د. ماجد السامرائي
لندن
يتساءل كثيرون من المتابعين للشأن العراقي في مقدمتهم المتابعين والمحللين السياسيين العراقيين عن دوافع الممثلية الأممية جينين هينس بلاسخارت في تغيير خطابها التقييمي الفصلي للحالة العراقية من المهادنة للطبقة السياسية الحاكمة وذيولها من المليشيات الموالية لطهران لدرجة تشرفها بمقابلة زعامات تلك المليشيات في بغداد وهو ما ترك آثارا إيجابية في نفوسهم كاعتراف أممي بوجودهم السياسي والمليشياوي , ولو انها دائما ما بررت اللقاءات المشبوهة لدى العراقيين هذه بأنها جزء من شغل الوظيفة الديبلوماسية بلقاء جميع الأطراف. تحولت اليوم الى منطق الثورة الاعلامية المفاجئة ضد أحزاب وقوى النظام القائم .
لا بد من خلاصة ضوء بالمواقف المتغيرة من المهادنة الكسيحة غير المبررة الى الانقلاب الثوري في خطابها الأخير يوم 4/10/2022 .
قبل الانقلاب الخطابي فبراير 2022
لم تمر أشهر قليلة على توظيف الامين العام للامم المتحدة كونشييير لبلاسخارت الهولندية كممثلة لمجلس الأمن الدولي في بغداد (يونامي ) حتى تفجرت ثورة شباب أكتوبر عام 2019 في العاصمة العراقية بغداد ومدن الوسط والجنوب وقصة استهداف الأجهزة الأمنية للشباب وقتلهم معروفة برعاية رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي ادت الى استشهاد 800 شاب وشابة من بغداد ميدان التحرير وميادين البصرة الصامدة والناصرية وكربلاء وغيرها ،التي ادت الى اجباء عبد المهدي للاستقالة
بلاسخارت خيبت آمال شباب الثورة في ذلك الوقت رغم مظهريتها في النزول الى ميدان التحرير ببغداد وسط المتظاهرين وركوبها السيارة الشعبية للشباب المسماة ( توك توك ) .
المثير للانتباه إن بلاسخارت بدأت شوط المكاشفة النقدية المتصاعدة منذ أواخر شهر فبراير الماضي حتى الرابع من أكتوبر الماضي الذي شكل خطابها وقفة سياسية مهمة لمن يعتقد إنه توجه أممي لنزع الشرعية عن الأحزاب الحاكمة في العراق , فيما يرى آخرون عدم وجدود مثل هذا التحول لصالح الشعب العراقي . ضمن إحاطاتها الدورية في مجلس الأمن الدولي كل ثلاثة أشهر .
24/2/2022 بداية عهد النقد المباشر
قالت بلاسخارت في تشخيصها للوضع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني العراقي ” إن شعب العراق الذي لا يزال ينتظر فرص عمل مربحة ومنتجة وينتظر الأمن والأمان وخدمات عامة مناسبة والحماية الكاملة لحقوقه وحرياته والعدالة والمساءلة والمشاركة الفعالة للنساء والشباب فيما نشهده الان هو العكس عرقلة التغيير والإصلاحات التي تحتاجها البلاد بشدة.”
جاءت إحاطة 17-5-2022 أكثر مواجهة مع المليشيات المسلحة التي سبق أن وفرت لها غطاء أممياً من خلال لقاءاتها المتواصلة مع قادتها لتكشف صراحة ” إن ذريعة تبرير الانسداد السياسي في الوقت الذي تطلق الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة الصواريخ بحريّة واضحة وتنجح في الإفلات من العقاب. اتهمت بلاسخارت المليشيات المسلحة في العراق باستخدام “دبلوماسية الصواريخ”، ما قد تترتب عليها عواقب مدمرة محتملة، بحسب قولها. وأكدت أن العراق ليس بحاجة إلى حكّام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء، داعية في الوقت ذاته إلى ضرورة “تشخيص” الجناة لترسيخ سيادة القانون.
الأكثر عمقاً وتحولاً إن بلاسخارت أخذت تتحدث عن مفاهيم الحكم الرشيد وعدم مطابقته للحالة السياسية التي تقودها الأحزاب الحاكمة في العراق . بدأت تطلق أشبه ما تسمى بحقائق متطابقة مع السياق السياسي العام لكل نظام يدعي الديمقراطية , لكنها غير موجودة بالوضع العراقي , مثلا عدم قدرة الطبقة السياسية على إتخاذ إجراءات فعالة ” لقد تركوا البلد في مأزق طويل الأمد .خيبة أمل الشعب العراقي وصلت إلى عنان السماء .فقد الشعب الثقة بقدرة الطبقة السياسية للعمل لصالح البلد .
الأكثر تحولاً في خطاب بلاسخارت ومكاشفتها أمام مجلس الأمن الدولي إنها جردّت النظام السياسي القائم في العراق من أي قيمة أو بند من بنود علاقة نظام سياسي مع شعبه . وضعت الحكام في خانات اقل ما يقال عنهم إنهم خصوم الشعب وليسوا خادميه . تفصيلات كثيرة لفضائحهم :
- منذ عام 2003، أُهدرت العديد من الفرص لإجراء إصلاح هادف ومطلوب بشدة. وبعد ما يقرب من 20 عاماً، يتوجب على قادة العراق الإقرار بأن التغيير المنهجي أمر حيوي لمستقبل البلاد.
- قبل ثلاث سنوات، نزل العراقيون الى الشوارع للاحتجاج على انعدام الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لقد كان حراكاً على مستوى لم يسبق له مثيل، ولكنه تحول الى مأساة فقد لقي المئات من العراقيين حتفهم وأُصيب عدد أكبر بجروح بليغة، أو تعرَّضوا للاختطاف أو التهديد أو الترهيب.
- إن النظام السياسي ومنظومة الحكم في العراق يتجاهلان احتياجات الشعب العراقي، أو حتى أسوأ من ذلك، يعمل بنشاط ضدها.
- لقد أخفقت الأطراف الفاعلة على امتداد الطيف السياسي في وضع المصلحة الوطنية في المقام الأول. لقد تركوا البلد في مأزق طويل الأمد، مما زاد من تصاعد الغضب المتأجِّج أصلاً.
- كان للشقاق ولعبة النفوذ الأولوية على حساب الشعور بالواجب المشترك. وكنتيجة مباشرة للتقاعس السياسي الذي طال أمده، شهد العراق أوقاتاً حرجة وخطيرة للغاية.
- فقد العديد من العراقيين الثقة في قدرة الطبقة السياسية في العراق على العمل لصالح البلد وشعبه. ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا سوى إلى تفاقم مشاكل العراق.
- مع اندلاع المظاهرات والمظاهرات المضادة تصاعد التوتر لأشهر عدة. وبدأ مؤيدو الأحزاب السياسية وكثير منهم مسلحون ينشطون بشكل متزايد. ولم يكن المرء بحاجة لكرة بلورية ليتنبأ بما يمكن أن يفضي إليه ذلك الوضع. وفي تلك الأثناء كان المواطن العراقي العادي رهينة لوضع لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن احتماله.
- الفساد هو سمة أساسية للاقتصاد السياسي العراقي الحالي، وهو متغلغل في المعاملات اليومية. ولست أنا فقط من يقول ذلك، بل أنه أمر مُقرٌّ به على نطاق واسع. ويمثل الفساد المستشري سبباً جذرياً رئيساً للاختلال الوظيفي في العراق. وبصراحة، لا يمكن لأي زعيم أن يدّعي أنه محمي منه.
- العراق ليس بأي حال من الأحوال بلداً فقيراً، لكن المصالح الخاصة والحزبية تتآمر لتحويل الموارد بعيداً عن الاستثمار المهم في التنمية الوطنية.
حقائق ليست غريبة عن شعب العراق قدمتها بلاسخارت لأول مرة أمام مجلس الأمن الدولي , هي ليست بأي حال من الأحوال محامية عن الشعب العراقي , لكن أي مراقب مسؤول منصف لا بد أن ينقل الحقيقة المرة الي يعيشها شعب العراق وهي مُغيّبة عن العالم بسبب المصالح الغربية والمعايير المزدوجة والمصالح الأمريكية التي كانت السبب الأول فيما وصل اليه هذا البلد .
لكن لو رجعنا الى المداخلة ” الثورية لبلاسخارت وجدناها متناقضة , فمع إنها تدين المنظومة الحاكمة وتدعو الى تغييرها , لكنها بذات الوقت تدعو الى الحوار بين الأطراف السياسية ذاتها , وهو منطق فشل واقعياً لحد اللحظة .
التحوّل في خطاب بلاسخارت نحو الإيجابية منذ شهر فبراير الماضي لم يؤثر على سياسات تلك الأحزاب مما يعني إنها غير مكترثة برسائلها أمام مجلس الأمن الدولي لسبب بسيط : لديهم يقين بأن النظام الدولي وفي مقدمته الدول الكبرى لا يريدون إزاحة المنظومة السياسية في العراق مثلما طالبت صراحة في مداخلتها في الرابع من أكتوبر الماضي . كان بإمكان مجلس الامن بعد الحديث المباشر والوصف الحقيقي للوضع العراقي أن يقود الى مناقشة جدّية داخل المجلس , هناك قواعد دولية خاصة بالوضع العراقي إن حالته ما زلت تحت رعاية المجلس المذكور . بما كان ممكن ان يقود الى تطور يفيد شعب العراق المنتفض ؟ لم يحصل ذلك منذ ثمانية أشهر. فلماذا يتوقع ان يحصل اي تغيير في نمطية سياقات مجلس الأمن ان كان ذلك لا يؤثر على الأمن والسلم الدوليين وفق منطوق الأمم المتحدة المتهالك .
هناك من يُرجع ثورة بلاسخارت الخطابية ضد العهد القائم في العراق لدوافع شخصية كونها قاربت على إنها مهمة الأربع سنوات في العراق , أرادت أن تُكفّر عن ذنوبها تجاه شعب العراق وتقول كلمة حق لصالحه , لكنه سبب ضعيف , لأن مسؤولياتها ليست شخصية .
هناك محللون يعقّبون على الحالة الجديدة بأنها تحصل لأول مرة منذ عام 2003 , يحاولون التفسير بأن ” الإحاطة التي تقدمت بها المبعوثة الأممية أمام مجلس الأمن الدولي تمثل إعلاناً أممياً واضحاً بتحول العراق إلى دولة فاشلة، يتحكم فيها زعماء السلاح، ولغة الحوار فيها دبلوماسية الصواريخ”.
قد تكون مثل هذه الاستعارة صحيحة فيما إذا أراد المجلس بحث الحالة العراقية بموضوعية وإنصاف .
لا نهمل في التحليل والتوقعات لما يحصل من احتمالات السياسات الدولية في المنطقة والعراق مؤثر فاعل فيها خلال الأوقات المقبلة القريبة , يصعب تصور دولي وأمريكي بقاء العراق خاضعاً لإرادة خارجية تنفذها المليشيات المسلحة , إذا ما أريد لهذه المنطقة الاستقرار , لهذا قد لا يبدو إن سيناريو التغيير في العراق نحو نظام يتمتع بالاستقلالية أمراً بعيد التحقيق , وقد يلبي ذلك رغبات شعب العراق وثورته السلمية .
مع جميع الاحتمالات والسينوريوها المحتملة , لكن الاعتراف الحقيقي بما يعانيه شعب العراق أمام مجلس الأمن الدولي تطور مهم على الصعيد الدولي وقد يضعف دعوات حمياية الفاسدين في العراق والتخلي عنهم لاحقاً , وتورط الأحزاب الفاسدة باغترابها عن هذا الشعب وقتل شبابه , يخدم القضية العراقية من دون شك على طريق نيل حقوقه .