تُعلّمك الحرب، أن تجود بآخر ما لديك من أحلام، لِطريق هجرَتها أقدام كادحة. لِذاكرة كانت مأهولة بِشخوص روايات أتعبها الدّوران في رأس ثقيل.
تعلّمك الحرب، أن تنعتِق من أيديولوجيا الأمل، وأن تتحرّر من متلازمة الحياة.
تعلّمك الحرب كيف تخبّئ رأسك بين يديك عند سماع الدويّ، وكيف تجهّز رئتَيك للّنفَس الأخير. ولا تعلّمك، كيف تتحضّر لملاقاة مَن لم يتسنّ لهم أن يخبّئوا رؤوسهم بين يدَي من يحبّون.
لأنّها الحرب، تقتلك من دون توقّف، من دون مَنحِك، ولو دقائق معدودات، لِترتّب ملاءة سريرك، وتستبدل قافية ركيكة في قصيدة كُتبت على عجل. ولو دقائق معدودات لِترمق الحياة بخيبة واستهزاء، وتشرب آخر قطرة “براندي” من كأس مترنّحة على حافة الصّقيع.
لأنّها الحرب، لن تتسنّى لك تمتمة جملة واحدة من “أناشيد مالدورور”، ولن يتاح لك التظاهر بالاختباء. في الحرب لن تجد ريشًا ناعمًا لتزيلَ الغبار عن لوحة “مونش” المقلّدة بِصرختها المُضجرة، والرّجل الغريب المعذّب وهو يقف على الجسر المطلّ على مضيق “كريستيانا”.
وأنت تسير في الحرب لا تفجعك مراسم العزاء ومواسم البكاء، أدخل أقرب حانوت، اشترِ مفاتيح جديدة تصلح لجميع أبواب الجنّة، ثم ارمِها في البحر كي تسبقك إليها الحوريّات.
وأنت تسير، لا يرهبك الوحش، ولا تلتقط الرّصاصات قبل أن تتّخذ شكل جسدك المثقوب. وسّع الثّقوب ليدخلَ النّور، فلا تعتاد روحك الظّلمة. لديك متّسع من النّور وكثير من النّوافذ، لا تغادر حزنك الموصول بالرّنين، ولا تؤجّل أنفاسك لينبلج الفجر.
وأنت تسير في الحرب، على ركام ذاكرتك الضّامرة، لا تخشَ أن تدوس بقاياك، ولا تجزع من رؤية أشلائك المتدلّية من أسلاك أعمدة الكهرباء. لا تترقّب خطواتك. ستصغر وأنت تسير، ستتضاءل، وتختفي، أنت وظلّك وحزنك وخوفك وارتيابك وصدى أحلامك.
وأنت تسير في الحرب، ابحث عمّا تساقط من ودائع السّماء، اطبع عليها قبلة باردة وضعها على حافّة الطريق، كما تفعل بقطعة خبز يابسة.
في الحرب، تتعلّم كيف تتعامل مع الأشياء المهملة، ومع كلّ ما عشته من أوهام، وما ستعيشه (إذا أخطأتك الغارة) من هباء. تعلّمك الحرب كيف تلتحم بالغبار، وأنت تلعن الآلهة. كيف تفتح ذراعيك للصّاروخ، كيف تقف على أرض مرتجفة، كيف تُتاخم الذّعر بصدرٍ ملتاع.
تعلّمك الحرب كيف تؤوي الغربان في حنجرتك، وكيف توسّع دارك للتنّين، وكيف تتقاسم اللّيل مع المومياءات والمحنّطين.
في الحرب نتهجّأ موتَنا بروحٍ متهدّجة،
نرتشف آخر نقطة من زرقة السّماء،
ثمّ نولد من جديد على أرضٍ وثيرة، في مكانٍ ما، في اللّامكان.