أغنية البحارة والصيادين و” سيّدة البحار”
“والآن يا صور/ أيّتها الطعنة الأبديّة في جسد البحر/ والسقطة المستقيمة نحو الفراغ / الذي يملأ الروح/..
آن الآوان لكي أكتب الأغنية/ أغنّي لزهرة فينيقيا المطفأة /
والثريا التي زيّنت شاطئ المتوسط ذات مساء /
وأسقطها طائر العتمة الهائلة”.
كان لسيدة البحار، قصتها مع الصباغ الأرجواني الذي استخرجه أهلها من صدفة الموريكس، والذي يعود اكتشافه إلى اله المدينة ملقرت، كما تقول الأسطورة الفينيقيّة.
الصباغ الذي أصبح مطلب الملوك والأباطرة في العالم القديم. حيث صدّره الصوريون، إلى جانب الأقمشة الملونة والزجاج الشفاف والمصنوعات اليدوية والحرفية والمنتوجات الصوفية إلى مختلف أقطار العالم.
وهذا ما يدل على أهمية الموقع الجغرافيّ للمدينة، ودورها الرائد من الناحيتين الاقتصادية والسياحية.
بُنيت المدينة القديمة على صخرة، وقد اشتق اسمها من الجذر الفينيقي ” صر”، وأطلق عليها أيضاً اسم ” تيروس ” في العهد الروماني.
جزءٌ منها يطل على الشاطئ والآخر على جزر صخرية تُقابله.
وقد طوّرالملك حيرام في عهده بنيتها التحتية، ووصلها بالجزر المحيطة بها، إضافة إلى عدد من المشاريع العمرانية ذات الطابع الأثريّ، فكانت مركزاً تجاريّاً مهماً يربط الشرق بالغرب.
من بحر صور انطلقت سفن الفينيقيين ذات الرؤوس المميزة على شكل حصان والتي تمثل ذيل الدلفين.
سفن بأشرعة بيضاء وصوار ومجاذيف، يحركها البحارة بسواعدهم القوية وزيهم الفينيقيّ الأبيض، وهي تضاهي بجمالها زرقة البحر اللامتناهي.
طوّر الفينيقيون صناعة السفن وعلم الجغرافيا والفلك، ممّا ساعدهم على الإبحار ليلاً.
وقد اشتهر بحارتها ببناء مستعمرات في جميع أنحاء الشواطئ المطلة على البحر المتوسط، وصولاً إلى تأسيس مدينة صور في قرطاج التونسية، وتصدير الحروف الأبجدية إلى العالم.
واجهت المدينة غزوات البابليين الآشوريين وحصار الاسكندر المقدوني الطويل، إضافة إلى الحكم الإسلامي والصليبي والعثماني.
تزيّن المدينة القديمة بساتين الحمضيات والموز،حيث يطالعنا برج مراقبة من العصر الصليبي وبرج آخر على مقربة من المنارة، وهما شاهدان على أهمية المدينة في تلك الحقبة من الزمن.
تتميز صور أيضاً بآثارها وتعاقب الحضارات التي تركت معالمها الواضحة على امتداد الشاطئ، حيث يلاحظ الزائرون بقايا رومانية ومعابد وأقواس غير مكتملة، وتبدو اللمسات الرومانية من خلال الأرصفة والطرقات المزينة بالفسيفساء، إضافة إلى أطلال المرفأ الفينيقي الذي لا زال شاهداً على الماضي، وتبدو على جانبي الشوارع جبانة تتداخل فيها التوابيت الرخامية و الكلسية والبازلتية ذات الأشكال والزخارف والمنحوتات البارزة.
ويقود الطريق إلى الحي المسيحيّ الذي لا زال يحتفظ بأبنيته وأزقته ذات الطابع التقليدي.
دون أن نغفل عن بقايا كاتدرائية صور الصليبية وأعمدتها الجرانيتية الحمراء. إضافة إلى احتضان المدينة لأكبر هيبودروم في العالم.
أمّا الخان الواقع وسط المدينة، فهو يعود للحقبة العثمانية، حيث تظهر إلى جانبه البيوت العريقة، التي تدل على روعة الهندسة العمرانية، وعلاقتها الوطيدة بالأسواق القديمة التي تعود للحقبة الرومانية.
أمّا السيرك فيشبه منشآت السيرك في روما، وهو يتسع ل٤٥ الف متفرج من هواة سباق العربات والخيل.
تتميز المساجد التاريخية في صور بهندستها العمرانية، وأشهرها المسجد القديم والذي يتسم بأعمدته الغرانيتية الحمراء.
وقد أدرجت اليونسكو سيدة البحار في العام ١٩٧٩ على لائحة التراث العالميّ، نظراً لأهمية تاريخ المدينة.
يُعتبر شاطئ صور من أجمل الشواطئ الرملية، حيث يضم الجزء الغربي مجموعة كهوف حفرها الإنسان ويمكن عبور قسم منها عبر نوافذ تطل على الماء،وقد زيّنت الجدران والأرض بحجارة رملية حمراء. ويبدو أن الأعمدة الغرانيتية التي تزين البحر فريدة في العالم، وقد بنت علاقة وطيدة مع الموج والهواء والتراب والحروب المتوالية، وهذا السر لا يعرفه سوى الغواصين المولعين باكتشاف المجهول.
هناك يمكن للزائرين مشاهدة آثار صور الفينيقيّة القديمة الغارقة تحت المرايا المائية، إضافة إلى السلاحف البحرية التي تسبح بحرية أصدافها المعمرة.
إن الجولات البحرية تتم بواسطة مراكب مصنوعة على النمط الفينيقيّ، للتعرف على محمية الطيور والسلاحف.
ونجد الصيادين يبحرون بمراكبهم المتآكلة، على امتداد البحر الذي بنوا معه علاقة وطيدة وخاصة.
وتعتبر محمية صور،من أروع محميات العالم لما تضمه من تنوع بيئيّ، حيث الكثبان الرملية الصفراء، والغطاء النباتيّ الأخضر والشاطئ الأزرق وهي تحمي النباتات المتنوعة وتحافظ على التوازن البيئي.
وفي المقلب الآخر، تعتبر المدينة حاضنة للثقافة والمهرجانات العالمية حيث جمعت نخبة مميزة من الأسماء الرائدة في كافة المجالات.
كيف لا وهي المدينة التي صدّرت الأبجدية إلى العالم ممّا أكسبها دوراً رياديّاً في نشر المعرفة والحضارة.
على الرمل قامت أغانيك،/ على الرمل قامت صواريك، /على الرمل كنا نعمّر في الليل أسوار صور/ لكي تختفي في النهار،/ ونهدم أطرافها كل يومٍ/ لنردم صوت الغزاة/على الرمل أنشدت الفتيات :” جدائلي قصصتُها/ضفائري عفّرتها/ جواهري قد بعتها/ من أجلك يا صور “/ وصور امرأه/ تتهادى على صفحة الذكريات/ وقد أطبقت كفّها فوق قرطاجةٍ ميّته/ فتاةٌ تغني بصوتٍ حزينٍ/ وتقطر من جسمها الهندباءْ/ وتلميذة رفّعتها القذيفة من صفها/ باتجاه السماءْ”.
هذه القصيدة التي استهليت بها المقال أيضاً هي للشاعر اللبناني شوقي بزيع، وهي واحدة من أهم القصائد التي كتبت عن المدينة التي فتح لها الشعر أبوابه على مصاريعها. إضافة إلى قصيدتي صور للشاعر عباس بيضون وشاعر المحكية عصام العبدالله.
فهل لصور أسرار أخرى مخفية تحت بحر آخر سوى أنها ملهمة الشعراء والفنانين ؟
وكيف للكلمات أن تصف مدينة عابرة للزمن والحروب وعواصف البحر الغاضب؟
يبدو أن سيدة البحار، ألهمت شعراء الجنوب اللبناني، فكانت الصخرة التي أسندت ظهورهم المتعبة من الحرب والدمار على قراهم المنكوبة. الصخرة الموازية لعلماء جبل عامل.
كتب لها الشعراء المذكورون بعد أن وجدوا فيها حلم المدينة العائمة فوق بحر من الأسئلة.
هم الذين سكنوا في القرى المجاورة وراقبوا سواحلها من بعيد، وشاهدوا الشمس تهوي في بحرها كل مساء تاركة لهم خواتم من دموع.
” هل تهمسين بكلمة .. هل تحطمت على فمك صدفة ؟هل ارتعشت عظامك لحظة، أم الدمعة الأخيرة تقرع في حجر القلب. أنت صور التي سقطت من جيب التاريخ، كيف تبقين على الرمال كالعلبة الضائعة، من يحملك ثانية إلى البحر
من يحمل شجرة إلى شوارعك المسقوفة.. نرى الدماء تنزل من العصي، والسكاكين وورق اللعب لكي تبقي، إلى أن يصل التيار إلى أن يلامس قلبك”.
التوقيع : عباس بيضون.
أمّا عصام العبدالله فيتغنى بها قائلاً:”
“هَايْ صُورْ/ شِبَّاكْ فَاتِحْ عَ الْغَرِبْ / تَـ يْنَسِّمِ الرِّيحِ الطَّرِي/ وِيْفَتِّحِ كتَابِ الْقَلِبْ/ هَايْ صُورْ..
مَوْجِه مُفِيْدِه وَاقْفِه مِنْ وَقِتْهَا /عَ حَفِّةِ الْوَقْتِ اللّي عَمْ يِمْشِي مِنْ فَوْقهَا وْمِنْ تَحْتها / وْبَيْنَا وْبَيْنَا / الْوَقِتْ عَمْ يِمْشِي/ وْهِي وَاقْفِه بِتْوَدّْعُو/ بِتْلَوِّح بْشَجَرِ الْحَكِي / بِتْسَمّْعُو وِبْتِسْمَعُو/ هايّ صور..”.
صور وهي أقدم مدن العالم، شبه جزيرة محاطة بأطياف التاريخ وغرائب البحر، فينيقيا الحرف المصدر إلى خرائط العالم الحديث.
أيقونة شاطئ المتوسط المشرع على الثقافة والفن والتجارة والمراكب البحرية المحملة بغلات الصيادين والبضائع الملونة.
ويُشير العهد الجديد من الكتاب المقدس بأن كل من يسوع والقديس بولس الرسول زارا هذه المدينة التي كانت وردة المتوسط الأكثر ندرة.
يقول اليعقوبي:” صور هي مدينة السواحل، وبها دار الصناعة، ومنها تخرج مراكب السلطان لغزو الروم، وهي حصينة جليلة، وأهلها أخلاطٌ من النّاس”.
ولو أردنا أن نضيف عليها زمناً جديداً ستدلنا أصدافها الحمراء على التاريخ، حيث تخرج عرائس البحار بدمها الناصع لتحمي الأعمدة المائية، ومنابت الأساطير بنظراتها المعمرة.