لماذا لا يحق لوكالة الطاقة الذرية التفتيش على المفاعل الإسرائيلي؟!

معاقبة إيران على برنامجها النووي وغض الطرف عن نشاط إسرائيل يكشف الازدواجية الدولية وسياسة الكيل بمكيالين

“لا يحق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تفتش على المنشأت النووية الإسرائيلية، وأنا كخبير بالمنظمة حاولت كثيرا أن أدخل بنفسي لمعرفة سبب منع إسرائيل لزيارة مفاعل ديمونة، حينما ذهبنا للتفتيش عن مفاعل ناحال سوريك، لكني لم أستطع وأدركت أن الموضوع أكبر بكثير مما كنت أتخيل!!”..تصريح خطير للدكتور يسري أبو شادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق، وهو صادم ومحبط للمواطن العربي المهموم بما يتعرض له الفلسطينيون من جرائم إسرائيلية واستغلال تفوقهم العسكري في استهداف شعب أعزل لإبادته أو تهجيره من أرضه، ولكنه في نفس الوقت يشي بخفايا النشاط النووي الإسرائيلي السري. ولذلك عندما جاء الرد الإيراني قاسيا على الجرائم والهجمات الإسرائيلية على أراضيها، تهللت الوجوه العربية على أمل الانتقام من الاحتلال وكشف جرائمه أمام العالم وإفشال مخططه في السيطرة على المنطقة بمنطق القوة. وعندما تم استهداف المنشأت النووية الإيرانية ثار التساؤل حول إمكانية الرد بضرب المنشأت النووية الإسرائيلية.

وثار الجدل الكبير حول هذا الموضوع لكن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها العسكري أوقف كل شئ.

واقع الأمر أن الحديث عن القدرات النووية الإسرائيلية يعد من الأسرار العليا على الرغم من وجود مؤشرات ووقائع تؤكد على امتلاك الكيان الصهيوني لسلاح نووي، لكنه يمارس هوايته في الخداع والإنكار بينما يدعمه الغرب بالتمويه وإضفاء طابع الغموض على هذا الأمر حتى لا تكون هناك تفاصيل محددة لخصومه السياسيين.

غموض إسرائيلي وتعتيم أمريكي

ولكن هناك تصريحات كشفت النقاب عن أسرار هذا الموضوع، خاصة أثناء حرب غزة حينما طالب مسؤولون إسرائيليون بضرب الفلسطينيين بالأسلحة النووية. منها تصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو الذي دعا خلاله إلى ضرب غزة بالسلاح النووي والذي أثار موجة من الانتقادات الواسعة ليس دوليا فقط، وإنما في الداخل الإسرائيلي أيضا، ليس إشفاقا على الفلسطينيين، ولكن  لما ينطوي عليه هذا التصريح من اعتراف ضمني يكسر سياسة “الغموض النووي” الإسرائيلي المستمرة لعقود طويلة. وهو نفس ما أكدته تصريحات عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدرو ليبرمان، وهو يدعو إلى محاربة إيران بالسلاح النووي ويطالب بلاده في مقابلة محلية متلفزة بإنهاء سياسة الغموض بشأن إمكانياتها غير التقليدية قائلا :”لايوجد لدينا وقت للسلاح التقليدي”.

وقبل ذلك بسنوات طويلة وتحديدا في عام 1986 قدم موردخاي فعنونو، أحد الفنيين الذين عملوا في موقع ديمونة- الذي يضم مركز أبحاث الطاقة النووية الإسرائيلية-، أول تقرير علني مُفصّل عن البرنامج النووي الإسرائيلي، ونشر صورا التقطها هناك لمكونات الأسلحة النووية، وهو ما انتهى بمعاقبته باختطافه من إيطاليا، لتسجنه إسرائيل لمدة 18 عاما، قضى معظمها في الحبس الانفرادي، ثم مُنع بعد ذلك من السفر إلى الخارج أو التعامل مع الصحفيين الأجانب.

ويبدو الدور الأمريكي الأساسي في التغطية والتستر على النشاط النووي الإسرائيلي والذي تعتبره أمريكا من الأسرار العظمى. و ذلك ما أكده المؤرخ الإسرائيلي الأميركي أڤنر كوهين في كتاباته بأن التزام الولايات المتحدة بسياسة عدم الكشف الرسمي عن وجود أسلحة نووية في إسرائيل نشأ عقب اجتماع تم في سبتمبر 1969 بين الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل وقتها جولدا مائير. وصرح أن الطرفين توصلا إلى اتفاق ينص على أن إسرائيل لن تُجري اختبارات نووية لأسلحتها أو تعلن عن وجودها، مقابل ألا تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل للتخلي عن هذه الأسلحة أو للتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وتتوقف عن تفتيش موقع ديمونا الذي يضم مركز أبحاث الطاقة النووية في منطقة النقب في إسرائيل.

وهو نفس ما أكده عالم الفيزياء فيكتور جيلينسكي، المفوض السابق في اللجنة التنظيمية النووية الأميركية خلال إدارات الرؤساء جيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريجان، حيث قال إن صمت الولايات المتحدة بشأن الأسلحة النووية الإسرائيلية، جاء بموجب اتفاق بين نيكسون وجولدا مائير.

وكانت الصدفة وحدها سببا لكسر حالة التعتيم الأمريكي الرسمي والمتعمد على البرنامج النووي الإسرائيلي، وذلك بعد أن أصدرت وكالة المخابرات المركزية (CIA) تقريرا استخباريا عام 1979 بعنوان: “آفاق مواصلة انتشار الأسلحة النووية”، وجاء فيه بالنص: “نعتقد أن إسرائيل أنتجت بالفعل أسلحة نووية، وذلك استنادا إلى مخزونها الهائل من اليورانيوم، بالإضافة إلى برنامجها لتخصيبه، واستثماراتها في نظام صاروخي باهظ التكلفة قادر على حمل رؤوس حربية نووية”. ونشرت وقتها صحيفة “نيويورك تايمز”: أن”وكالة المخابرات المركزية صرحت أن إسرائيل تملك بحوزتها قنابل نووية”، بينما نشرت صحيفة “واشنطن ستار” ما يفيد أن إسرائيل عضو في النادي النووي منذ عام 1974.

نفس سياسة التكتم والتعتيم على الأسلحة النووية الإسرائيلية يتبعها الكونغرس الأميركي. عندما نشرت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تقريرا عام 2008 عن سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط، تناول التقرير كلا من المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، بينما غض الطرف تماما عن إسرائيل ولم يتطرق إليها متجاهلا نشاطها النووي.

ويوجد تقرير أمريكي وحيد ينص بوضوح على أن المشروع الإسرائيلي في ديمونة يشمل مصنعاً لإعادة معالجة البلوتونيوم ويرتبط ببرنامج أسلحة، وهو تقرير استخباراتي صدر في نهاية 2024 كشف عن وثائق رفعت عنها درجة السرية صادرة عن أرشيف الأمن القومي الأمريكي وأفاد بأن الولايات المتحدة تعرف منذ ستينيات القرن الماضي أن إسرائيل يمكنها إنتاج بلوتونيوم صالح للاستخدام في صنع الأسلحة في مركز “ديمونة” الإسرائيلي للأبحاث النووية. كما أشار الرئيس كارتر في مذكراته إلى وجود اعتقاد قوي لدى العلماء الأمريكيين بأن الإسرائيليين أجروا تجارب تفجير نووي فعلية في المحيط القريب من الطرف الجنوبي لقارة إفريقيا.

لائحة سرية وتحذير للموظفين الأمريكيين

جدير بالذكر أنه توجد لائحة سرية، وهي “نشرة تصنيف وزارة الطاقة WPN-136 بشأن القدرات النووية الأجنبية لمنع الموظفين الأميركيين من الحديث علناً عن ترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية بهدف حماية مصالح الأمن القومي. كما أصدر البيت الأبيض لائحة لتهديد جميع الموظفين بمن فيهم المتقاعدون بإجراءات عقابية إذا تحدثوا في هذا الموضوع وهو ما كشفه كتاب “صيد الأسلحة النووية” لأحد ضباط المخابرات الأمريكية الذين ساعدوا في منع حصول كوريا الجنوبية على أسلحة نووية، وهو الكتاب الذي طالب البنتاجون بحذف ما به من إشارات إلى البرنامج النووي الإسرائيلي. وهو نفس ما كرره البنتاجون مع العديد من الوثائق والمذكرات الأرشيفية التي  كتبها دبلوماسيون أميركيون، حول ضرورة إجراء محادثات إقليمية لنزع السلاح النووي في الشرق الأوسط.

هذه السرية التي ألزمت بها أمريكا نفسها زادت أطماع الدولة الصهيونية وجعلتها تتبجح في الضغط على الرؤساء الأمريكيين لغض الطرف عن نشاطها النووي عبر السنين.

وهناك انتقادات واسعة لهذا النهج الأمريكي في التستر على النشاط النووي الإسرائيلي من خبراء ومحللين أمريكيين منهم ريتشارد لوليس، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA والمساعد السابق لوزير الدفاع الأميركي لشؤون آسيا والمحيط الهادئ، وهنري سوكولسكي، المدير التنفيذي للمركز التعليمي لسياسة منع الانتشار، ووليام بور، المحلل البارز في أرشيف الأمن القومي بجامعة جورج واشنطن، والذين يعتبرون أن استمرار هذا النهج الأمريكي تجاه النشاط النووي الإسرائيلي يعد أمرا غريبا وضارا في نفس الوقت.

بداية المشروع النووي الإسرائيلي

بعد إعلان الكيان الصهيوني إقامة دولته على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 لم يضيع بن جوريون أول رئيس لحكومتها الوقت وسرعان ما بدأ في خطة تأسيس النشاط النووي حيث قام جيشه بعمل مسح جيولوجي لصحراء النقب عثر  خلاله على نسبة من اليورانيوم في مناجم الفوسفات بالمنطقة. توازى ذلك مع استقطاب للعلماء المتخصصين للإشراف على المشروع، وتم اختيار إرنست ديفيد بيرجمان الألماني الأصل لرئاسة هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية عام 1952 وهو نفسه الذي ترأس إدارة البحث والبنية التحتية التابعة لوزارة الدفاع، والتي تحولت عام 1985 إلى هيئة تطوير التسليح “RAFAEL” وتم تكليفها بتصنيع قنبلة نووية. انضم إلى بن جوريون وبيرجمان شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق والذي كان يتولى وقتها منصب مدير وزارة الدفاع، وشكل الثلاثة هيئة عليا لإدارة البرنامج النووي الإسرائيلي آنذاك.

ولعبت فرنسا وأمريكا دورا كبيرا في دعم البرنامج النووي الإسرائيلي. ففي عام 1955 وافقت الولايات المتحدة على بيع مفاعل أبحاث تحت رعاية برنامج “الذرة من أجل السلام” إلى تل أبيب، وعلى الرغم من أنه لم يكن مسموحاً لإسرائيل بموجب اتفاق البيع، إنتاج عنصر البلوتونيوم، إلا أن تقريراً سرياً لبيرجمان كشف لاحقاً نية تل أبيب تحويل مفاعل الأبحاث الأميركي كنواة لمجمع أبحاث نووية أكبر. وفي عام 1957 شرعت فرنسا في بناء مفاعل نووي بطاقة 24 ميجاواط لإسرائيل، واشترت تل أبيب من النرويج 20 طناً من الماء الثقيل اللازم لسلسلة التفاعلات النووية، كما ساعد مهندسون فرنسيون في تشييد منشأة النقب للأبحاث النووية قرب ديمونة التي عاش بالقرب منها سرا ما يقرب من 2500 فرنسي في تلك الفترة للعمل في تخصصات مختلفة ومحظور عليهم التواصل مع الخارج إلا عبر عنوان وهمي في أمريكا اللاتينية. ويؤكد المؤرخ الإسرائيلي آفنر كوهين أن هناك قرائن تشير إلى حضور علماء إسرائيليين أول تجربة فرنسية لتفجير قنبلة ذرية، في منطقة صحراوية جنوب غربي الجزائر عام 1960.

أكثر من نصف قرن مرت على بداية التخطيط للبرنامج النووي الإسرائيلي ولازال التطوير مستمرا حتى أشارت مراكز متخصصة إلى احتمالية امتلاك الكيان الصهيوني لما يقرب من 100 رأس نووي حربي إلى جانب امتلاك أسلحة نووية تعتمد على الكميات الكبيرة المنتجة من البلوتينيوم، وكذلك كميات اليورانيوم الكبيرة التي تم نقلها من أمريكا بشكل يثير المخاوف على أمن المنطقة.

ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين

رغم كل القرائن والمعلومات وشهادات العلماء والسياسيين الدالة على وجود سلاح نووي في إسرائيل لم يتعرض الكيان الصهيوني لأي ضغط دولي للتخلي عن نشاطه كما حدث ويحدث مع إيران، ولم تستطع جهة معنية بالتفتيش الدخول إلى الأماكن المشتبه بها داخل إسرائيل حتى ولو لإبعاد الشكوك عنها.

المثير في الأمر أن العالم الغربي يقف ضد إيران بحجة منعها من امتلاك أسلحة نووية بينما يغض الطرف عن ترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية التي تهدد منطقة الشرق الأوسط وشعوبها. وفي الوقت الذي حركت فيه الولايات المتحدة أساطيلها حول العالم وقامت بتوجيه ضربة للمنشأت النووية الإيرانية لمجرد الشك رغم استعداد إيران للتعاون والتفاوض قبل الحرب، ومع ذلك لم تحاول الولايات المتحدة ولا أي دولة غربية محاسبة الكيان الصهيوني على نشاطه النووي والتعامل معه بالمثل.

والمثير للسخرية أن إسرائيل التي سعت منذ نشأتها السرطانية لامتلاك سلاح نووي تمنع غيرها من الحصول عليه وتنصب نفسها قاضية بتوجيه ضربات لدول مثل إيران دون أن يحاسبها أحد.

والأكثر غرابة أنه مع كل ذلك لا يحق للهيئة الدولية للطاقة الذرية أن تتخذ أي موقف تجاه التهديدات الإسرائيلية لأمن الشرق الأوسط بسبب نشاطها النووي! فأي تناقض وأي ازدواجية نعيش فيها ولماذا الكيل بمكيالين؟!

الدكتور يسري أبو شادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا يشرح السبب في هذا التناقض قائلا أنه في الوقت الذي التزمت فيه دول العالم بالانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والتي يتم بمقتضاها محاسبة من يخالفها، فإن هناك أربع دول لم تصدق على المعاهدة وهي الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، ولذلك لا يحق للوكالة دخول هذه الدول والتفتيش على نشاطها النووي إلا وفق اتفاقيات خاصة بأجزاء معينة من المنشأت في حالة دخول أجهزة إليها كما حدث عندما حصلت إسرائيل على مفاعل ناحال سوريك وبعض الأجهزة من الولايات المتحدة الأمريكية فكان التفتيش على هذا المفاعل فقط ولم نستطع دخول مفاعل ديمونة مثلا لأنه غير معلن للوكالة رغم أنه المركز الأساسي لإنتاج الأسلحة النووية. وعليه فإن إسرائيل تحصل على فرص لتطوير نشاطها النووي بعيدا عن أعين الرقابة الدولية بحرية لعدم توقيعها.

وفي المقابل تتم معاقبة إيران كدولة مارقة بسبب توقيعها على الاتفاقية والتي تنضم إليها الدول للاستفادة من مزايا العضوية التي تتعلق بالحصول من الوكالة على برامج مهمة للتعاون النووي وعمليات نقل الوقود النووي وشرائه بجانب الاستفادة من الوضع السياسي للدول الموقعة.

وكانت هناك محاولات دولية لإجبار إسرائيل على التوقيع على المعاهدة لولا تدخل الولايات المتحدة وحلفائها لإفساد القرار باستخدام الفيتو.

وهنا يأتي السؤال عن الدور العربي في مواجهة هذا السلوك الصهيوني، فإذا كانت إسرائيل تمتلك السلاح النووي حتى لو لم تعترف فإن ذلك لا يعني أن يقف العرب مكتوفي الأيدي فالحل لن يأتي بدون موقف صارم وجماعي منهم ضد التعنت والصلف الإسرائيلي.

فلابد أن يغير العرب وكل الدول المعنية بالأمر في المنطقة أسلوب التعاطي مع هذه القضية، ويتخذوا موقفا يوحي بالغضب والتهديد أو حتى التلويح بالخروج من الاتفاقية ردا على عدم توقيع إسرائيل ورفض استجابتها للمجتمع الدولي للضغط على الدول الكبرى المتواطئة مع الكيان الصهيوني والمتسترة على نشاطه النووي.