تثير التقارير الدولية المنشورة في كبريات الصحف العالمية عن مستوى الدمار في قطاع غزة بل عن الكارثة التي باتت تشكلها وكيفية التعامل معها صدمة تجعل الجميع يتحدث بما يشبه استحالة التعامل معها فقد حولت اسرائيل قطاع غزة إلى أكوام من الركام والأبنية التي يختلط فيها كل شيئ بات التعامل معها إذا ما انتهت الحرب بحاجة إلى سنوات وسنوات طويلة ليس ذلك فقط بل أن التعامل من جهة ما ينذر بخطر يشبه خطر الحرب نفسها .
في هذا العدوان الذي تشنه اسرائيل على قطاع غزة عمدت إلى سحق هذه المنطقة الصغيرة التي يسكنها 2,3 مليون نسمة إلى إعدام كل شيء فيها وبحجة ملاحقة حركة حماس التي شنت قبل أكثر من عام عملية داخل البلدات الإسرائيلية المجاورة للقطاع فقامت بعملية إبادة منظمة لكل شيء ليس فقط المواطنين المدنيين العزل بل جميع ما يشمل البنية التحتية ، قامت بتجريف الشوارع وهدم الإنشاءات لا تشمل فقط المؤسسات الحكومية بل المدارس والجامعات والبيوت حيث تشير التقارير الأممية إلى ما يقارب تدمير 80 % من المباني في قطاع غزة .
أنتج ذلك كميات مهولة من ملايين أطنان الركام وهو يشكل سابقة في تاريخ الحروب على امتداد التاريخ فلم يسبق أن تعرضت بلد أو مدينة لهذا المستوى من الدمار وهو ما بات يتكشف أن اسرائيل لا تحارب بل وضعت كل امكانياتها ومعها امكانيات الولايات المتحدة لجعل الحياة مستحيلة في القطاع بهدف تفريغه وهو ما ترصده المؤسسات الدولية عن ما يشبه الإستحالة لعملية إعادة الإعمار هذا إذا قدر لغزة أن يعاد اعمارها وإذا ما فشلت اسرائيل في دفع سكانها للرحيل .
في شهر أغسطس الماضي أصدرت وكالة بلومبيرغ الأميركية تقريراً عن حجم الركام في القطاع وهو ما قدرته ب 42 مليون طن من الأنقاض وهو رقم مرعب وربما وصل حتى ساعة نشر هذا العدد من المجلة إلى 50 مليون طن فقد كانت العمليات الإسرائيلية تقوم على هدم أحياء بكاملها شملت جميع المناطق السكنية في القطاع وبحسب تقديرات الوكالة قد يستغرق الأمر سنوات عديدة وتصل تكلفته إلى ما يقارب 700 مليون دولار وفي تقديرات أخرى 800 مليون وتقدر بعض التقارير أن الامر يحتاج إلى أكثر من خمسة عشر عاماً ” الحرب لم تنته بعد ” حيث تضع بعض التقديرات عام 2040 ربما تكون قد أتمت العملية وهذا مشكوك به لاسباب كثيرة وربما يمتد الوقت أكثر .
الركام الذي غطي كل مناطق القطاع توزع كالتالي : فقد حل الدمار الأكبر بمدينة غزة ذات الكثافة العالية فقد بلغ في مدينة غزة 15,4 مليون طن ، تليها منطقة شمال قطاع غزة وبضمنها بلدة بيت حانون التي مسحت معظم بيوتها حيث بلغ فيها 8,7 مليون طن ، ثم منطقة خانيونس بلغ فيها 8,5 مليون طن ثم مدينة رفح 2,4 مليون طن حسب أرقام أغسطس الماضي ولم ترد تقارير جديدة لكن الرقم ارتفع بأكثر من ذلك وهو ما يشكل كارثة كبرى .
أما أرقام إعادة الإعمار فقد بثت قناة الكوفية الفلسطينية منتصف سبتمبر الماضي تقريراً قالت أن التكلفة تبلغ 80 مليار دولار ” طبعاً الرقم ارتفع أكثر ” وهو رقم كبير جدا ليس فقط في الحالة الفلسطينية بل على مستوى العالم الذي لم تتعافى اقتصاداته من جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وأغلب الظن أن هذه الأرقام والتي لم تستقر بعد مع استمرار الإبادة العمرانية والمباني حتى هذه اللحظة وبمعزل عن اشارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للحلف الإبراهيمي كممول إذا ما فاز في الإنتخابات لكن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك .
أسطول من الشاحنات يبدأ من سنغافورة ويصل إلى نيويورك لحمل الركام هذا ما تتطلبه عمليات الإزالة أو مائة شاحنة تعمل لمدة خمسة عشر عاماً بلا توقف هذا لو توقفت الحرب في الصيف أي قبل عدة أشهر وربما سيتمدد الأسطول غرباً في الولايات الأميركية ولنا ان نقدر صعوبة المهمة لكن هل الأمر على تلك السهولة بحيث لهذه الشاحنات أن تبدأ بالعمل فيما لو قدر لها ؟ فقد تكمن الصعوبة بما تدفنه تلك الأطنان يجعل من العمل بها امراً بالغ الخطورة .
في الحروب السابقة جميعاً لم تزد مجموع ما خلفته من ركام لم يبلغ 1,5 مليون طن كانت حرب العام 2014 قد خلفت 750 ألف طن احتاجت ثلاث سنوات لإزالتها لكن الرقم الحالي يعتبر خارج الحسابات وخارج الممكن وخصوصاً بما تحتويه من مواد أخرى خطرة ، المهندس أيمن جمعة الذي عمل سابقاً في ازالة الأنقاض يقول : “أشياء كثيرة يجب أن تؤخذ بالحسبان وهي تشكل عوائق اضافية في طريق انجاز المهمة وهي كالتالي ” :
- الصواريخ والمقذوفات التي ألقاها الإحتلال ولم تنفجر وتشير التقديرات إلى 2500 – 3000 صاروخ سقط كثير منها على عمق يصل إلى 20 متراً تحت أرض المبنى الذي تم استهدافه وأن إزالة هذه الصواريخ يحتاج لخبرات دولية متطورة وامكانيات مالية عالية ووقتاً طويلاً جداً وهي مهمة محفوفة بالمخاطر الحسيمة ويمكن أن تتسبب في إعاقة الحياة في مناطق سكنية كاملة .
- جثث وأشلاء الشهداء وتتحدث التقديرات عن رقم ربما يصل ل 20000 وهذا الأمر يستدعي آلية عمل تختلف عن الأوضاع الطبيعية
- التلوث الخطير المحتمل نتيجة لإستخدام الفوسفور الأبيض وغيره من المقذوفات المتفجرة وأيضاً نتيجة لوجود بعض المواد السامة والخطيرة في الأنقاض ذاتها مثل البطاريات وخلافه إضافة إلى المخاطر الصحية الناجمة عن تحلل الجثث .
ومع ذلك هناك أيضاً تساؤلات كبرى تطرح تحتاج إلى إجابات دقيقة عن بعض الأسئلة قبل تقدير التكلفة المطلوبة والزمن الطويل الذي تحتاجه وهي إجابات أكثر استعصاء من عمليات الإزالة مثل أين ستذهب هذه الكميات الهائلة من الانقاض في مساحة صغيرة جداً كقطاع غزة الذي يحتاج كل سنتميتر سواء للسكن أو الزراعة ؟ فلا فائض مساحات يمكن تحويلها لمقابر للركام وبحسب التقييم الذي نشره برنامج الأمم المتحدة ونشره جيرك بيسون في صحيفة الغارديان فقد دمرت اسرائيل 137297 ألف مبنى وخلص التقييم إلى أنه سيكون من الضروري إنشاء مواقع ضخمة لدفن النفايات تغطي مساحة 500 هكتار أي 1235 فدان .
هل يمكن استخدامها لردم جزء من البحر وتوسيع مساحة القطاع ؟ وهل سيقبل الإحتلال بذلك ؟ لأن تلك ستؤثر على انزياح الماء تجاه شواطئ مدينة المجدل والإضرار بساحلها وقد أعلن سابقاً عن رفضه لذلك عندما كان يجري الحديث عن ردم جزء صغير لإقامة الميناء قبالة بيت لاهيا
كيف يمكن تعويض الرمل والكركار اللازم للدفن مكان الحفر الهائلة للمباني والبنى التحتية علماً أن غزة كانت على أبواب أزمة حقيقية في موضوع الرمال اللازمة للبناء والتعمير .
إن القياس على تجارب الحروب السابقة في غزة لن تكون مفيدة هذه المرة كما يقول أصحاب شركات المقاولات بغزة لأن لا شيء يشبه ما سبق لا من ناحية الكم ولا الكيف ولا بيئة العمل ولا القدرات ولا الإمكانيات الذاتية فالأمر يحتاج إلى الإستعانة بالخبرات الدولية في هذا المجال خاصة لإزالة الأجسام والقذائف غير المتفجرة
صحيفة ليبراسيون الفرنسية في تقريرها حول الكارثة تنقل عن خبراء إزالة الألغام التابعين للوكالات الدولية أنهم يستعدون لمواجهة كارثة وشيكة نظراً لكمية الذخائر المدفونة تحت الانقاض التي ألقاها جيش الإحتلال على قطاع غزة وتشير الصحيفة إلى أن كمية هائلة من القنابل التي لم تنفجر لا زالت مدفونة تحت الانقاض وبحسب التقرير فإن واحدة من كل 10 قنابل من الأسلحة التقليدية لا تنفجر عادة ومع رفض الإحتلال الإسرائيلي إنهاء الحرب فإن النزوح المتجدد للفلسطينيين يزيد من خطر وقوع انفجارات لهذه الصواريخ بالعودة إلى أماكن تم استهدافها سابقاً .
الخطر لا يقتصر فقط على وقوع انفجار مميت بل أن التداعيات الصحية والبيئية تبعث على القلق حيث يوجد حوالي 800 الف طن من الأسبستوس تحت الأنقاض وآلاف الجثث فضلاً عن المواد الكيماوية خاصة أن معظم المستشفيات قد تاثرت وبالتالي قد تكون تحت الانقاض آلات مشعة ومخاطر بيولوجية .
لكن منظمة ” إتش آي ” تقول في تقاريرها بأن 14% من القنابل التي ألقاها الإحتلال على القطاع لم تنفجر وهو ما يتجاوز النسبة في الحروب العادية ما يعني أن عدد القنابل التي لم تنفجر تتجاوز التقديرات التي يجري تداولها لتصدر تحذيرها من عواقب وخيمة ستسببها آلاف القنابل غير المتفجرة في قطاع غزة وسط تقديرات أن تكون لها تأثيرات طويلة المدى على الفلسطينيين لأن وجود هذا العدد الكبير من القنابل غير المتفجرة سيجبر الناس على العيش كأن الحرب مستمرة حتى بعد خروجهم من مرحلة الصدمات الأولية .
كان واضحاً منذ بداية الحرب العدوانية على القطاع أن ما تقوم به اسرائيل هو إعدام للحياة فالصراع مع قطاع غزة منذ خمسينات القرن جعل الحرب مع ذلك المكان الصغير حرب إبادة أو كما قال القادة الإسرائيليون منذ مطلع الحرب بأنها حرب وجودية وفي هذه الحرب الوجودية يبدو أن اسرائيل قررت إنهاء ذلك الصراع بميتة واحدة بعد أن مارست على امتداد عقود طويلة ما يشبه الضربات المميتة أو نوع من كي الوعي كما قال الجنرال السابق ورئيس الأركان شاؤول موفاز ولكن المنطقة التي لم تحترف سوى التصدي والتمرد والكفاح لم تستسلم رغم كل الضربات التي تعرضت لها منذ عقود وظلت تكافح بلا توقف وترفع سقف نضالها إلى أن وصل حدا شكل تهديداً هو الأكبر لإسرائيل حين كادت غزة تنزع روح فكرتها في السابع من أكتوبر لتتصرف بكل هذا الجنون رغبة بسحق غزة وإلغاء وجودها ولا يمكن تفسير هذا الدمار واستحالة إعادة الإعمار إلا في إطار هذا التفسير .
ما فعلته اسرائيل هو عملية قطع الطريق على استمرار الحياة بغزة فقد قامت بتحويلها إلى مدينة من الركام وقامت بتلغيمها حتى لا يقترب أحد من أرضها المزروعة بما ألقته طائراتها من متفجرات فهل تنجح في مشروعها التدميري أم أن طائر الفينيق المجسم في ساحة المدينة الذي يرمز لها سيلعب لعبته في إعادة بعثها ؟ لقد تم تدمير غزة مرات سابقاً لكنها كطائر الفينيق تعود من الرماد أو من تحت الركام …تلك هي عادتها كما قال شاعر الفلسطينيين محمدود درويش …. غزة تحيط خاصرتها بالألغام وتنفجر … لا هو موت …ولا هو انتحار … إنه اسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة …..!