د.ماجد السامرائي
الحديث عن انتخابات العراق له وجوه ومعالجات في مراحل متعددة منذ عام 2006 وحتى اليوم . لم تبق جامدة طرق صناعة الحاكم التنفيذي القادر على تنفيذ سياسات هيمنة الإسلام الشيعي , بل تغيّرت على ضوء التحدّيات أمام تلك الأحزاب أهمها كيفية مواجهة ودرء أخطار فشلها والأخطر مواجهة التحديات الشعبية التي تمثلت بثورة شباب تشرين ( أكتوبر ) 2019 . تطورت هذه الصناعة من عبثية الاختيار الشخصي وانتقائية الحزب الحاكم حيث فضّل المحتل الأمريكي حزب الدعوة كحاكم للبلد لأسباب كثيرة أهمها صلته العقائدية والسياسية بطهران . ثم انتقلت معايير ذلك الاختيار الى أن يصبح رئيس الوزراء من خارج حزب الدعوة بعد فشله التاريخي في الحكم مع بقاء هيمنة الأحزاب الموالية لإيران حصل ذلك ما بين عامي 2018 و2020.
من المفيد التذكير بقصة حقيقية تؤكد عبثية الاختيار الأمريكي والرضى الإيراني لمنصب رئيس وزراء العراق مع الحفاظ على حصر السلطة طائفياً بيد الأحزاب الشيعية , القصة المروّية حول طريقة اختيار نوري المالكي لرئاسة الوزارة عام 2006 نَشرَت أسرارها على لسان السفير الأمريكي في العراق آنذاك زلماي خليل زادة مجلة نيويوركر الأمريكية في 24 أبريل 2014 للأهمية ملخّصها : إنه في أوائل عام 2006 أُستدعي السفير الأميركي لدى بغداد آنذاك زلماي خليل زاد إلى دائرة تلفزيونية مغلقة بين بغداد وواشنطن مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لبحث المشهد السياسي في العراق. كان ائتلاف الأحزاب الشيعية وقتها قد فاز بمعظم الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي نظمت وزوّرت في كانون الأول /ديسمبر2005 لكن مرشحهم لمنصب رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري كان يواجه مشاكل كثيرة أعاقت التوصل لاتفاق مع بقية القوى السياسية لتشكيل الحكومة.
سأل الرئيس بوش السفير خليل زادة: “هل يمكن التخلص من الجعفري؟” أجاب السفير الأميركي بنعم، لكن الأمر سيكون صعبا., بدا علي الأديب القيادي في حزب الدعوة المرشح الأكثر حظاً لكن خليل زاد كان مترددا بشأنه إذ إن والده إيراني حتى قال “أيعقل ألا يكون في هذا البلد صاحب الـ 30 مليون نسمة مرشحا للحكومة سوى رجل ليس باستطاعته اتخاذ قرار (الجعفري) وآخر إيراني (الأديب) أليس هناك شخص آخر؟ .نطق بهذه الكلمات أمام ضابط الارتباط في وكالة الاستخبارات الأميركية.الذي أجاب “لدي مرشح لك” اسمه المالكي.
رد زادة “دعني أقابله” ثم التقى بالمالكي خلال دعوة عشاء أقامها للأحزاب الشيعية في المنطقة الخضراء ببغداد , سأل زادة المالكي إن كان يفكر في أن يصبح رئيسا للوزراء؟ قفز المالكي مدهوشاً حسبما يقول السفير خليل زادة .. نعم .. بعد العشاء اتصل السفير بالبيت الأبيض ليبلغ الرئيس بوش بما جرى.
والقصة التالية حصلت بعد أربع سنوات من حكم نوري المالكي حيث طمع بالسلطة لدورة ثانية ووجد ارتياحاً لدى كل من واشنطن وطهران على سياساته القمعية الطائفية ضد السنة فانتزعت واشنطن وطهران السلطة من يد أياد علاوي وائتلافه العابر للطائفية رغم فوزه بانتخابات عام 2010 واعطوها للمالكي , رغم ان علاوي كان الأفضل للمصالح الأمريكية , لكن مقتضيات التوافق الأمريكي الإيراني كانت في المقدمة حيث كانوا مستعدين للرحيل عن العراق وتسليمه لإيران .
كان عام 2014 حلقة خطيرة في مسلسل هيمنة الأحزاب الاسلامية نتيجة سياسات المالكي لثمان سنوات في التمييز الطائفي وحملات الاعتقالات والاختطافات تتوجت باحتلال عصابة داعش المتطرف لثلث أراضي العراق الشمالية الغربية بما شكلّ فضيحة لحكم حزب الدعوة رغم ذلك وجدت واشنطن وطهران نقل منصب رئيس الوزراء لثاني شخصية قيادية في حزب الدعوة حيدر العبادي في مرحلة انتقالية لإبعاد السلطة التنفيذية عن حزب الدعوة بعد اقتناعهم بأنه من الصعب تبرير سياسات المالكي.
هذا التفصيل مهم لتأكيد معرفة إن الانتخابات في العراق أداة تشريعية صممها الحاكم الأمريكي بريمر وتم تسويقها بمباركة مذهبية من مرجعية السيستاني بالنجف لتأكيد حكم الأحزاب التي ترفع الشعار الطائفي الشيعي ولا تمثل الشيعة .
لم تكن الأحزاب الشيعية منقسمة كما أصبحت عليه بعد عام 2014 لأسباب تتعلق بالصراع على حصص توزيع الموارد المالية في الوزارات بعد أن تم نهب ما لا يقل عن 300 مليار دولار لحد ذلك العام . لا علاقة للتنافس الانتخابي بالإنجاز الذي لا تتجاوز نسبته الصفر , أصبحت مواسم الانتخابات مسرحاً رثاً للتسقيط والتزوير لدرجة أن يتم حرق صناديق الاقتراع في بغداد بانتخابات 2018 التي لم تتجاوز نسبة المصوتين من المواطنين 20% رغم فضائح الرشى وبيع الأصوات في المزاد السياسي الرخيص دون أن تفي مفوضية الأمم المتحدة ببغداد بوظيفتها وتعلن عدم مشروعية تلك الانتخابات .
الحدث الاستثنائي الذي حوّل التعبير الفردي للمواطنين في رفضهم لمجموعة الأحزاب وأدواتها المليشياوية الى فعل جماعي كان ثورة تشرين ” أكتوبر ” 2019 التي انطلقت في العاصمة بغداد ومدن الجنوب أبرزها البصرة التي قدمت قوافل الشهداء من الشباب الى جانب قوائم المختطفين ,كذلك الناصرية التي قاوم أهلها ببسالة أساليب القمع وكربلاء والنجف ومدن الفرات الأوسط الأخرى. كانت نتيجة القتل المتعمّد المتورطة به بعض الأجهزة الأمنية والمليشيات 800 شهيداً وأكثر من ثلاثين ألف جريح ومعوّق .
لم تكن أهداف الثورة التشرينية تحقيق مطالب فردية تتعلق بالبطالة والخدمات , بل كانت مشروع ثورة حقيقية برنامجها واقعي سلمي يستهدف بنية النظام السياسية من خلال الانتخابات بعد تغيير قانونها ومفوضيتها العامة , عملياً حصلت مواجهة سياسية حاسمة بين شباب الثورة ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي تأكد دعمه لقتلة ثوار تشرين وتسهيل فعاليات المليشيات الدموية , أدت الى إسقاطه , وبالمناسبة فهو قد خالف الدستور بازدواجية الجنسيتين العراقية والفرنسية , لكنه الآن يواجه محاكمة من قبل إحدى المحاكم الفرنسية ستتم في سبتمبر المقبل على اثر شكاوى من ذوي بعض المغدورين من شباب تشرين .
بسبب هذا الضغط الشعبي جاءت الأحزاب بمصطفى الكاظمي عن طريق التكليف وليس الانتخاب كمخرج تسوية للأزمة وهو من خارج بيت الأحزاب الشيعية , صحفي وكاتب لكنه من أشد الموالين للنظام والعملية السياسية انتقل من دائرة المخابرات الى موقع رئيس الوزراء . كانت مهمة حكومته وفق مطالب الثوار إقامة انتخابات مُبّكرة وفق قانون خاص يستبعد استمرار قيادة الفشل والقتل , والمهمة العاجلة له كانت الكشف عن أسماء المتورطين بقتل أل 800 شاب واحالتهم للقضاء , بعد مرور سنة على توليه المسؤولية لم يكشف عن القتلة , وأعلن عن انتخابات مُبكرة كان مقرراً لها شهر يونيو ( حزيران ) المقبل لكن كواحدة من فعاليات الأحزاب الساعية الى استمرار الهيمنة ولأسباب تعجيزية فنية كعدم استكمال قانون الانتخابات وعدم استكمال النقص في عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا تم التأجيل الى شهر أكتوبر المقبل وتبقى فاصلة زمنية قرابة الستة شهور عن الانتخابات الدورية في عام 2022 , وبهذا لم يبق معنى لما تسمى الانتخابات المبكرّة إن تحققت في ذلك التاريخ .
تعاملت قيادات الأحزاب ومليشياتها مع شباب ثورة تشرين بعقلية السجان القاتل وليس كنظام ديمقراطي يؤمن بحرية الرأي كما يقول الدستور . كان المحتجون في ساحات الاعتصامات هدفاً للقتل الغادر , ولم يتوقف مسلسل الاغتيالات لحد اليوم , الأمثلة كثيرة قد يكون ذكر بعضها إغماطاً لحقوق الشهداء والمغيّبين الآخرين . أتهموا ( بالجوكرية وعملاء السفارات والبعثيين والإرهاب ) وكانت اللعبة التي استثمرت وباء كورونا كغطاء لكي تحرق خيم المعتصمين في ساحات بغداد والناصرية والبصرة وكربلاء .
اشتغلت المليشيات المسلحة بعد انتهاء المعركة ضد داعش وطرده من البلاد عام 2017 على توظيف السلاح لأهداف سياسية للوصول الى البرلمان وتغيير التوازنات السياسية حتى داخل البيت الشيعي نفسه , تمكنت من خلال ذلك أبرز الفصائل الحصول على مقاعد مهمة داخل البرلمان الأمر الذي جعلها تطمع في مكاسب جديدة خلال الانتخابات المقبلة ليصبح السلاح أداة لتحقيق هذا الهدف مما يشكل انتهاكاً فاضحاً للتداول السلمي للسلطة , ومانعاً أية قوة وطنية ناشئة لأخذ فرصتها .
من جانب آخر أصبح مشهد المحاصصة الطائفية الذي بدأ منذ عام 2003 مختلفاً لم يعد هناك استقطاب سياسي سني شيعي كردي رغم محافظة الأكراد على خصوصيتهم القومية , لكن واقع السياسيين السنة أصبح مختلفاً , انقسموا الى شلل تبعاً للمغانم المالية في المناصب البرلمانية أو الوزارات المسماة ” بالحلوب ” كالصناعة أو التجارة مثلا التي دائماً ما تعطى لشخصيات سنية .
لكن الانقسام الأخطر هو الولاء لطهران . فقد أصبح لإيران رجال من السنّة جُرّبوا في ولائهم العميق خلال توليهم مسؤوليات قيادية في البرلمان مثلاً , وصلوا لدرجة المباهاة باللقاءات العلنية بالزعامات الإيرانية بعد أن كان يديرها بسّرية الجنرال القتيل قاسم سليماني , في وقت يعاني أبناء ملّتهم التشرّد عن بيوتهم مثال ذلك جرف الصخر والآن منطقة الطارمية في حزام بغداد و مدينة ديالى إضافة للموصل المنكوبة ووجود اكثر من ثمانية عشر ألف مغيّب .
ستشهد المناطق السنية إذا ما حصلت الانتخابات وضعاً مخيفاً في هيمنة السلاح المليشياوي على المراكز الانتخابية وتسويق شخصيات موالية لتلك المليشيات وأحزابها وبالنهاية لطهران .وستتفاعل متلازمة التزوير مع هيمنة السلاح المليشياوي , وبذلك ستمسح هوية العراق الوطنية وتتعزز الولاءات الطائفية .
هل كان العراقيون بحاجة الى عقدين من الزمن في التضحيات البشرية وفقدان الخدمات واشتعال الكراهية والثأر الطائفي ليكتشفوا إن اللعبة الانتخابية في بلاد الرافدين قدّمت خدمة لا متناهية لأحزاب الفساد والقتل صنعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وعززها حكم الولي الفقيه في ايران .
العدد 117 / حزيران2021