لبنان من الغاز إلى التطبيع

قطاع النفط والغاز في لبنان هو موضوع بالغ الأهمية، حيث يتداخل فيه الشأن الوطني والاقتصادي مع القضايا السياسية والإقليمية. رغم الإمكانيات الكبيرة التي يُفترض أن يمتلكها لبنان في هذا المجال، إلا أن الواقع لا يزال متعثرًا بسبب مجموعة من التحديات والقيود العديدة. منذ أعوام، تم طرح فكرة استكشاف الغاز والنفط في المياه الإقليمية، وكانت هناك آمال كبيرة في أن تساهم هذه الموارد في إحداث تحول اقتصادي في البلاد. ومع ذلك، تواجه هذه الطموحات العديد من العقبات.

من أبرز هذه العقبات هو النزاع مع إسرائيل حول الحدود البحرية، والذي ساهم في تعقيد جهود لبنان لاستغلال موارده. اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المعروفة باسم “اتفاقية ريم” تمثل نقطة تحول في هذا النزاع، ولكن لم يتم تحقيق تقدم كبير في تنفيذها بشكل فعلي.

 تنص الاتفاقية على تحديد مناطق الصيد والاستكشاف بين كلا البلدين، ورغم التوقيع، استمرت التوترات السياسية بين البلدين، مما أثر سلبًا على الثقة في استثمارات القطاع.

حقل قاريش، الواقع عل بعد بضعة كيلومترات بالقرب من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، هو مثال على التحديات التي تواجه لبنان في هذا السياق. ورغم أن القصف المتبادل ظل مستمراً لأكثر  من سنة بين الجانبين، إلا أن إسرائيل استمرت في ضخ الغاز من هذا الحقل، ولم تتعرض هذه المنشآت لأي هجمات، مما يبرز معضلة تحييد اتفاقية الحدود البحرية وقطاع الغاز والنفط عن الحرب وجعل منصة قاريش البحرية بمنأى عن صواريخ حزب الله وقواعد الاشتباك التي تم احترامها بينما كان القصف الاسرائيلي يحصد الدمار في كل البلدات جنوبي نهر الليطاني وشماله وفي ضواحي بيروت وحتى البقاع. هذا الوضع يطرح تساؤلات حول الأسباب المساهمة في عدم إصدار لبنان للمراسيم والاتفاقات الخاصة بإدارة قطاع النفط والغاز المتداخلة والمعقدة.

أولاً، يمكن أن نعزو ذلك إلى عدم الاستقرار السياسي الذي عانت منه البلاد، إذ أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من وضع استراتيجيات واضحة لتحفيز الاستثمار. وإذا سعى لبنان نحو تعزيز الاقتصاد من خلال استكشاف النفط والغاز مستنداً إلى وجود حكومة جديدة قادرة على اتخاذ القرارات الجريئة والمتوازنة، فإن حالة الانقسام السياسي الداخلي والإختلاف حول الموقف الاميركي الطامح إلى تطبيع العلاقات بين لبنان واسرائيل يجعل من الصعب التوصل إلى توافق حول قضايا استراتيجية كإدارة موارد النفط والغاز، واستصدار القوانين اللازمة، مما يسهم في نقل صورة سلبية عن القطاع أمام المستثمرين الخارجيين.

من جهة ثانية، أتت أزمة الفساد وسوء إدارة العوائد الاقتصادية لتكون عاملاً حاسماً في عرقلة التطور في هذا القطاع. يشكك الكثيرون في قدرة الدولة على إدارة الثروات بكفاءة، ويرون أن خطر الفساد قد يؤدي إلى استغلال الموارد بطريقة لا تعود بالنفع على اللبنانيين. هذه المشاعر تغذي القلق بين المواطنين وتعزز الرغبة في وجود آليات رقابية قوية.

إن الإطار التشريعي والتنظيمي الحالي في لبنان يفتقر إلى الكثير من المعايير اللازمة لجذب الاستثمارات. لا توجد قوانين واضحة تتعلق بثروات النفط والغاز، وهذا يتسبب في غموض كبير للمستثمرين الذين يسعون لضخ أموالهم في هذا السوق. هناك حاجة ماسة لتطوير فضاء قانوني يحمي حقوق المستثمرين الأجانب ويسمح للدولة باستغلال الموارد بشكل مستدام وفعال.

وبالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الضغط الدولي من العوامل التي تلعب دورًا في إدارة القطاع. ينبغي على الحكومة اللبنانية أن تكون قادرة على جذب الشركات العالمية، ولكنها تحتاج إلى أن تقدم الضمانات اللازمة لتأمين استثماراتهم. وهذا يجعل الأمر أكثر تعقيدًا، بما أن النزاعات الإقليمية قد تؤثر على أعين المستثمرين.

من المهم أيضًا تسليط الضوء على الجانب الاقتصادي في لبنان، حيث لا يمكن اعتبار قطاع النفط والغاز معزولاً عن التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها البلاد. الاقتصاد اللبناني يعاني من أزمات متعددة، مثل ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وزيادة معدل البطالة. هذه الظروف تؤثر على قدرة الدولة في تطوير القطاع وخلق بيئة استثمارية محفزة. إن عدم استقرار الليرة يقلل من جاذبية لبنان كوجهة استثمارية، ويجعل الشركات الأجنبية تتردد في الدخول إلى السوق اللبنانية.

أما فيما يخص الثروات الهيدروكربونية، فإن التعزيز الفني والتكنولوجيا يعد أمرًا بالغ الأهمية، إذ يحتاج لبنان إلى تحقيق شراكات مع شركات النفط العالمية التي تملك الخبرة والتكنولوجيا اللازمة لتطوير هذا القطاع. هذه الشراكات يمكن أن تُسهم في تطوير البنية التحتية اللازمة لاستغلال الموارد، بما في ذلك توفير المعدات والتقنيات المستخدمة في التنقيب والإنتاج.

في سياق التحديات البيئية، يمثل الحفاظ على التوازن بين استغلال الموارد وصحة البيئة تحديًا كبيرًا. من المهم على لبنان أن يعتني بقضايا البيئة ويضمن أن تُطبق التقنيات الحديثة بشكل يحمي البيئة المحلية ويقلل من التأثيرات السلبية. هناك حاجة ماسة لتنمية استراتيجية تتعلق بالطاقة المستدامة، وهو ما يحول دون الإضرار بالموارد الطبيعية وكوكب الأرض.

وعندما يتعلق الأمر بمعالجة الأزمات التي يمر بها لبنان، يصبح البحث عن مصادر تمويل فعالة أمرًا ضروريًا. يمكن أن يصبح التعاون مع المنظمات المالية الدولية عنصرًا مؤثرًا في دعم القطاع. يجب أن تسعى الحكومة اللبنانية إلى الحصول على الدعم من هذه الجهات؛ وهذا يتطلب منها الالتزام بكفاءة إدارة الموارد المالية وضمان استخدام العائدات الناتجة عن النفط والغاز في تحسين قطاع الخدمات والبنية التحتية.

على المجتمع اللبناني أن يتقبل إحداث التغيير في التصورات حول إدارة الموارد. لذلك، يجب تعزيز الوعي بضرورة تفعيل الشفافية والمساءلة، حيث يعد الوقوف على درب الدعم المجتمعي ومشاركة المواطن في القرارات الاقتصادية أمرًا بالغ الأهمية. ينبغي على الحكومة تحقيق مشاركة فعالة وشاملة للمجتمع في القضايا المتعلقة باستغلال النفط والغاز، بما يعزز الثقة ويضمن أن العوائد تعود بالنفع على الجميع.

عندما ننظر إلى مستقبل لبنان فيما يتعلق بقطاع النفط والغاز، تظهر أمامنا مجموعة من التحديات الكبيرة، ولكن هناك أيضًا فرصة هائلة لتحقيق التنمية والازدهار. يتطلب الوصول إلى هذا الهدف وجود رؤية استراتيجية شاملة مع

اتفاق سياسي على إبقاء اتفاقية الهدنة بين لبنان واسرائيل عام ١٩٤٩ إطاراً لأي تطوير وأن لا يقود إلى صيغة التطبيع التي تريدها الولايات المتحدة تلبية للمطالب الاسرائيلية.

تجدر الإشارة هنا إلى مخاوف لدى المترددين امام نقاط اتفاقية ترسيم الحدود لأنها تحمل نقاطاً قد تؤدي إلى ما يشبه التطبيع.  فاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتي تم التوصل إليها بإشراف المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين ، تمثل خطوة مهمة في الجهود المبذولة لحل النزاع حول الحدود البحرية بين البلدين بينما اتفاقية الهدنة تؤكد الحدود البرية ولا تمهد للقرار الأممي رقم ١٧٠١.  وفيما يلي أبرز النقاط المتعلقة باتفاقية الترسيم.

  1. الاشراف الأميركي: قاد المفاوضات بين لبنان وإسرائيل المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، مما يدل على الاهتمام الدولي في هذا النزاع وحرص الولايات المتحدة على تعزيز الاستقرار في المنطقة.
  2. تتعلق الاتفاقية بتحديد الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في منطقة حيوية غنية بالموارد، وخاصة الغاز والنفط. وتهدف الاتفاقية إلى وضع حد للتوترات القائمة وتعزيز التعاون وهو تطبيع في استغلال الموارد البحرية.
  3. مساحة النزاع: تدور النزاعات حول منطقة تمتد لحوالي 860 كيلومتر مربع، والتي يتداخل فيها الحقل الغازي اللبناني “قانا” مع حقل “كاريش” الإسرائيلي. ويعتبر الجانبان أن لهما حقوقًا في استغلال هذه المنطقة.
  4. حقوق الاستغلال: تؤكد الاتفاقية على حقوق كل دولة في استغلال الموارد المحاذية لحدودها البحرية. تهدف إلى تنظيم عمليات التنقيب والاستخراج بشكل يحد من النزاع وهذا مدخل للتطبيع.
  5. تحسين الأوضاع الاقتصادية: إذ تشير الاتفاقية إلى أهمية استغلال الموارد البترولية لتحسين الأوضاع الاقتصادية في لبنان، باعتبار أن هذه الموارد تمثل فرصة لتعزيز التنمية.
  6. إمكانية التعاون الإقليمي: تأمل الاتفاقية في فتح المجال أمام تعاون إقليمي في مجالات الطاقة بين لبنان والدول المجاورة، ما يمكن أن يسهم في استقرار المنطقة.
  7. استمرار المفاوضات: رغم التوصل إلى الاتفاق، يُفترض أن يستمر الحوار بين لبنان وإسرائيل لضمان تنفيذ النقاط المتفق عليها وتجاوز العوائق المحتملة.
  8. التفاهم على آلية التقييم: قد تشمل الاتفاقية التفاهم على آليات لمراقبة وإدارة الاستغلال، مما يساعد على تجنب النزاعات المستقبلية.
  9. استخدام وسطاء دوليين: تم التأكيد على إمكانية الاستعانة بوسطاء دوليين لتنفيذ الاتفاق وضمان الأنظمة الدولية المتعلقة بالحدود البحرية.
  10. مشهد الإقليم: تتغير الديناميكيات في الشرق الأوسط بسرعة، ويمكن أن تؤثر العوامل الجيوسياسية، مثل العلاقات مع إيران ودول الخليج، على تطبيق هذه الاتفاقية.

رغم التوقيع على الاتفاقية، يبقى الوضع معقدًا، لكن وجود إشراف دولي يمكن أن يسهل عمليات التنفيذ ويقلل من احتمالات النزاع. ورغم القول ان على جميع الأطراف المعنية أن تلتزم بالبنود المتفق عليها والبحث عن قنوات تعاون لتعزيز الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط، فإن التطبيع غير المباشر قد ينزلق إلى تطبيع مكشوف لا يحتمله الواقع اللبناني اليوم.

ضمن إطار

إقرار ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يعد إحدى المحطات المهمة في العلاقات بين البلدين، وقد شهدت مسار المفاوضات تطورات عدة. بدأت المفاوضات بشكل رسمي في عام 2020 عندما استضافت الولايات المتحدة، بوساطة المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، الجانبين اللبناني والإسرائيلي في جلسات تفاوضية. جرت الجلسات الأولى في شهر أكتوبر من نفس العام في مقر الأمم المتحدة في الناقورة، والتي وُصِفَت بأنها خطوة تاريخية تهدف إلى حل النزاع حول الحدود البحرية المتنازع عليها.

كانت المفاوضات صعبة ومعقدة، حيث كانت تتعلق بمساحة بحرية تقدر بحوالي 860 كيلومتر مربع، وتركزت حول حقوق الاستغلال في الموارد البحرية من الغاز والنفط. خلال هذه المفاوضات، عمل هوكشتاين على تيسير الحوار بين الجانبين، وكان يُعتبر وسيلة لتخفيف التوترات بين لبنان وإسرائيل وتعزيز الأمن في المنطقة.

على المستوى القانوني الدولي، استندت المفاوضات إلى مجموعة من المبادئ التي تحكم حقوق الدولة في الاستغلال البحري. يُعتبر قانون البحار الدولي جزءاً أساسياً في هذه المناقشات، حيث يكفل للدول حقوقاً محددة بشأن المناطق الاقتصادية الخالصة. يعتمد تحديد الحدود البحرية على المبدأ القائم على خط الوسط، أي أنه يجب أن تكون الحدود واضحة دون استفزاز لأي من الطرفين.

إحدى العوائق الرئيسية التي واجهت المفاوضات هي النزاعات القائمة حول تحديد النقاط الجغرافية للحدود البحرية، حيث كانت هناك تباينات واضحة بين تقديرات لبنان وإسرائيل فيما يتعلق بمساحة البحر وطبيعتها. أبدت الولايات المتحدة رغبة قوية في تعزيز هذه المفاوضات باعتبارها جزءاً من سياستها الرامية إلى استقرار المنطقة وتخفيف التوترات.

بعد عام من المفاوضات، توصل الجانبان إلى اتفاقية ترسيم حدود بحرية في المنطقة المتنازع عليها، حيث وقع لبنان وإسرائيل في 27 أكتوبر 2022 على اتفاقية نصت على أسس تحديد الحدود. يُعتقد أن هذه الاتفاقية تُعتبر وثيقة رسمية تعكس القبول بالأطر القانونية المعتمدة دولياً.

من الجوانب القانونية المهمة في الاتفاق أن أي استفادة من الثروات البحرية ستتطلب التعاون والتوافق بين الجانبين، ويساعد ذلك على تجنب النزاعات المحتملة في المستقبل.