عبد الرحمن القلق يرسم سيرة شعرية متقطعة عن الانتماء والوطن والتحرر
لم يسبق للشاعر الفلسطيني السوري عبد الرحمن القلق أن عاش في فلسطين أو وقف على معالمها وتضاريسها وأناسها وظلالها، كما يفعل الكثير من الفلسطينيين المهجرين الذين يستحضرون أدق التفاصيل وروائح الأرض والنبات والأكل كالبرتقال والزعتر والزيتون والخبز والقهوة، وذلك لأنه ابن مخيم اليرموك بسوريا، عاش بفلسطين المتخيلة التي ترسخت لديه عبر قصص الجدة والأم وسكان المخيم، لهذا فلما أتيحت له الفرصة لزيارة فلسطين وتحديدا مدينة حيفا، لم يعثر على فلسطين المتخيلة، وهو ما أثار لديه سؤال الانتماء والأيديولوجيات السياسية أو الدينية أو الإثنية، حيث

يتساءل: “كيف لنا كفلسطينيين أن نصل إلى الانتماء المباشر للأرض بينما يواجه الجسد الفلسطيني الإبادة اليومية بسبب لونه ودمه ودينه وعرقه؟”.
عن هذا السؤال الأساسي، وعن رحلته إلى حيفا ومحاولته ملامسة الذاكرة المتخيلة واقعيا، يتمحور عمل الشاعر عبد الرحمن القلق الأخير الصادر عن “دار الجنوب” ببرلين، والذي يحمل عنوان “سبقني الصوص إلى حيفا”، والمستقطع من قصيد تحمل العنوان نفسه يقول في مقطع منها:
“ما الفرق ‘ن نظرت إلى البحر الآن أم لم أنظر؟!
لقد سبقني اللصوص إلى حيفا
وأقلقتهم ملاحة الخنازير البرية
فعلقوا باقات الـ GPS حول أعناقها
كلما أتتهم في الليل تسترد نواحيها- ظنوها المنتظر”.
في هذا العمل الشعري النثري الواقع في 136 صفحة من الحجم المتوسط، يسعى القلق إلى الإجابة عن الكثير من الأسئلة الوجودية التي تؤرقه، حيث يقول: “في الغد البعيد، عندما تتحرر فلسطين يوما ما، حينها فلسطين الحرة هي من ستحررني من الانتماء إليها”. وهو ما يفسره القلق في تصريح لمجلة “الحصاد” عبر قوله: “حينما يكون لنا نحن أبناء الشتات وطن، نرسم حدوده التي تعيد لنا هويتنا المسروقة منذ عام 1948، حينها فقط سنمتلك رفاهية التفكير بعلاقتنا بالأرض خارج الأُطر الأيدولوجية، لنفهم حينها كيف توارثت ثلاثة أجيال من الشتات الفلسطيني علاقتها بفلسطين خلال 77 سنة دون أن تعود إليها مرة واحدة!”.
النكبة وقلق الكتابة
وعن اختيار الشاعر لهذه الصيغة التي تجمع بين النثر والشعر في كتاب واحد، يقول عبد الرحمن القلق في تصريح لمجلة “الحصاد” بعد اللقاء التقديمي لهذا العمل في “اللقاء المسرحي العربي الخامس” بهانوفر بألمانيا المنظم من 9 إلى 13 أبريل/ نيسان الماضي تحت شعار “ماغماMagma/”، إنه يدخل في إطار بحثه عن شكل للكتابة وطرق جديدة للقول

الشعري، معلنا أنه لا يعتقد أنه حينما يكتب السرد أنه يستغني عن الشعر، “على العكس! أرى أن كتابتي للسرد هي إحدى محاولاتي المستمرة لاكتشاف أوجه وطرق جديدة للشعر خارج أشكال القصيدة. لذلك أرى الشعر في كل شيء”.
وانطلاقا من هذه المحاولة والحالة الإبداعية يرسم الشاعر عبد الرحمن القلق في هذا العمل سيرة شعرية متقطعة عن الانتماء والوطن والتحرر لفلسطينيي الشتات الذين عاشوا النكبة بشكل مضاعف ومستمر، من خلال تجربته هو الذي هاجر من مخيم اليرموك بسوريا وعانق حلم تحقيق الذات بأوروبا، وتحديدا بألمانيا التي يقيم فيها حاليا، حيث يدرس ويعمل في مجال المسرح والفنون الأدائية. فيقول: “نحاول اليوم في شتاتنا إزاحة هول النكبة الكبرى، وحدها الزمني عن خطواتنا، كي نجد خطا آخر يجمعنا من جديد فوق طريق تقربنا من حدود غزة. نحن أبناء الشتات الذين وجدنا أنفسنا بعد الهجرة إلى أوروبا، فجأة، لأول مرة، نقف متكاتفين مع أصدقاء وصديقات من كامل فلسطين المحتلة. في كل مرة أعود فيها إلى مدينتي بعد مظاهرات عزة في برلين، يعانق بعضنا بعضا، لنفترق إلى منازلنا فرادى، كما كنا دوما في شتاتنا الذي لم يختف بخروجنا من للمخيمات، بل صار أوضح وأعنف. أفر اد يقاومون نكبة لا تنتهي”.
الذاكرة المتخيلة والمحتجزة
لم تكن الرحلة سهلة ولا ممتعة، فقد تعرض عبد الرحمن القلق للكثير من الصعاب كغيره من فلسطينيي الشتات الحالمين بالعودة إلى وطنهم باستمرار، ولكن في حالة هذا الشاعر فالأمر يكاد يختلف فقد عاش بذاكرة متخيلة عن فلسطين لم يعثر عليها حين زيارته لها، لهذا نجده في هذا الكتاب المتضمن لـ 11 نصا نثريا و29 قصيدة، يخاطب جدته “ازدهار” ويقول لها: “انظري.. احتجت إلى عشرين سنة لأفهم أن حزنك لم يكن مما مضى بك في النكبة، بل على الآتي

علينا من ميراثها”.
وفي استعادته لرحلته الأولى إلى وطنه فلسطين يكشف القلق عن الكثير من الأسئلة والتأملات حول قضايا مقلقة تتعلق بالهوية والذات والمكان والذاكرة المحتجزة، حيث يقول: “جئت ولم يخبرني أحد أن بحر حيفا منفي عن حيفا بجدار من إسمنت، وأن قواعد البناء العسكري تحول دون الوصول إلى البحر، وتبتر علاقة الناس بالبحر. ويلي! ماذا أعرف عن حيفا إذن؟ تخيلت لأسابيع قبل قدومي أن طرقاتي في حيفا ستنتهي كل ليلة بالوصول إلى الماء، وأني تماما هناك سأصالحه، وأني تماما هناك سأقيم هدنة مع البحر، بيني وبين الشط. وأني، ابن البحر، سأعرف أخيرا كيف نظر آبائي قبل 75 عاما إلى البحر بشهية أكثر”.
الجسد والعلاقة بالأرض
وعن علاقته بالأرض، يقول إن علاقة الإنسان بوطنه الأم هي أولى أشكال التعرف على علاقته بالأرض، ولهذا نرى تمسك الفلسطينيين والفلسطينيات بالكثير من النباتات البرية مثل: الزعتر، والميرمية، والعكوب، والتي تُجرم إسرائيل قطفها في الكثير من الأرضي الفلسطينية، لمعرفتها برمزيتها في التراث الفلسطيني.
ويضيف “لو كنا نعيش في عالم حر، لم تشوهه الإمبريالية والكولونيالية والانتماءات الأيدولوجية بكل أشكالها، لآمنا بعلاقتنا بالأرض من خلال أجسادنا، قبل علاقتنا بها من خلال انتماءاتنا الأيدولوجية. تحدث محمود درويش في شعره عن سياتل، زعيم قبائل دواميش وسكواميش في الشمال الغربي من أمريكا، الذي قال متحدثا باسم السكان الأصليين في خطبته الشهيرة إن الأرض والماء والهواء أشياء لا يمكن شراؤها واستيطانها، لأنها تجري ضمن دورة الحياة الطبيعية بين جسد الإنسان والأرض. لم يفهم المحتل الأبيض هذه العلاقة حتى يومنا هذا. ورغم ادعاء الأوروبيين بحثهم عن الهوية ما – بعد الحداثية – تلك التي تعطيهم امتياز التّرفع عن أيدولوجيا الهويات القومية التي بدأت أساسا في أوروبا، إلا أنهم

دوما ما يقعون في شرك أنانيتهم بتملك الأرض والانتماء لها حيثما يكونون، وكيفما يشاؤون”.
ألمانيا اللجوء والتكوين
وإلى جانب حديث القلق عن رحلته إلى فلسطين واستعادته لمخيم اليرموك موطنه الأول، يسرد مغامرة الهجرة إلى أوروبا ومغادرة المخيم نحو المجهول، قبل الوصول إلى ألمانيا عام 2016 والتنقل في مراكز الاستقبال المخصصة للاجئين، حيث يتحدث عن الكثير من الانتهاكات العنصرية ضد اللاجئين في عام 2020 خلال جائحة كورونا، حيث حاول ما لا يقل عن 498 لاجئا ولاجئة الانتحار، منهم من نجا ومنهم من أصيب بجروح خطيرة أودت به إلى الموت، كما سجلت الشرطة الألمانية 332 حالة اعتداء عنصري وهجمات جسدية ضد اللاجئين واللاجئات، مسببة لهم جروحا خطيرة. هذا ناهيك عن سرده لصعوبة الاندماج في مجتمع غريب بقوانين صارمة، جعلته يرى في قصة اندماج كاتب لاجئ عديم الجنسية بمثابة “انتحار حتى الاندماج” أو “اندماج حتى الانتحار”، كما يقول في كتابه.
كما يتحدث عن المغرب وفترة دراسته فيه لتخصص المسرح واعتقاده بأنه حينما سيتحول إلى دول الجنوب سيتخفف من إحساسه بالغربة والمنفى، ولكن هذا الجرح ينفتح كلما سئل عن بلده وعن بلد الاحتضان الذي منحه الجنسية وبعثه ضمن بعثة أوروبية للدراسة بالمغرب، حيث يقول:
“اتسع المنفى علي أبكر مما ظننت
لكن ما المنفى اليوم؟ وما البيت في عالم ينهار باستمرار؟
لدي أسئلة ورغبات بلا أسباب، مثلا:
أن أبقى مولعا دوما بالأشياء البعيدة!
كأن أرغب الآن في العودة إلى غرفتي الصغيرة في هيلدسهايم الباردة!
لا أستغرب من رغبتي هذه! إنها غيرة جسدي من طائر اللقلاق! “.
“24” و”طقوس العبور”
“سبقني اللصوص إلى حيفا” هو العمل الإبداعي الثالث للشاعر والكاتب وفنان الأداء الفلسطيني السوري عبد الرحمان القلق، المزداد بمخيم اليرموك بدمشق عام 1997، الذي سبق له أن أصدر عمله الأول باللغة العربية بعنوان “24” عن دار “هُنّ” بالقاهرة عام 2022، يضم قصائد مغتربة وحزينة تثير أسئلة حول الذات والهوية، وعمل ثاني بالألمانية بعنوان

“طقوس العبور/ Übergangsritus” عن دار”فالشتاين/ Wallstein” في غوتينغن عام 2024، وهو العمل الذي تم تقديمه في “اللقاء المسرحي العربي الخامس” بهانوفر، وينطلق فيه الشاعر من سؤال أساسي هو “ماذا يعني أن تكون لاجئا فلسطينيا في العالم بلا مكان؟”، إضافة إلى عرضه المسرحي باللغة الألمانية “واجهة المرمر الأزرق”، الذي شارك به في عدة مهرجانات مسرحية في ألمانيا.
ويضم كتاب “طقوس العبور” نصوصا كتبها الشاعر عبد الرحمن القلق باللغة الألمانية وأخرى ترجمت من اللغة العربية من قبل ليلى شماع وصاندرا هيتزل وكينتر أورت، يسلط فيها القلق الضوء بحس شاعري عال على الحروب والهروب والعيش في المنفى وبلد اللجوء. وعن هذا العمل وقدرة اللعة الألمانية والترجمة على نقل جزء من المعاناة والقلق الذي يسكنه كشاعر وإنسان عربي، يقول القلق في تصريح لمجلة “الحصاد”: “تجربتي باللغة الألمانية لازلت غضة جداً. وبدأت استخدامها للعمل الأدبي بسبب احتكاكي اليومي بها من خلال دراستي وعملي بالمسرح الألماني. مع ذلك، لا أظن أن النصوص الألمانية القليلة التي كتبتها، هي نصوص ألمانية لمجرد كتابتها مباشرةً بالأحرف الألمانية، بل هي ترجمة للصورة اللغوية العربية في مخيلتي؛ أي مثلما قال الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”!.
الترجمة وغزة
ويضيف القلق بأن فكرة الكتابة بلغة جديدة هي فكرة مثيرة لأنها قادرا على النظر إلى اللغة من مسافة أبعد من المعتاد، للتعامل معها لا كمخزون ثابت تتفرد به الذاكرة الموروثة، بل كمتحرك معرفي يظل في تدفق مستمر نحو التجربة الإنسانية، التي في الكثير من الأحيان تبدو أعقد من أن تستطيع اللغة أن تنصفها.
ويشير القلق إلى أنه في ظل الإبادة التي تحدث اليوم في غزة، تزداد أسئلته وشكوكه حول ضعف اللغة وعجزها أمام القهر الذي نمرّ به! فغزة “تعدت فكرة الإيجاز والمجاز، وصارت كل شيء. باستطاعتنا القول إن “غزة” تعني ما لم تكن يوما تعنيه من غضب، وألم ويأس عميق، يشبه يأس العالم مجتمعا، اتجاه كل فعل يومي، واتجاه كل سيرة عابرة مع الأفراد من حولك، واتجاه كل نظرة وكلمة نقولها هنا وهناك”.
ويخلص إلى أنه في كل مرة يلفظ كلمة “غزة” يزيد إيمانه بكل ما بإمكان الكلمة أن تصنعه! لدرجة أنه يقول: “لم يحررني أحد أو شيء أو مكان من مخاوفي، مثلما فعلت غزة!”.
*إعلامية وكاتبة من المغرب