عبد الحليم حمود – الإبداع بين الأدب والفنون الأخرى

عبد الحليم حمود للحصاد:

“الأهم هو ذلك الجزء الكشفي في الكتابة، حيث البحث غير الممنهج، الذي يفتح كوّات في الجدران التي نجهل ما تخفيه”

“لا أؤمن بدور الشعر في أي عملية تغييرية، إصلاحية.”

“أسعى لاستفزاز القارئ، وحثّه على التفكير بما لا يريد التفكير فيه، وذلك بمواجهته بالأسئلة، والمعضلات، والمعادلات التي لم يعتدها.”

يحمل الشاعر والفنان عبد الحليم حمود مشروعًا فكريًّا وجدانيًّا ويعبّر عن تجربة لافتة في المشهد الثقافي اللبناني. وهو لا يكتفي بالكتابة بوصفها وطن الشاعر ومسكنه الذي يعيش فيه هواجسه وأفكاره، بل ينفتح على عوالم أخرى يجمع فيها بين الأدب والفنون بما فيها الفن التشكيلي  والمسرح والرسم الكاريكاتوري…

 يكتب الشاعر والفنان اللبناني عبد الحليم حمود الكتابة الشذرية والجمل المكثفة التي تمنح المعنى الخفي وهجًا خاصًّا

عبد الحليم حمود

ويتّبع مسارًا جماليًّا مشتغلًا على اللغة التي يعدها غاية تؤدي إلى نقطة الوصول. إنه الفنان الذي  انطلقت تجربته من عالم جواني يعبر من خلاله عن الحالات الإنسانية وتفاعل الفرد مع محيطه، طارحًا الأسئلة الجمالية معتمدًا آليات الكتابة التي تحمل طابعًا خاصًا. كذلك ننتبه إلى تحول الرواية عنده إلى مشهد  وفيلم سينمائيّ، إننا أمام تجربة انفتاح الأجناس الأدبية التي تشغله ويوليها العناية والاهتمام.

الحصاد التقت الشاعر والفنان عبد الحليم حمود في بيروت وكان لها معه الحوار الآتي حول تجربته في الأدب والفن:

“الحصاد”: ماذا عن تجربتك الشعرية وما هي أهمية الشعر بالنسبة إليك؟

“عبد الحليم حمود” صدرت مجموعتي الأولى منذ ثلاثين عاماً تقريباً، بأسلوب يبتغي المفارقة، واللعب على الكلام، والومضة الخاطفة، ناسفاً لأي شبهة رومانسيّة، أو لهاث خلف القافية، أو تقليد لأي من شعراء الحداثة الذين عرفتهم آنذاك. نقدياً كتب عني الشاعر الراحل زهير غانم، بأن تجربتي تحاكي الهايكو الياباني، في حين لم أكن قد سمعت بهذا النوع الأدبي، ثم استضافني الشاعر زاهي وهبي في قناة المستقبل، للحديث عن الديوان، ومشاكساته، فصنّفني ضمن الخط الذي يسلكه فادي أبو خليل، ويحيى جابر، على الرغم من الفوارق بين الأسلوبين. كذلك كتب القاص الياس العطروني مقالة عنّي وعن فادي أبو خليل كنموذجين للشعر المغاير. اليوم أحاكم مجموعتي الأولى بشكل حاسم حازم، فلا أبقي سوى على شذرات قليلة منها.
“الحصاد”: ماذا قدمت إليك الكتابة على مدى أعوام من التجريب والتمرس؟

“عبد الحليم حمود” سمحت لي الكتابة باكتشاف المخبوء من شخصيتي، وشخصيات الآخرين. الحبر وسيلة إبحار في تلك المناطق المعتمة من الدماغ. الأهم هو ذلك الجزء الكشفي في الكتابة، حيث البحث غير الممنهج، الذي يفتح كوّات في الجدران التي نجهل ما تخفيه. لكن أيضاً هناك مسار اللغة بذاتها، حيث تطوّرها، وتبلورها، وتقشّفها، وصولاً الى الامّحاء البرّاني، بغية توليد الجواهر الجوانية التي تلمع على إيقاع النبضات، وليس بحسب القواعد النقدية.
مع الوقت، أصبحت اللغة لعبتي الأنيسة، فلا امتطيها كدابّة لتوصلني نحو غايتي، بل هي بذاتها نقطة الوصول.

“الحصاد”: تشتغل على انفتاح الأجناس الأدبية والفنية ونخص هنا السينما الشعرية والفن التشكيلي كيف تقيم هذه التجربة؟

“عبد الحليم حمود” تنوّع الفنون، يعزّز الأسلحة، ويشعل الحواس، فالعين التشكيلية تساعدني في بناء الفضاءات المكانية في رواياتي، والروح الشعريّة تعمّق الوصف في مشهديتي السينمائية، واللوحة تعيد مسرحة قصيدتي. هكذا أغرف من أكثر من ينبوع، فلا أعرف العطش أبداً.

“الحصاد”: كيف يمكن للشاعر أن يمثل دور المصلح في مجتمع ووطن تتحكم به أياد أقوى منه؟

“عبد  الحليم حمود” لا أؤمن بدور الشعر في أي عملية تغييرية، إصلاحية، وغالباً ما أتهكّم على هؤلاء الذين يتعاملون مع الفنون والآداب كرسالات اجتماعية. ربما هذا دور المعلّم، والمدير، والضابط، والواعظ. أما الشعر فلا أراه سوى أداة هدم، وتفتيت، ونسف، وتغيير، والأهم أنه وسيلة حفر. ليس الأمر فعل هدم بالمعنى العبثي، إنما هو تسريع لفعل النهوض، والقفز فوق العادات، على أمل تحقيق الأفضل، والأغرب، والأكثر ادهاشاً، ففي التنميط موت غير معلن.
“الحصاد”: ما هو الاختلاف الذي تحقق في كتاباتك منذ ديوانك الأول وحتى اليوم؟

“عبد الحليم حمود” أتوقّع ان لغتي اليوم أشبه ما تكون بمرآة للفكرة النابعة من دماغي، فلا شوائب تشوّه المعنى والمقصد، في ذلك المسار بين نقطة انطلاق الفكرة، ونقطة وصولها على الورق. أكثر من ذلك أقول بأن بعض ما أكتبه اليوم، هو أفضل وأجمل مما رسمته في رأسي ما قبل فعل التحبير، أي أن الكتابة كفعل آلي تنفيذي، تولّد صوراً وأفكاراً، وتعيد إرسالها الى الدماغ، لتجبره على طهيها، هكذا مثل الألم الذي يتولد في أي جزء من الجسم، فتقوم النواقل العصبية بإخبار الدماغ بذلك الألم، جابرة إياه على تحليله، والافتاء بمساره ومصيره. كذلك هو حال الحبر حين يتشكل رسماً كلامياً، يفرض على الدماغ بأن يتشارك وإياه العملية التوليدية.

“الحصاد”: كيف تصف علاقتك ببيروت وارتباطها بالشعر؟

“عبد الحليم حمود” شخصياً لستُ من الشعراء المجبولين بالياسمين، وبرتقال البساتين، والريح المتغلغلة في مسام الوديان. قد ألجأ لهذه الصور، لكن من منظار مديني، فأنا ابن شرعي لضواحي العاصمة، بكل ما فيها من أبنية ومحال، وصروح تربوية واستشفائية. مع ذلك لا بد للشاعر بأن ينجبل بأتربة الريف، وغبار الطلع، وأصوات الزيزان، ولسعات البعوض اأخضر. الأكمل يكمن في ذلك المزيج من التجربة الحسيّة، الموسعة للكتابة الحدسية.

“الحصاد”: أخبرتنا أنك متفرغ للكتابة، إلى أي مدى يبعث ذلك على التأمل والتركيز للإنجاز الكتابي؟

“عبد الحليم حمود” غالباً ما استيقظ لأكتب، ثم أنام على وقع الكتابة عند دقائق الفجر الاولى. بالنسبة إلي الكتابة طريقة للتأمل، والحكمة، وفهم ما يحدث، وتفكيك للألغاز النفسية، كما القوانين الطبيعية. الأمر لا يكتمل من دون الانغماس بالأسواق، وزحمة السير، وضوضاء التلامذة في ملعب المدرسة. لا بد من التزوّد بالطعمات والأصوات والروائح. ايضاً امتلك متسعاً من الوقت لأقرأ أو أنصت لحلقات اليوتيوب، والوثائقيات. لذلكأذهب للكتابة بكامل عتادي، وهو ما يفسّر غزراة إنتاجي بين الرواية، والمقالة، والبحث، وصولاً إلى اللوحة التشكيلية.

“الحصاد”: تعد الكتابة علاجا لكاتبها وللمجتمع. ما هو التأثير الإيجابي للكتابة في القارئ؟

“عبد الحليم حمود” ثمة من يكتب، بغية إرضاء ذاته، ومن يكتب بهدف إرضاء القارئ، بينما أرى أن المعادلة المثلى تكتمل بمزج هذا بذاك، فيتحقّق صدق التعبير، وجدوى الفكرة بالنسبة إلى من يتلقاها. كل هذا يحصل ضمن آلية مرنة من الإرسال والتلقّي، مع تحديثات فوريّة لا ينتبه إليها القارئ. الأمر يحتاج لأجهزة تحسُّس، وإرسال أثيري غير مرئيّ. أما مسألة التأثير الإيجابي في القارئ، فهدف لا يشبع سهمي. على العكس تماماً، أسعى لاستفزاز القارئ، وحثّه على التفكير بما لا يريد التفكير فيه، وذلك بمواجهته بالأسئلة، والمعضلات، والمعادلات التي لم يعتدها.

“الحصاد”:  رحلتك طويلة مع فن الكاريكاتور، ما كانت الأصداء على صعيد التلقي والتقد؟

“عبد الحليم حمود” رسمتُ الكاريكاتور منذ العام 1991، عابراً لكل تمظهراته، السياسية، والفنية، والرياضية، والفلسفية، والطبية. كذلك رسمت البورتريه الكاريكاتوري، وكتبت تاريخ فن الكاريكاتور، كما تطرقت إلى السير الذاتية والفنية لأبرز رسّاميه. رحلة طويلة، كنت في بعض مراحلها أرسم لأكثر من خمس أو ست صحف ومجلات في ذات الوقت. كل هذا من دون أي مواكبة للنقّاد، حيث لم نلحظ اهتماما من قبل النقاد التشكيليين بفن الكاريكاتور، وإذا تكلموا عن ناجي العلي، فمن باب اغتياله ومواقفه وليس فنّه. غياب العملية النقدية، يحبط الفنان الذي يطوّر أدواته، ويغير سياقاته، ويتعمق بدلالاته. لقد مرّ وقت طويل، ولم ينتبه أحد إلى كل هذا، فرحنا نحن الكاريكاتوريين نشفق على بعضنا البعض، فنكتب عن زملائنا، وهو ما فعلته أما في مقالاتي ومؤلفاتي، كما يفعل الفنان يوسف عبدلكي، ومثل فعل الراحلين بهجت عثمان ومحي الدين اللباد.

“الحصاد”:  صدر لك كتاب الجمر وهو استكمال لمشروعك الفكري الوجداني. إلى أي مدى تمكنت من أن تضم أفكارك وعوالمك وقلقك الوجودي من خلال الكتابة الشذرية؟

“عبد الحليم حمود” في “كتاب الجمر” امتزجَ الشعر بالفكر، لتكون الشذرات ابنة الفلسفة والمجاز في آن، وهي سمات الكتابة الشذرية منذ ولادتها إلى أن أصبحت كياناً مستقلاً، متبلوراً عند سيوران وبيسوا وأنسي الحاج. تسمح الشذرة بأن نسلك الطريق المباشر في حين، والإيحائي في حين، والغامض في أحيان. وفي مرّة التعبير بجملة، وفي مرّة التعبير بفقرة، وهو ما لا يقبله الشعر، ولا الفلسفة. من هنا حمّلت ومضاتي أسئلتي وهواجسي وقلقي الوجودي. عن الولادة، الموت، السعادة، القهر، المرض، الخيبة، وألعاب النفس الزلقة التي لا نحسن القبض على أطرافها. “كتاب الجمر” بداية سلسلة من الكتابة الشذرية، حيث شرعت بـ “كتاب الرماد” كفعل يستكمل مشروعي الفكري، والوجداني، بآراء في الله، والميثولوجيا، والأنثروبولوجيا، وصولاً الى أحوال القلب، وتقلباته.
من الطبيعي أن أبدأ بالجمر، وأذهب نحو الرماد، فبرأيي الرماد اختمار الحكمة، وهو تجسيد ملموس لنثارها. منذ بدايتي مع الكتابة الشعرية، اخترت الجملة الأسرع، تلك المقلّمة، المثقّفة، وكأن المحو صنعتي وغايتي، وكأننا ككائنات نكتمل في الموت، كحالة اختفاء، ليبقى الطيف، والذكرة، والرماد، جوهر وجودنا. أنا راضٍ عن تأخرّي في إصدار هذا العمل، فمن الخطأ الغوص في بحر الحكمة والسؤال، قبل ان أتذوّق شيء من كل شيء، فلا اكتفي بالتنظير النابع من معارف نظرية.

مع ذلك جرى امتحان لتلك الشذرات حين نشرتها في كتبي الروائية والشعرية والفكرية، كما نشرت بعضها على وسائل التواصل، لتكون محل جدال، استفيد منه لتقييم المشروع الشذري الذي أدخله بكامل عدّتي وعتادي. لذلك لن تتشابه شذراتي في كتبي التالية، محاولاً ترك بصمات في الشكل اللغوي، والموضوع الذي أقاربه، أو أعاقره.