ما الذي تفعله اسرائيل في غزة ؟ هل هي حرب ؟ بالقطع لا فللحرب قوانينها وأخلاقياتها التي تمارسها جيوش لكن ما يحدث في هذه المنطقة هو مقتلة كبيرة لا علاقة لها بكل الحروب التي كانت عبر التاريخ بل هي حفلة انتقام هي الاكبر منذ عهد القبائل القديمة وصراعات العهود الأولى للبشرية وتوحشها قبل أن تتشكل الدول وتحاول أن تنظم حتى عمليات القتل .
حتى كتابة هذا المقال لا زالت الصدمة تخيم على كل المتابعين لما يحدث فقد تجاوز الأمر كل الحدود وأصبح عصيا على الوعي وعلى الفهم كأن ما يجري على سكان القطاع هو تداول أيام الجحيم ، الناس تهرب على غير هدى ، تجري بين الجثث التي تفترش الشوارع بلا نهاية يهربون بينما تتساقط الابنية حولهم …ينفضون الغبار من على وجوههم ويواصلون الجري دون أن يعرفون أين يلجاون وإلى أين تأخذهم النهاية …يطاردهم الموت بلا توقف يصطاد بعضهم والباقون ينتظرون دورهم ، منهم من يتمنى نهاية سريعة تخلصه من هذا العذاب …يا الله كيف يصبح الموت في غزة أمنية المتعبين …!
غزة هي المكان الاصغر في العالم وهي شريط ساحلي بطول واحد وأربعون كيلومتر وعرض يتراوح بين ستة وإثنا عشر كيلو متر تجعل مساحتها فقط ثلاثمائة وستون كيلو متر مربع تتلقى أكبر قدر من الصواريخ والمتفجرات التي تكفي لتدمير جغرافيا أوسع كثيرا من مساحتها التي لا تكاد تظهر على الخريطة إذا بات واضحا أن اسرائيل تصفي حسابا عسيرا مع التاريخ ، تاريخها المتصادم والمتصارع مع هذه المنطقة والذي بدأ مطلع خمسينات القرن الماضي بعد النكبة مباشرة .
أكثر من شهرين وغزة لا تتوقف عن تلقي ضربات هي الأعنف في كل الحروب بإستثناء أسبوع الهدنة الذي تمكن فيه طرفا الصراع حماس واسرائيل من أخذ استراحة شابها التجهيز وكانت غزة تتحضر لإستكمال الحريق والموت ويا له من موت سكن كل الشوارع وكل البيوت وكل المقابر وكل المستشفيات وكل المدارس وتجمعات النزوح عندما ظنت الناس أن هناك مراكز إيواء تقد شكل لها حصانة أو ضمانة للنجاة فقد كان الأمر محاولة للهروب من الموت لمعانقة الموت .
مربعات سكنية كاملة يتم مسحها وعمارات سكنية تتساقط على من فيها ولا يهم الرقم الذي يسقط أو جنس الذين يسقطون نساء وأطفال ظلت نسبتهم ثابتة تشكل ثلثي من تقتلهم دون أن تتغير هذه النسبة وفي هذا ما يجعل التفكير أبعد كثيرا من حرب عادية مهما بلغت وحشيتها فما يجري هو عملية إبادة جماعية واقتلاع من الجذور والدفع بإتجاه إغلاق صفحة غزة وللأبد حتى ولو تطلب الأمر قتل جميع سكانها أو تهجيرهم واستدراك ما فات اسرائيل أن تنجزه في العام 1948 لتبقى غزة شوكة في الحلق.
الصادم في المقتلة الحاصلة في غزة هو الصمت الدولي على ما يجري كيف للعالم الذي رفع شعارات حقوق الإنسان ولاحق دول العالم الثالث وهو يفتش عن خروقاتها في هذا المجال والآن تقوم اسرائيل بتمزيق كل تلك الوثائق التي اجتهد العالم في كتابتها وأمام اعينهم جميعا متكئة على صمتهم كلهم هذا الصمت الذي يشكل أزمة للضمير الإنساني الذي يقف عاريا دون ورقة توت تغطيه ليعيد طرح كل تساؤلات السياسة وقوانينها وأعرافها وتقاليدها وأخلاقها وطبيعة العلاقات بين البشر بعد أن مرت البشرية وعلى الخصوص أوروبا التي عبرت حربين طاحنتين وكتبت بعدهما ما يكفي من الإتفاقيات التي حملت كل القيم الإنسانية وها هي تضبط متلبسة بإزدواجية المعايير بلا أن يرف لها جفن وحين يتعرض أي مسؤول لسؤال عن حركة حماس يسارع بالإجابة : إنها حركة إرهابية …لماذا ؟ لأنها يوم السابع من أكتوبر قتلت الأطفال والنساء ….وماذا عما تفعله اسرائيل من قتل أطفال ونساء ؟ يتلعثم المسؤول ويختبيء خلف تأتأة تعكس جبناً وتمييزاً مخجلاً بين البشر …هذه هي الحقيقة المرة فيما يحدث .
كيف لدولة تبدأ حربها على المستشفيات ؟ وكيف لعالم يقف متفرجاً أمام حدث كهذا ؟ ففي الحروب خاصة تصبح المستشفيات أهم شيء بالنسبة للجرحى هل لنا أن نتصور أن تجرى عمليات جراحية بلا تخذير ؟ لا أحد يتصور ذلك ولكن هذا هو واقع الجرحى والمستشفيات والقطاع الصحي غزة فصراخ الناس وصل حد السماء تكدس الجرحى في المستشفيات المقصوفة والتي انهدم جزء منها وانقطعت عنها الإمدادات الطبية امتلأت الغرف والممرات بالجرحى وأصبح الأطباء يجرون عملياتهم في باحات المستشفى الخارجية بلا تعقيم وبلا تخذير ، هكذا تحت الغبار والشمس والذباب المنتشر حول رائحة الموت والدم المشهد أكثر رعبا مما نتخيل .
البنايات المهدمة تحولت إلى مقابر حيث الجثث المكدسة تحتها في ظل انعدام معدات الإنقاذ وقصف تلك المعدات واستهداف طواقم الدفاع المدني وإمكانياته القليلة أصلا بسبب الحصار الطويل إذ باتت الناس تحاول إخراج الجثث المكدسة من بين مئآت أطنان الإسمنت ولكن دون جدوى ، رائحة الموت التي يستخدمها الروائيون في روايات الرعب أصبحت حقيقة تملا شوارع غزة وبناياتها وسمائها التي تحولت إلى شديدة السواد في عيون الغزيين .
مأساة لا يمكن للورق أن يصفها ولا المقالات أن تكتبها ولا يوصفها الحديث على شاشات التلفزيون ، فقط من يعيش بين الجثث ويشم رائحتها ورائحة الدم يعرف ما الذي يحدث في منطقة يبدو أن التاريخ يتواطأ للقضاء عليها سواء بالصواريخ أو بالدعم المباشر أو بالتواطؤ المباشر أو بالصمت المباشر وإطلاق يد اسرائيل ضد شعب تقوم بإحتلاله خارج كل القوانين الدولية وتوغل في دمائه إلى هذا الحد .
بعد هدنة أسبوع أواخر نوفمبر عادت الحرب بصورة أكثر بشاعة وعاد الإنتقام بأكثر صوره توحشا من آلة حربية تمتلك كل إمكانيات الدمار والتصريح الدولي المفتوح والكراهية للآخر ولو كانت حرب عادية بين قوميتين لكان من السهل ايجاد حلول وسطية لكن ما يحدث هو عملية بين صراع طاحن بين قوتين أو هكذا يظهر بصورته المبسطة اسرائيل وحماس قررت الاولى أن تنهي وجود الأخرى بينما قررت الثانية المسلحة بأيدلوجيا الدين أن تبقى مهما كلف الثمن ، هكذا تبدو للوهلة الأولى إذا ما خففنا أحمال التاريخ وإرث الكراهية الإسرائيلي لقطاع غزة وإلا بماذا يفسر هذا القتل للأطفال والنساء وهذا الدمار لكل ممكنات الحياة من مياه وكهرباء وغذاء ودواء ومنع إمدادهم بأي شيء وتجويع متعمد بما فيها حليب الأطفال ومن يسال عن علاقة حليب الأطفال بالحرب ضد حركة حماس عليه أن يقرأ الأمر بشكل مختلف تماما فالأمر لا يتعلق بالحركة الدينية بقدر ما يتعلق بالناس جميعا وبالتاريخ والجغرافيا لهذه المنطقة .
الكارثة الإنسانية الأكبر تتجسد بكل معانيها في غزة ، شيء اكبر من الكابوس يعيشه الناس ، طفلة جريحة تسأل الطبيب وهي تصرخ قائلة ” عمو هذا حلم واللا جد ؟ ” كان بكاؤها كفيل بأن تنهمر دموع السماء ، إمرأة بعد قصف بيتها الذي تركت فيه طفلها وهي تبحث له عن وجبة تهرع إلى المستشفى تبحث عن ابن السنوات السبع بعد أن غابت ملامح الضحايا حين سئلت عن مواصفاته قالت وسط نوبة هستيريا من البكاء ” أبيض وشعره كيرلي وحلو ” يا إلهي كل الأطفال في قمة الجمال ولكن البراءة والجمال أصبح يحكم عليهما بالإعدام قصفا في غزة وهذا ليس حلما بل حقيقة التاريخ المتوحش الذي يسير بكل هذا الجنون .
في غزة لا يظهر أن الحرب تأخذ طابعا عسكريا انتقاميا فقط تقوم بها اسرائيل انتقاما مما أصابها في السابع من أكتوبر الماضي بل أن رائحة أخطر المشاريع السياسية تطل بقوة وهو مشروع التخلص النهائي من القطاع وترحيل سكانه ففي البداية قام بتقسيم القطاع إلى قسمين مطالبا سكان الشمال بالنزوح نحو جنوب وادي غزة لكنه استمر بضرب الجنوب بقسوة شديدة مطالبا سكان مناطق الجنوب بالذهاب جنوبا أكثر نحو جنوب الجنوب مدينة رفح على الحدود المصرية واستمر بضربها أكثر ومع استمرارالضرب العنيف للمدينة التي امتلأت أكثر من طاقتها ومع منع المساعدات وإعدام ممكنات الحياة في رفح لن يبق أمام الكتلة البشرية التي تكدست فيها سوى الإندفاع نحو الحدود المصرية كتحصيل حاصل .
الغطاء الأميركي للحرب يزيد من كلفة ضحاياها بشكل كبير من دولة قام تاريخها واستمر بالحرب ويهدد بأكثر مما يتخيل واقع السياسة من ظلام وبات الامر معلقا وبتصريح زمني مفتوح يعني زيادة الكلفة بأكثر مما تحتمله الناس في غزة وما تحتمله الذاكرة البشرية التي لم تغتسل بعد من آثام مآسيها السابقة لا هيروشيما ولا ناجازاكي ولا فظائع الحرب العالمية الثانية التي تجاوزتها فظائع غزة ليس فقط بسبب صغر مساحتها وكثافة النار المكدسة في تلك البقعة بل بسبب غريزة الإنتقام التي تدار بها الحرب وتلك لم تكن في الحروب السابقة وأيضاً بسبب التطور الهائل لأجيال السلاح وأدوات القتل وقدراتها الأكبر من سابقاتها قيل عقود .
كيف ستنتهي هذه الحرب ؟ كيف سيتوقف هذا الدم المسال واللحم المتناثر في الشوارع ؟ كيف يعود للإنسانية وجهها بعد ما لطخته تلك الصور التي ستظل محفورة عميقا في الذاكرة تشكل ندبة على جبين البشرية التي رأت وسمعت وشاهدت كل هذا ولتقف متفرجة بلا ضمير …لتسجل أكثر لحظات التاريخ سوادا …!