واقعه الطبيّ بين ناريّن أحلاهما مرُّ
لا يمكن قراءة تاريخ لبنان، دون الإشارة إلى الحروب المتواصلة التي زلزلت كيانه ومصيره.
ولأنّ الأحداث تُعيد نفسها إلى ما لا نهاية، تتكرر المأساة في كل مرة بحلة جديدة وشكل مختلف.
فالأزمات المتتالية كشفت هشاشة الواقع المتردي على كافة الأصعدة، وخاصة الجانب الاقتصاديّ والحياتيّ.
وبما أنّه لكل صراع تداعياته وأبطاله الوهميين وإسقاطاته المريضة،
يطغى مناخ السوداوية على مزاج كل لبنانيّ، حتى ليبدو أن الجميع مرضى في وطن عاجز عن إنقاذ أرواح أبنائه المعذبين.
فهل تتقاطع السبل الدبلوماسية لإنقاذ ما تبقى من بشر وحجر، في ظل واقع اقتصاديّ مرير، وانهيار متواصل منذ أكثر من عامين؟
هل هجرة الأدمغة، وتحديداً الطواقم الطبيّة بكل مكوناتها الحيوية ستظهر تأثيراتها المؤلمة في هذه الظروف القاهرة ؟
أين المفر والبحر غارق بـ مراكب الموت و الأرض بالدّمار الشامل، والجو بالغازات القاتلة والحدود بالنار والبارود؟ وأية قيامة سينتظر الوطن بعد كل هذا الخراب العميم؟
المستشفيات تنزف منذ أيام الحرب الأولى، إذ وبشكل مفاجيّ، وبمشهد قد يوصف بالسورياليّ بدأت انفجارات أجهزة البيجر واللاسلكي بأصحابها ومحيطهم، ورافق ذلك الأمر المروع عددٌ من الاغتيالات والقصف المتواصل والمدّمر.
وكأنّ هذا ما كان ينقص لبنان بعد انفجار المرفأ الذي ابتلع قسماً من بيروت بشظاياه القاتلة، لتتبعه أزمة اقتصادية أدت إلى خسارة الناس أموالهم وآمالهم واستقرارهم النفسيّ، ممّا حدا بالكثيرين منهم إلى الهجرة وترك البلد إلى مصيره المبهم.
وربما يكون القطاع الصحيّ هو الأكثر تضرراً بعد هجرة عدد لا يستهان به من الجسم الطبيّ إلى بلاد أخرى، تحترم تعب الناس وعرقهم.
كان لهذه الهجرة المنظمة آثارها السلبية على هذا القطاع، الذي يعتبر حيوياً، وقد برزت تداعياته في الحرب الأخيرة والمستمرة.
خاصة مع عدم كف العدو الاسرائيليّ عن قصف أفراد الهيئات الصحية وسيارات الإسعاف، في محاولة منه لترويعهم، وإجبارهم على عدم القيام بواجبهم الإنسانيّ و تقديم المساعدة الضرورية للمصابين.
وسط هذا الرهاب العام وغريزة الحفاظ على الحياة، نجد أن الانهيار الاقتصاديّ الذي بدأ منذ العام ٢٠٢٠حتى الآن، تسبب بهجرة ٣٥٠٠ طبيب على دفعات، البعض منهم تسلل من لبنان دون أن يُعلم نقابة الأطباء حتّى، على الرغم من محاولاتها الدؤوبة على استعادة الطاقم الطبيّ المهاجر، وسعيها لتحسين المكافآت المالية، وقد نجح هذا الأمر مع البعض منهم، الذين عادوا لخدمة الوطن، والوقوف إلى جانب أبنائه.
يبدو أن الجسم الطبيّ بكل مكوناته من أطباء وممرضين، عانى من عدم الثقة بالدولة التي لم تستطع حماية مواطنيها من نيترات الأمونيوم، وهي مادة خطرة ومشتعلة خزنت لأسباب غامضة في مرفأ بيروت، وكادت تطيح بالمدينة لولا لطف المياه المالحة التي ابتلعت نصف قوة الانفجار.
لولا البحر لكانت الأضرار مهولة، وحتى الآن لم تتحقق العدالة المرجوة في الكشف عن المسببين ومعاقبتهم.
كذلك فإن الأطباء كغيرهم عانوا من صعوبة تأمين المعيشة والحياة اللائقة لأبنائهم، خاصة بعد فقدان الثقة بالمصارف والدولة وانهيار الثورة على أبواب اللصوص وسيناريوهاتهم التي أشبعت المواطنين صفعاً مبرمجاً.
إن عدم الثقة بالواقع خلّف واقعاً أشد مرارة وقسوة، حتى على مستوى فقدان الأدوية للأمراض المستعصية، السرطان وأمراض الكلى وفقر الدم الوراثيّ وغيرها، إضافة إلى احتكار التّجار لكل العلاجات المدعومة بسبب غياب الرقابة.
إن حرباً كهذه على المواطن المكتوف الأيدي أمام الفساد والتّردي الشاملين سبب انسحاب عدد لا بأس به من أفراد القطاع الطبي، وذلك بسبب قلة حيلتهم أمام أنين المرضى الذين لا يستطيعون تأمين الفواتير المرتفعة للطبابة.
يعتبر رئيس نقابة الأطباء البروفيسور يوسف بخاش بأن هجرة الأطباء أثرت كثيراً على سير العمل على الأرض، لذلك حاولت الوزارة استعادة أطبائها وقد نجحت حتى الآن في عودة النصف تقريباً.
أمّا بالنسبة للحرب المندلعة في لبنان حالياً،فيقول بخاش بأنّه على الرغم من المساعدات الخارجية التي تلقتها الدولة إلا أنها لا تغطي سوى جزء من الحاجات الأساسية، نظراً للميزانية العالية للمستشفيات والتكاليف الباهظة التي تتكبدها يومياً، من ناحية تأمين أجور الموظفين، والكلفة التشغيلية، خاصة مادة الفيول التي تعاني المستشفيات صعوبة في تأمينها، نتيجة الوضع الاقتصاديّ، وعدم قدرة الدولة على استيرادها من الخارج.
هذا مع العلم أن مواطنين كثر أجّلوا عمليات جراحية كانت ستجرى لهم، بسبب اندلاع الحرب، وارتفاع أعداد الجرحى والضغوطات المترتبة على كاهل المستشفيات،التي عملت طواقمها باللحم الحيّ في هذه الأزمة، خاصة مع خروج بعض مستشفيات الجنوب عن الخدمة.
يطلب بخاش من الحكومة تحمل مسؤوليتها في هذا الصراع القائم، لا سيّما في حال توسعه وامتداده لفترة طويلة. وضرورة التنسيق مع نقابات المستشفيات لتأمين المستلزمات الطبية الأساسية، إضافة إلى المواد التشغيلية، الأدوية والمساعدات العينية، كي لا تصل الأمور إلى نفق مظلم.
أمّا بالنسبة لمعاناة النازحين من مناطق الصراع، فقد أكد بخاش أن هناك لجنة متخصصة، تتابع ملفات مرضى غسيل الكلى والأمراض السرطانية، المسجلين عبر منصة “أمان”، التي تضم مرضى من مختلف مناطق لبنان، مؤكداً أن الأدوية موجودة في وزارة الصحة، ويتم توزيعها على المراكز الجديدة.
كذلك فإن هناك مستشفيات مستحدثة، جهزت بالقدرة القصوى على استيعاب المرضى، مثل مستشفى رفيق الحريري الحكوميّ.
وقد حدد أرقاماً معيّنة لمن يحتاج إلى مساعدة طارئة.
أمّا بالنسبة للنازحين في مراكز الإيواء المختلفة، فقد عيًنت وزارة الصحة فريقاً متخصصاً، يقوم بجولات لوجيستية يومية، ويشمل أطباء عائلة وأطفال.
ويحث نقيب الأطباء المواطنين النازحين، على ضرورة الالتزام بمعايير التعقيم والنظافة المطلوبين، وذلك لتفادي انتشار الأمراض المعدية، وخاصة الأنفلونزا و الكورونا والأمراض الجلدية، التي تتفشى مع قدوم فصل الشتاء.
وطلب بخاش من الدولة تولي المسؤوليات المناطة بها، لجهة تأمين أدوات التنظيف والتعقيم ولقاحات الأطفال، وتجهيز مراكز الإيواء لكافة النازحين عن بيوتهم، وخاصة المتواجدين في العراء الكامل.
وفي حوار أجرته الحصاد مع طبيب الأمراض الداخلية والجهاز الهضمي المتواجد في المملكة العربية السعودية منذ بدء الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان، الدكتور طارق حجازي.
فقد صرح أن السبب الأول وراء هجرته مع زوجته وهي ” طبيبة نسائية أيضاً” وأطفاله، هو الانهيار المالي والمصرفي الذي حصل بعد العام ٢٠١٩ نتيجة فساد السلطة الحاكمة.
لقد هاجر بحثاً عن العيش الكريم، في ظل التراجع الكبير في مداخيل الأطباء، هذا عدا على عدم قدرة القطاعات الاستشفائية على أداء عملها كما يجب، وعدم تمكن الهيئات الضامنة من مواكبة الانهيار الحاصل.
ويُضيف حجازي بأن ما فاقم وضع اللبنانيين هو الحرب الأخيرة التي بدأت قبل عام، ولا زالت تتصاعد فصولاً حتى اليوم، ممّا ضاعف من مآسيهم، وفي ازدياد منسوب الأمراض النفسية والعصبية، فضلاً عن قتلى الحرب وجرحاها، وخروج المستشفيات المهددة من العدو عن الخدمة، الواحدة تلو الأخرى.
يعتقد دكتور طارق بأن القطاع الطبيّ يحاول بإمكاناته المتواضعة الصمود ومساعدة الناس على تجاوز هذه المرحلة الصعبة، لأن الأولوية تبقى لخدمة المرضى والجرحى، وتأمين العلاجات المناسبة لهم.
لذلك فإن استمرار الحرب سيكون كارثياً، خاصة في حال ترافق من حصار جويّ وبريّ، كما حصل في غزة.
أمّا بالنسبة لعودته إلى لبنان، فتبقى مرهونة بعوامل متعددة منها عودة الإستقرار الإقتصاديّ والأمنيّ على السواء، بعد انتهاء الحرب العدوانية عليه والتي لم تتوانى عن تدمير البشر والحجر.
أمّا عن الرسالة التي وجهها حجازي إلى المعنيين في القطاع الصحي المنهك فهي كالتالي:
أخجل من الطاقم الطبيّ، وهو يواجه باللحم الحيّ الحرب والجوع والحصار، متسلحين بمصطلحي الصمود والمواجهة .
وأشدّ على أيدي المغتربين اتأمين المساعدة المادية والمعنوية قدر الامكان، سواء من خلال التظاهرات الحاشدة، المنددة بالحرب والداعية إلى وقف إطلاق النار، أو من خلال إرسال المساعدات العينية من أدوية وغيرها.
ويتابع حجازي:” لا يوجد محتل أو معتد إلّا وهُزِم واندحر وحتماً لبنان سينتصر وسيعود الأمان لشعبه المحب للحياة”.
ولعلّ أهم عبارة تعبّر عن وطن مخلع الأطراف،ومحاصر من الأرض والسماء هي التي رددها السيّد المسيح وهو على الخشبة:
“الٓهي لماذا تركتني “.
يبدو أن لبنان أيضاً متروك لمصبره الغامض والبالغ الصعوبة.