تجميد ملف الرئاسة وتهدئة الجنوب وفتح ملف النازحين
ما يكاد لبنان يقترب من معالجة ملف قضية شائكة حتى يتوقف كل شيء، وينفتح ملف قضية جديدة اكثر سخونة. هكذا
توقفت مساعي اللجنة الخماسية لتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، كما تعرقلت مساعي الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا لتهدئة الجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلة، نتيجة استمرار الحرب على قطاع غزة وبدء الكيان الاسرائيلي خطة لإجتياح رفح. ثم انفتح باب خلاف سياسي لبناني جديد حول اعادة النازحين السوريين، بعد عرض رئيسة مفوضية الاتحاد الاوروبي والرئيس القبرصي خلال زيارة للبنان تقديم مساعدة بقيمة مليار يورو، اعتبرتها معظم القوى السياسية “رشوة مرفوضة” لإبقاء النازحين في لبنان.
رسائل صاروخية
بينما كان يزداد زخم الحراك الاميركي- الفرنسي لتهدئة الجبهة الجنوبية، وسّع العدو الاسرائيلي اعتداءاته على قرى الجنوب من الحد الحدودي الى شمال نهر الليطاني بعيداً عن الحدود مع فلسطين المحتلة اكثرمن 40 كيلومتراً، وعن نهر الليطاني شمالاً بين 10 الى 15 كلم. في تجاوز جديد للقرار 1701، عدا الاستمرار في استهداف المدنيين والبنى التحتية، وهوما يوفّر الأسباب الاضافية لتعثر المسعى الاميركي – الفرنسي المبذول.
هذا التصعيد الاسرائيلي في المعنى السياسي والرد “النوعي” لحزب الله باستهداف مقار عسكرية اسرائيلية حيوية وتدمير المستوطنات الشمالية، يحمل ابعاداً كثيرة، فهو يأتي وسط التنسيق الاميركي – الفرنسي حول ورقة العمل التي قدمتها باريس لوقف التوتر في جبهة الجنوب، والتي ادخلت عليها فرنسا تعديلات تعتقد انها ستكون مقبولة من جانب حزب لله، حيث تفيد معلومات “الحصاد” انها اسقطت من آليات تنفيذ الورقة بند “انسحاب قوات المقاومة الى شمالي الليطاني” كما تشترط اسرائيل، وكما اقترح الموفد الاميركي آموس هوكشتاين سابقاً، وتم رفض طلبه فوراً خلال زياراته الاخيرة الى بيروت. واستبدلتها باريس بعبارة “اعادة تموضع قوات حزب الله” من دون تحديد المسافة الواجب اخلائها، لكن هذا البند كان سبباً لرفض الورقة الفرنسية الجديدة.
وبما ان اسباب الرفض الاخرى ما زالت قائمة، واولها وقف العدوان الاسرائيلي على غزة ووقف مخطط تهجير الفلسطينيين من القطاع، ووقف الخروقات والاعتداءات الاسرائيلية المتمادية لأجواء واراضي وبحر لبنان، فإن لبنان بقي يترقب الرد الاسرائيلي على الورقة الفرنسية الذي سيحمله هوكشتاين، بعدما قدمت بيروت ملاحظاتها عليها عبر رئيس المجلس نبيه بري، الذي قام بالتنسيق حول وضع الملاحظات مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحزب الله.
وقد تبيّن فعلاً ان لاجديد لدى هوكشتاين ليقدمه الى لبنان بشقيه الرسمي والمقاوم، لا سيما لجهة رفض اسرائيل البحث في مصير مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وخراج الماري- الغجر التي تحتلها اسرائيل، خلال المفاوضات المرتقبة التي طرحها الموفد الاميركي حول البت في تثبيت الحدود على النقاط التي يتحفظ عليها لبنان عند الخط الازرق الحدودي.
لكن المعضلة التي واجهت اسرائيل والتي اقتنع بوجودها هوكشتاين والموفد الفرنسي جان ايف لودريان، تتمثل في ان الاغلبية الساحقة من المقاومين الموجودين عند الجبهة الجنوبية هم من ابناء الجنوب، وقلة قليلة جداً منهم من مناطق اخرى خارج الجنوب. لذلك بدا ان الطلب من ابناء الجنوب المقاومين ترك قراهم ومنازلهم امرغير منطقي وغير قابل للتطبيق، فهم ابناء الارض.
مقاربات اميركية
طَرَحَتْ المقاربات والتوجهات الاميركية في التعامل مع اوضاع منطقة الشرق الاوسط وبخاصة حول لبنان، الكثير من الاسئلة عمّا يخطط له الاميركي وما سينفذه وكيف سينفذه، في ظل حالة الاشتباك العسكري المترافق مع مفاوضات فوق الطاولة وتحتها مع اكثرمن طرف، وفي ظل مخاوف لبنانية مشروعة من ان يكون اي حل او تسوية للشرق الاوسط على حساب لبنان، وبخاصة المسيحيين فيه.
في قراءة لمصادر سياسية مطلعة عن كثب على بعض ما يجول في فكر الاميركي وتوجهاته، ان هناك تخوّفاً اميركياً من ان يفلت زمام الامور في الشرق الاوسط من يد اميركا، وهناك تخوّف اكبرعلى امن اسرائيل ووجودها ودورها في المنطقة. ولكن في ما يعني لبنان، تقول المصادر: ان الادارة الاميركية تهتم فقط بوقف المواجهات وتقليل خسائر اسرائيل وتخفيف اندفاعتها نحو التصعيد، اما مصير لبنان ككل لجهة مستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبشكل خاص مصير المسيحيين فيه وفي المنطقة عموماً، فهو ليس اولوية اميركية مُلحّة الآن، برغم المسعى الاميركي للتعجيل في انتخاب رئيس للجمهورية، فإنتخاب الرئيس هوحلقة من سلسلة الحلول التي تسعى اليها الادارة الاميركية لترتيب وضع المنطقة كون الرئيس، اي رئيس، سيكون المعني السياسيي الاول بالتوازي مع الحكومة الجديدة، في متابعة مفاوضات التسويات التي يشتغل اكثرمن طرف دولي واقليمي عليها، ومصير هذه المفاوضات والتسويات مرتبطة بتوجهات الرئيس العتيد للبنان،. ومن هذا الباب تهتم الادارة الاميركية بـ “مواصفات الرئيس اللبناني” بحيث تكون على الاقل مطمئنة الى أنه لن يعارض بالمطلق هذه التسويات ولو كانت لديه ملاحظات عليها.
التحذير الاخير
في المقلب الرئاسي، وبرغم تكثيف سفراء اللجنة الخماسية في بيروت لحركتهم تجاه الكتل النيابية وطرح افكار
ومعلومات حول مخاطر تأخير انتخاب رئيس للجمهورية، وجمع اجوبة على اسئلة الورقة الفرنسية حول مواصفات الرئيس العتيد وبرنامجه، إلّا أن العقبات بقيت قائمة نتيجة تمسك بعض القوى السياسية بشكليات آلية عقد جلسة التشاور النيابية أوالحوار المفترض. وهو ما اثار استياء اللجنة من دون الاعلان عن ذلك مباشرة لكن تلميحاً في تصريحات السفراء.
حسب معلومات “الحصاد” من مصادر متابعة عن قرب لعمل اللجنة اللجنة الخماسية، فهي جمدت مسعاها بحجة الخلاف اللبناني حول شكليات الدعوة للحوار، لكن الجميع فعلياً بإنتظار تطورات حرب غزة وعقد الهدنة ووقف اطلاق النار، وقد سلّم اعضاء اللجنة وبينهم الاميركي والفرنسي انه لا حل في لبنان لأي مشكلة قبل وقف الحرب واتضاح التوجهات المقبلة لوضع المنطقة… واشارت المصادر الى أجواء قاتمة تبلغها بعض النواب المستقلين العاملين على خط الاستحقاق الرئاسي، مفادها ان المجتمع الدولي ملّ من حالة الاستعصاء اللبناني الداخلي ومن تبادل القاء المسؤوليات عن التعطيل بين القوى السياسية، وهو اقترب من سحب يده من هذا الملف لكن تطورات المنطقة الملتهبة تدفعه الى مزيد من الصبر والتروي، انطلاقاً من محاولة تهدئة التوترات العسكرية في المنطقة ومنها لبنان. لذلك تسعى الدول المعنية الى فصل ازمة الرئاسة عن المواجهات في جبهة الجنوب اذا امكنها ذلك.
ويحذّر هؤلاء النواب الى جانب تحذير المصادر ذاتها، من ان المجتمع الدولي بما فيه دول الخماسية لن يمهل المسؤولين والسياسيين اللبنانيين مزيداً من الوقت لحسم خياراتهم وعقد جلسة انتخابية، وتحدثواعن تاريخ معين لإنجاز مهمتهم تحت طائلة سحب اليد من كل الملف اللبناني وترك اللبنانيين “يقتلعون شوكهم بأيديهم”. مشيرة الى ان الادارة الاميركية ستنشغل بعد شهر حزيران بالإنتخابات الرئاسية ولن تكون متفرغة لمشكلات لبنان الداخلية.
ازمة النازحين و”الرشوة”
وفي ملف آخر لا يقل تعقيداً، بعد حراك لبناني رسمي سياسي ودبلوماسي مكثف، بَدّلَ الاتحاد الاوروبي موقفه الى حدٍّ معقول من معالجة موضوع النازحين السوريين، بحيث بات حسب تعبيرمسؤوليه “اكثر تفهّماً لوضع لبنان والاعباء التي يتحملها”، بعدما تدفق الآلاف منهم الى دول اوروبا بطرق غير شرعية، ما اثار القلق الاوروبي من تفاقم هذه الهجرة الكثيفة وتأثيراتها السلبية على الدول كما كانت على لبنان.
وتوّجَتْ اوروبا حراكها نحو لبنان الشهر الماضي بزيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية
الاوروبية أورسولا فون دير لاين، واعلنا عن حزمة مساعدات مالية للبنان بقيمة مليار يورو، للفترة الممتدة من السنة الجارية وحتى عام 2027. تخصص حسب بيان بعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان “لقطاعات الخدمات الأساسية مثل التعليم والحماية الاجتماعية والصحة والمياه للشعب اللبناني. كما أنَّه سيواكب الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية الملحة. علاوةً على ذلك، سيجري تقديم الدعم للجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى على شكل معدات وتدريب لإدارة الحدود ومكافحة التهريب بما في ذلك مكافحة الاتجار بالبشر وتهريبهم”.
ولكن الجديد في الموقف الاوروبي ما اعلنته فون دير لاين عن “إعادة توطين اللاجئين من لبنان إلى الاتحاد الأوروبي وفتح باب الهجرة الموسمية للبنانيين الى اوروبا”. وهو الامر الذي اثار التباساً بسبب عدم وضوح هل يشمل اللاجئين السوريين فقط، ام اللبنانيين الراغبين ايضاً بالهجرة. كما اثار مواقف رافضة للقرار الاوروبي؟ عدا المخاوف مما تم تسربه اعلامياً من “معلومات عن اقتراح أوروبي قبرصي مشترك يسمح ببقاء مليون ونصف المليون نازح في لبنان بعد تسوية أوضاعهم، على أن يوزع العدد الذي يزيد عن ذلك والذي يقدر بنحو مليون نازح على دول أخرى”.
وزاد في المخاوف عدم وضع آليات تنفيذية للقرار الاوروبي حول متى تصرف المساعدات وكيفية صرفها ومن ستشمل؟ لكن رئيس المجلس نبيه بري اقترح حسب المعلومات خلال لقائه الضيفين الاوروبيَين “تشكيل لجنة مشتركة بين لبنان والاتحاد الاوروبي للبحث في الآلية التنفيذية. وجدد التأكيد على أهمية التواصل من سائر الأطراف المعنية بمقاربة ملف النازحين مع الحكومة السورية التي بات حضورها على معظم أراضيه”.
مصادر نيابية شاركت في اللقاءات مع الوفد الاوروبي، فهمت من سياق الحديث ومن اللقاءات السابقة التي جرت بين مسؤولين لبنانيين واوروبيين، ان اوروبا ستعيد توطين مَن تنطبق عليهم صفة اللجوء من اصحاب الكفايات العلمية والفنية فقط، تِبعاً لحاجتها الى اليد العاملة الاختصاصية في قطاعات معينة وليس لأي نازح.
في الحصيلة، جرى ابلاغ الوفد الاوروبي انه “سيتم تفعيل اجراءات ترحيل السوريين الذين دخلوا بصورة غير شرعية ولا تنطبق عليهم صفة النزوح”. لكن لا شيء ملموساً حتى الان، ويبقى الكلام دون ترجمة فعلية. وما حصل عليه لبنان فقط من خلال اعادة القضية الى جدول الاولويات الدولية، هو السماح بإعادة النازحين غير الشرعيين، وهو امر معقد وسيخضع لعملية اختبار جدية في الفترة المقبلة، خصوصا ان الضوء الاخضر الاوروبي ليس واضحا حتى الان، لكن الهم الوحيد لدى اوروبا هو اقفال الشاطئ اللبناني الذي بات يشكّل منطلقا لعمليات هجرة غير شرعية للسوريين، الى قبرص ومنها الى اوروبا.
لذلك يبقى الأساس هو تبنّي الاتحاد الأوروبي لمطلب لبنان العمل على اعتبار انّ هناك مناطق آمنة في سوريا وهذا يحتاج إلى قرار أوروبي موحد، وان الرئيس القبرصي يدفع بهذا الاتجاه… وفي المرحلة الثانية سيكون العمل على هذه النقطة.