في ذكرى المهندس حسن فتحي

اول من نادى بالعمارة الخضراء … صديقة البيئة

هو اسم بارز في عالم المهندسين المجددين، حيث قام بدورلافت في تطوير فن المعمار،الذي لا يقع فريسة لمقاييس الجمال فحسب،ولكنه ايضا يعطي التفاتا هاما ومثيرا، لدواعي الصحة والبساطه،في اطار تكاملي .يطلق عليه الكثيرون في مصر لقب(شيخ المعماريين) تقديرا لدوره،واحتراما لمنهجه في صياغة فن جديد في عالم المعمار،يهتم بقلة التكاليف امام الطبقات الدنيا لكي تنعم بمعمار جديد يلبى احتياجاتها،وهو من جانب اّخر فهو أول من نادى بالعمارة الخضراء،صديقة البيئة،وكان ذلك في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي،وخرج بذلك بما اصطلح على

المهندس حسن فتحي

تسميته بعد ذلك (عمارة الفقراء)،ومن خلال التطبيق والممارسة،تم اكتشاف الكثير من الأيجابيات في هذا النموذج من الفن الرفيع لصياغة هذا النوع من الفن المعماري(الصالح للجميع)وليس للفقراء فحسب ،فهو فن قادر في نفس الوقت على مواجهة التغيرات المناخيه العنيفه التي يعايشها العالم،وبذلك اصبح مجالا لسعادة الكثيرين  سواء الفقراء،أوغيرهم من الطبقات الأجتماعيه. يكمن سر هذا الأبداع في الغوص في فك طلاسم البيئة وكشف اسرارها،وبالتالي في حسن استخدام موادها،والأستغلال الأمثل للخامات المحيطة بها .لذلك نجده قد لجأ الى ماده أوليه تتمثل في(طمى النيل) في صناعة الطوب،واعداده من جانب اّخر لكي يستخدمه ك(مونه) للبناء.خاض تجربته في صعيد مصر،ولكنه وجد في نهاية الأمر مشكله يتلاقي على ارضها علمي الأجتماع من حيث البيئة وطبيعتها،والأقتصاد من حيث الدخل ،وترتيبات الحياة .

بدايات مشروعه المعماري

بدأ ( المهندس حسن فتحي) مشروعه كنموذج مثالي لفلسفته حول (عمارة الفقراء)وقد نجح بالفعل في خلق نموذج جديد في فن البناء المنخفض التكاليف،وبلغ تأثيرهذه  المبادرة أن انتقل صداها الى الولايات المتحدة ،فقد استعانت به(جامعة شيكاغو) لطرح  أفكاره على طلابها،وهناك أصدر كتابا باللغة الأنجليزيه يستعرض فيه فلسفته في البناء والتشييد بعنوان ( عمارة الفقراء) عام 1970،وقد ترجم هذا الكتاب لاحقا الى اللغة العربيه ،كما تمت ترجمته الى لغات أخرى وأصبح هذا الكتاب ضمن مناهج التدريس لدي العديد من كليات الهندسه في الكثير من دول العالم. اعتمد نمط (العمارة النوبيه) والنوبه أحد الأقاليم المصريه،وتقع في جنوب مصر ،وشمال السودان.، وترجع تسمية النوبة الى كلمة نوب،وهي باللغة المصرية القديمة، وتعني الذهب، اعتمد نمط تلك العماره بسماتها من (قباب) و(قباوي) في تحقيق معادلة السكن البسيط  التكلفه،وفي نفس الوقت يوفر حياة اّمنه تكفل مع الرخص منظومة الصحه حيث انها تساعد في تخفيض درجات الحراره الداخليه بنسبو تصل الى حد 15% ويرجع ذلك لأعتمادها فتحات (القباب) لتمرير الهواء البارد ،وتوفير مصادر الأضاءة الطبيعيه .

لكن السؤال : كيف عرج المهندس

حسن فنحي  الى التفكيرفي هذا النوع من المعمار ..؟

كان المهندس حسن فنحي يتمتع بولع الأستكشاف في نمط جديد من العماره، يلبي احتياجات الطبقة رقيقة الحال ،وكانت تمثل السواد الاعظم من الشعب المصري،فقد برزت خلال النصف الاول من القرن العشرين، الى حد مؤثر ظاهرة الفقر والحفاء للطبقات الشعبيه،خصوصا في الريف المصري ،والى حد ان الخطاب الرسمي المتداول لأي حكومة جديده في مصر ،كان رئيس الوزراء حريص كل الحرص على  الاشارة الى هذا التعهد بالقول نصا (وسوف تعمل حكومتى على مكافحة الحفاء). لذلك عمل هذا المهندس الشاب (حسن فتحي) على ترجمة هذه الفكره الى واقع ،وأخذه ذلك المنحى

وزيرة الثقافة السبقه ايناس عبدالدايم
قامت بافتتاح القريه للسياحه بعد انتهاء ترميمها

في البحث الى التوجه الى مدينة (أسوان) ،وهناك رأي حلمه يتجسد في هذا النوع من المعمار ،في العمارة النوبيه ،وعلى وجه التحديد في قريه تدعي (قرية الكوبانيه) وهي تقع في منطقة غرب النيل. هناك التقي بضالته وهو (المعلم علاء الدين مصطفي)،حيث كان منزله مشيدا من قوالب الطين (اللبن) ،بنظام (القباب) ذات الأسقف الدائريه. كان التصميم بسيطا، ولكنه شديد الأثاره في التكوين، وكانت تشكل الهاما للمهندس الشاب الحالم بمعمار مختلف يلبي حاجات الطبقات الصغيره، وقد انبهر بهذا القالب من المعمار. أقبل المهندس حسن فتحي على التعرف بهذا الرجل التلقائي في التصميم ،البسيط في مظهره، البارع في التشييد والابتكار بما يحقق الحاجة الى سكن ،والى بساطه في التكوين بما يلبي احتياجات المواطن المحدود الدخل،ولم يكن ينقصه الا علم المهندس وخياله الطليق ،لكي يضيف الى تلك البساطه مراعاة الصحة والتنظيم .توثقت العلاقه بين المهندس الوافد و الباحث مع الأسطى المعلم علاء الدين ،بحيث اصبح يشكل له ذراعه الأيمن في حركته، وتجسيد افكاره واحلامه

قرية ( القرنه) ومشكلتها

تداخل علوم الأجتماع والأقتصاد

بدأ (المهندس حسن فتحي) مشروعه المعماري في عام 1946 ،حيث قام باعادة بناء هذه القرية القديمه (القرنه) التي تقع في حضن الجبل في البرالغربي لمدينة (الأقصر)في صعيد مصر،وهي تنسب  الى شكلها ،فهي في تكوينها تأخذ شكل قرن الحيوان،في القمه الهرمية التي تعلو(وادي الملوك) و  ،لذلك جرى تسميتها، بهذا الأسم. كانت قرية مهجوره تبعد حوالي مائة متر الى الشرق من معبد (سيتي الأول)،وقد جرى هجرها،ولا يعيش فيها احد ،ويشير بعض الباحثين مثل (ايزابلا فرانسيس) الى ان اعادة التوطين بدأت في أواخر اربعينات القرن التاسع عشر.ثم جرت عملية بناؤها باسم(القرنة الجديدة) بواسطة المهندس حسن فتحي  في أربعينيات القرن العشرين وأوائل الخمسينات لاستيعاب السكان،ولكنهم

صوره لأحد مباني القريه في ثوبها الجديد

للمفاجأة، وجدوا أمامهم مقاومة شديدة من الأهالي أزاء فكرة تسكينهم فيها .القرية في اصولها القديمه عباره عن سلسله من المساكن التي بنيت في الكهوف الجبليه،وحولها تقع على بعد 200 متر شمالا منطقه يطلق عليها (رامسيوم)وتعني (المعبد الجنائزي للملك رمسيس الثاني ) يتولى

أمرها الشيخ (عبدالقرنه) وقد كانت هذه  الأرض هي ساحة المعركة المريرة بين أصحابها الأصليين والحكومة المصرية على مدى سنوات طويله،لأنها تقع على قمة منطقة أثريه وهي جزء من مقابر النبلاء فيما مضي من  التاريخ القديم، ويرى الباحث (إدوارد وليام لين)  أن السكان انتقلوا إلى هذه الكهوف من قرية القرنة القديمه التي تركوها،عندما تراجع المماليك  في المنطقة، بعد هزيمتهم من قبل قوات محمد علي  في أوائل القرن التاسع عشر.تتكاثر في تلك المناطق مقابر الفراعنه،وبالتالي اعمال الفحر،والأكتشافات،ومعهم بالتالي الكثير من المغامرين الباحثين عن الكنوز،وكذلك تجار الآثار.

لماذا رفض الأهالي

السكن في هذه القرية الجديده ..؟

في تصريح أدلى به المؤرخ الأثري (فرنسيس أمين) ان المستندات الحكوميه الرسميه تؤكد (ان مصلحة الآثار المصريه ) قد قامت بالصرف على انشاء هذه القرية النموذجيه لسكان قرية ( القرنه القديمه) بعد شيوع سرقة الأثار اّنذاك بصرف مبلغ مائة ألف جنيه من عام 1945 حتى عام 1951 حيث تم بناء 83 منزلا في القرية الجديده بألأضافة الى بناء مسجد، ومدرسة أوليه، ومدرسة صناعيه ومدرسة بنات، وسوق تجاري،ومسرح، ودوار للعمدية (مركز لعمدة القرية)، وقد أنشئت القريه لأستيعاب سبعة اّلآف مواطن من مناطق المقابر الفرعونية بالبر الغربي لإنقاذها من السرقات والتعديات عليها، وخصوصًا بعد أن اكتشف المختصون وعلماء الآثار سرقة نقش صخري بالكامل من أحد القبور الملكيه ، فصدر ذلك القرار بتهجيرهم من المقابر وإقامة مساكن بديلة لهم، وخصّصت الدولة ميزانية محدودة لبناء تلك القرية الجديدة،(القرنه) وقد تم اختيار الموقع ليكون بعيدًا عن المناطق الأثرية وقريبًا من السكك الحديدية والأراضي الزراعية علي مساحة  خمسين  فدانًا. تم شراء الفدان بمبلغ ثلاثمائة جنيه مصري . هنا تتضح المشكله بأبعادها،فسكان القريه القديمه في اعلي الجبل،امامهم ثروة ضخمة من الآثار الفرعونية، وتشكل مصدر دخل اساسي لهم ،ويحلم الكثيرون منهم بأن يكتشف معبدا او منزلا لأحد الأثرياء القدماء،ويكون بمثابة كنز كامل ،وليس مجرد قطعه أو عدة قطع أثريه،بالأضافة الى المغامرين من هواة الاكتشافات للكنوز المخبأة، وكانت تلك التماثيل في نظر الأهالي،ومفاهيمهم  ويشيرون اليها بكلمة (المساخيط)،وهناك بجوار منطقة الأهرامات، في الجيزة قريه اسمها ( نزلة السمان) وبعض سكانها من الأثرياء من خلال تجارة الآثار،ولذلك رفض الأهالي السكن اساسا لقربهم من مصادر عملهم الأساسي ،وهو التجاره في الآثار،وهم يقطنون في ربوعها ،والقلة منهم من خلال تعلقهم بالنشأة والميلاد ،والحياة التي يألفونها. ظلت( القريه الجديده) بلا سكان،لسنوات وبالتالي تعرضت للكثير من عوامل الاهمال. وتوحدت عوامل متعددة للنيل من تلك الفكرة التي دعا اليها المهندس حسن فتحي. اولا : تأثير المياه الجوفيه،بعد بناء السد العالي مما اضعف المقاومه لدى البنايات وصلاحيتها للبقاء .ثانيا:الاهمال في عمليات الترميم،بما يكفل تأمين البنايات ضد الأنهيارات .ثالثا زيادة عدد العائلات الشاغله للمساكن بفعل الأنجاب ،والحاجة الى بناء ملحقات للمنازل .رابعا : التكدس السكاني تحت التزايد في عدد السكان، والحاجة الملحة للمزيد من البنايات ذات الشقق المتعددة ،مما استوجب بالضرورة الأعتماد على الطوب الحجري ،والحديد المسلح لبناء وحدات متعددة الطبقات .

عودة للأهتمام

بقرية حسن فتحى التراثيه

في اطار الاهتمام المتزايد بالتاريخ المصري،وتراثه على مر العصور،كان لابد من العودة لتلك القرية التي شهدت ميلادا جديدا لفن العماره /وهي قرية ( القرنه) . فبعد مضي عقود من الأهمال عبر الزمن، جاءت تلك الصحوة بالعناية بها ،وتم وضع خطة ذات ثلاث مراحل ،وبدعم من ( اليونسكو) . تتضمن المرحلة الأولى ترميم مبنى الخان ،وهو مبنى لأستراحة القوافل، أو المسافرين ،وترميم الجامع، بينما تتضمن المرحلة الثانية ترميم مبنى مسرح القرية ومسكن حسن فتحي وإعادة تأهيل سوق القرية،وتتضمن المرحلة الثالثة ترميم دار العمودية وإعادة تأهيل الميدان العام ورفع كفاءة الطرق. ويقول  المهندس رامز عزمي استشاري المشروع، إن العمل انتهى بالكامل بالمسجد والمسرح والخان وهي المباني الأكبر بالمشروع  ليعود المسجد لإقامة الشعائر بعد أن تم ضمه للأوقاف فيما تم إسناد مهمة أدارة المسرح للهيئة

معبد سيتي الأول في القرنه

العامة لقصور الثقافة بوزارة الثقافة ليعاود نشاطة باستقبال الفعاليات، فيما يدرس جهاز التنسيق الحضاري الجهة المشرفة على المشروع تحويل الخان الملحق بالقرية لمركز فني لإقامة ملتقيات نحت أو مراسم أو سمبوزيوم للفنانين. وتابع المهندس عزمي قائلا أن أعمال الترميم شملت دعم الأساسات وحقن التربة ودعم الحوائط، وأنهينا مشكلة المياة الجوفية التي كانت السبب الرئيسي في تهديد مباني القرية وتصدع حوائطها ،وذلك بالعودة للطرق الفرعونية بعمل خندق ذو منسوب منخفض لتجميع المياة الفائضة من الزراعة والمتجمعة أسفل المباني وهذا كان الحل الأفضل لوقف التدهور، وتم استخدام مواد بيئية بالكامل واستعادة المواد التي استخدمها حسن فتحي في تشييد قريته بإعادة إنتاجها  بنفس الخامات، وفي موقع العمل وقمنا بهدم التعديات والحوائط الخرسانية والطوب الأحمر التي ألحقها البعض ببعض مباني القرية.على جانب اّخر قال المهندس عماد فريد استشاري المشروع (استغرق العمل في الترميم نحو عام وثلاثة أشهر وبالرغم من جائحة الكورونا إلا أن العمل لم يتوقف وسط إجراءات احترازية مشددة، وذلك بمشاركة مجموعة من أمهر العمال المتخصصين في عمارة حسن فتحي رائد العمارة البيئيه، واستطرد فقال يتبقى العمل في المرحلة الثانية في السوق وبوابتين ومنزل حسن فتحي وهو الأكثر تأثرا بالتدهور ويحتاج لتدخل عاجل، والجدير بالذكر أن قرية حسن فتحي كانت تضم 70 منزلًا ومسجد وخان ومسرح وعانت طويلًا من الإهمال، رغم كونها تراث عالمي يخضع لاتفاقيات اليونسكو وتمّ وقف أعمال ترميمها في 2016، بعدما تمّ الكشف عن أعمال ترميم خاطئة طالت المباني باستخدام مواد أسمنتية وطوب أحمر يتعارض مع الفكرة الأساسية لرائد العمارة البيئية (حسن فتحي) باستخدام مواد طبيعية تحافظ على البيئة وتتميز بالاستدامة وقلة التكلفة مما هدد بخروج القرية من قوائم اليونسكو.يقول غيث فريز مدير مكتب اليونسكو الإقليمى للعلوم فى الدول العربية وممثل اليونسكو لدى مصر، أن المشروع متميز وأصبح موقع تراث لليونسكو منذ عام 1971، والحفاظ عليه يخلد الفكرة والفلسفة التى جاء بها حسن فتحى، وهى (فلسفة عمارة الفقراء) باستعمال المواد المحلية بشكل متوازن بيئياً، مؤكداً على أن منظمة اليونسكو مهتمة بالقرية ووفرت تمويلا قدره 750 ألف دولار لدعم المشروع، بالتعاون مع مهندسين مصريين من تلاميذ المهندس العظيم حسن فتحى لترميم قريته. ثم ترتكز الفلسفة المعماريه لدى هذا المهندس النابه حول ( ضرورة

صوره تعكس الطبيعه في قرية حسن فتحي

الاعتماد على عناصر البيئة المحلية في تشييد أي بناء معماري، ولا يعتبر حسن فتحي العمارة مجرد مأوى فحسب، وإنما أيضا تعبيرا حيا عن وجدان الإنسان،وتلبية لرغبته المستمرة في الانتماء واكتشاف النفس، والميل الغريزي للخلق والإبداع، وهو من أنصار ومؤيدي (فكرة التحاور الثلاثي الرائع بين العمارة والطبيعة والإنسان، وأهمية تكاملها وتعاونها على أثراء وإخصاب وإنعاش الحياة، وإضفاء طابع جمالي وأبعاد روحية عليه) .حسن فتحي

من مواليد مدينة الاسكندريه عام 1900 ،وقد رحل عن دنيانا عام 1989 .تخرج من كلية الهندسة جامعة فؤاد الأول ( القاهره الآن) . عادت القرية مزارا سياحيا بعد افتتاحها بواسطة وزيرة الثقافة السابقه ايناس عبدالدايم في 15 ديسمبر عام 2021.

نهاية ترميم (الخان) في قرية حسن فتحي