثيل عبدالحليم مثلما استمتع بغنائه ) فهو متدفق الأحساس ومن ثم التعبير.
وأخيرا
استمر تراث سيد درويش ،وحافظ عليه من خلفوه ، زكريا احمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ثم احمد صدقي وسيد مكاوي،واجتهدوا من خلال مدرسته ،التي يعايشونها ،لكن عبدالوهاب كان يمثل الموسيقي المثقف،والذي يتابع فنون الموسيقى خارج حدود الوطن،ومن ثم فان الموهبه وحدها لاتكفي في عالم يتحرك ويتجدد،ولكي تستمر مدرسة عبدالوهاب في البحث عن الجديد على الدوام ،لابد لمن يريد اللحاق بها ان ينظر دائما للأمام كما كانت وصية احمد شوقي (لا تنظر خلفك ابدا يا محمد) .