لم اغش ، لذلك امتلك رصيداً شعبياً .

ما قاله مارسيل خليفة ل” الحصاد ” :

منذ “وعود من العاصفة” اول صادر لمارسيل خليفة في باريس ، بان الملمح المختلف من خلال الشرط المختلف لتخصيص نوع آخر من الأغاني، على الصعد الظاهريّة والصعب العضوية . ذلك ان ما قدمه خليفة لا علاقة له بالحد الأقصى من اليقظة الموسيقية فقط، له علاقة بالصراع الطويل في لبنان بين يمين الدولة ويسار المنظمات والهيئات اليسارية . لم يُرهق من شغله في الموسيقى ولا في المعهد الوطني للموسيقى كاستاذ لمادة العود . ذلك أنه وجد في كل ذلك رؤاه القصيرة والمتوسطة المدى والطويلة . ما أرهقه ، ما أحسسه بالإعياء الكميت غربته الداخلية في عمشيت ( شمال لبنان ) من سيطرة الكتائب والأحرار عليها . ما دفعه ، بعد تعرضه للمضايقة والتهديد الجسدي والمعنوي إلى أن يهجر منزل الوالد والوالدة ( الأخيرة ذات موقع عاطفي خاص في حياته ) إلى العاصمة الفرنسية ، حيث وجد حلوله

مارسيل خليفة

الإبداعية بلا تنازلات ، حين لم يجد حلوله الإقتصادية . من لا يعرف ما عاناه في باريس من الإكتفاء بأقل مما اعتاده . لم يقدم تنازلات في مشكلته الثانية . مشكلة الإقامة في أرض أخرى ، في وطن آخر . هكذا، لم تقده نصوص محمود درويش وحدها ، إلى التخصص في حركة أخرى لم تظهر حركة عارضة في إنجاز الأعمال اللاحقة على أول الإنتاجات، وهي تبقي قضيته في الصدارة . الحرية والديمقراطية والإبداع ، وعلاقة العناصر الثلاثة بفكرة الإستيقاظ على بعضها .

لا يزال الكثيرون يتذكرون عيد الأيمانيته في باريس ، احتفال الحزب الشيوعي الفرنسي بانطلاقته في مهرجان هو الأكثر كفاءة في التأقلم مع شيوعيي العالم . في ذلك العام من سبعينيات القرن العشرين ، ظهرت الإشارة الأولى على ما سوف يسمى بالأغنية السياسية. بأغانيها ذات الخصائص الواسعة المجال ، ما ميزه جمهورها منذ أيام إطلاقها الأولى . قام جمهور على دقاتها وهي تطلق موعد ساعتها . جمهور لن يمضي للنوم مجدداً ، في ريش الأغاني العاطفية . أغاني عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش والسيدة ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد فوزي وشادية . كل من وجد في رؤاها . حققت الأغاني السياسية ما لم تحققه افكار قديمة اعتاد الفنانون انفاقها في أوقاتهم . أضحى للأغاني السياسية جمهورها . لن ينكره أحد ، لا لم يستطع أحد إن ينكر جمهورها ، لأن جزءاً واسعاً منه ساهم في وجودها ، من ما اقتضاه الموقف فعلاً . أغاني مثيرة ، مشيرة إلى انتصاف الظلام على أغاني الغرام أمام نبض قضايا مراتب الصدارة . بقي جزء في أغاني كيفيات التوزيع القديمة . جمهوران أذن ، ولكن جمهور الأغاني السياسية ما في وارد التنازل ولا تقديم التنازلات . لن يجيع نفسه بعد إلى حد الموت . إذاك ، جرى استخدام الإستحالة في خفض حضور الأغاني العادية . غني عن القول أنها فقدت الكثير من وزنها في تلك المرحلة الملتهبة من تاريخ لبنان المعاصر . لن يتكوم جمهور أمام أغانيه . لأن التأقلم مع الحرب استغرق أوقات واسعة من حياتهم .

لم تنطلق الأغنية السياسية من الصفر المطلق وهي في الطريق إلى الصفر المطلق مع اتفاق الطائف. لن تعود قوية بحلوله. ولكن مارسيل خليفة اذ راح يخفض من وتائرها في حياته في صالح التأليف الموسيقي الأوركسترالي ، واظب على جزء منها بأفضل عوالمها. وصل سيره في الأغاني السياسية ، كما يواصل أميركي سيره في الحي الصيني . لأنه امتلك إلى مواده ، مجالات التنظير الخاصة بها . وهي مجالات سياسية ، حين هطلت في حياته في فهم طبيعتها وتناسبها وطبائع الإلتزام الحزبي في الحزب الشيوعي اللبناني . لا حرج في تكوين النفس على الماركسية . بالعكس . لا حرج في تكوين الأغنية السياسة على التعرض لمخاطر العلاقة بين الماركسية والفن مع الواقعية الإشتراكية ذات الصيت السيء .

“ولأن العاصفة وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة” بداية الليالي الصافية للرجل الصافي من لم يرض إن يقضي ليلة تحت سريره . فهم الطبيعة الحقة للصراع السياسي . ثم ، وضع الرأس في ذلك بقراءة لا تزال قادرة على فتح العينين على

لقاؤه بتوأمه محمود درويش

واحدة من أبرز منتجات الحرب الأهلية في لبنان والعالم العربي . وإذ بدأ خليفة في وعود من العاصفة ، لم يبق في ركنها . اذ راح يضع على ركبتيه الأغاني والكاسيتات ( ذلك زمن الكاسيت ) من سقوط القمر إلى سلام عليك . ثم ، أعراس ، وعالأرض يا حكم ، تصبحون على وطن ، ركوة عرب ، الجسر ، أحمد العربي . انها أكثر من فتحة تهوئة في امتلاكها شروطها العلمية إلى صندوقها السياسي الجاهز .

ما اعتزم خليفة القيام به ، عزم عليه آخرون ، ألقتاهم والتقوه ، ليحذو حذوهم ويحذو حذوه ، وهم يخوضون في الحرب ويحلمون ببلاد لا بحارة كما هي أحوال البلاد في مرحلة ما قبل الحرب . خالد الهبر ، أحمد قعبور ، عصام الحاج علي ، اسامة حلاق، ال الحافي ، ال غندور ، حنان مياس ، سامي حواط ، طوني وهبي وغيرهم . أولهم غازي مكداشي مع الكورس الشعبي . متوافقون على قصص لم تلبث أن تذوب في جدران المدينة بعد هجوم السلطات الجديرة عليها بالعام ١٩٩٠ . قصص حياة بأحلام يمطر فيها التغيير في رؤية تفتح العينين على ضيق التنفس في لبنان أعوام الإزدهار ، ما قام السلطويون على التأكيد عليه . إذاك ، ساد الساح ” الكورس الشعبي” و” فرقة الميادين “. والفرقة مع خالد الهبر . ثلاث فرق ، لن تؤدي في نماذج اقتباس ،وهي تدرك المتلقين بما يدعو إلى اكتشاف غير المكتشف ويدعو إلى سعادة الإكتشاف . لا شيء مقتبس في أغاني الرجال . لا شيء سوى وهج الثورة والثوار . من تشي غيفارا إلى الرفيق ماو . بيد أن ثمة اسم جاء من طريقته الخاصة في فهم الأغاني وتقديمها بدون تجنب الأغاني الأخرى : فيكتور خارا. المغنى التشلياني المعروف ، نصير الرئيس الليندي من قتله عسكر الديكتاتور بينوشيه في ملعب كرة القدم العاصمي أمام عشرات الاف المرتعبين من بطش عسكره . قطع أصابعه . ثم ، قتله ورمى جثته في معلم من المعالم التقليدية للفاشية. قدم الرجل أغنيته ، أغنية سياسة ، سياسية من لقائها الإستثنائي باللحظة السياسية الدراماتيكية في تشيلي، حالها حال الأغنية السياسية في لبنان في كراريسها الحمراء في لحظاتها الطارئة . لم تغلق الأغاني على مايوجد بعيداً من الراحة كل البعد في طقوسها الحارة بعيداً من الطقوس

تصبحون على وطن

القديمة . لجوء إلى طلب التغيير السياسي في الأغاني ، كما وجد في البرنامج المرحلي للحركة الوطنية في لبنان. أغاني تطغى على الدواخل ، لذا لن تدوم يوماً وهي تخرج بأنفها إلى رحاب الحياة .

لم يبق اليوم من مغني الأغنية هذه سوى مارسيل خليفة . مع حفلات متقطعة لخالد الهبر . لا يزال خليفة على نموذجه ، ولكنه لا يزال يطوره ، سواء في ” مديح الظل العالي ” . أو في الإصدارات الموسيقية من سيمفونية الشرق وجدل ، حلم ليلة صيف ، تقاسيم ، بساط الريح . مشاريعه الموسيقية جنس آخر . خصوصاً في منهاجه الجديد المؤلف للعود . الآن يعمل على ” الجدارية “. جدارية محمود درويش. يقول ل” الحصاد ” إنها استغرقت أوقاتاً طويلة ، أنها استنزفته ، انها غماره الجديد بعيداً من تصفح الصفحات القديمة .

لا يسير الرجل لمجرد متعة السير . لديه مشروعه . إنه صاحب مشروع ، راكم فيه في الإحتجاج والعلم والإبداع . لم تتقوس أغانيه بعد بداية ، عرف فيها المشاكلة والعيش في ظروف صعبة وقاسية.بلقائه بالحصادكلام يقدم البنيات الداخلية لتجربة امتدّت على مدى اكثر من أربعين عاماً . لذا ، حين قرأت ما دونت في حواري مع الموسيقي ، المؤلف والمؤدي ، لم أجد سوى أن الاسئلة لا تفعل سوى التقليل من سرعة الإندفاع . لذا ألغيتها ، تاركاً للأجوبة أن تروي ما أتاح من سيرته الداخلية ومسيرته في هوائه الطلق . كلام في هواء طلق . هذا عنوان . ولكن العناوين كثيرة ، متروكة للقراءة .

السماع بالنسبة لي أن أدع النّص الموسيقي او الصوت يخرج منّي عفويّاً ولا أرهقه بالقواعد والأصول فأخسره . أكتب بلا تردّد كي ينبلج الشروق المسيّج بالضوء .

لست ناقداً أو باحثاً أو عالماً ، أنا أؤلّف الموسيقى وأعدُّ لها من الأفق المزيّن ما استطعت . كلما عزفت على العود ، سكن الحنين الى المزوّد . اكتب الموسيقى على ورقة النوتة بحبر سرّي . اكتب ما أسمعه وما لا اسمعه في ومضة زمان عجول لا ينتظر . اكتب ما يحلو لي لامهات اوقدن لي شموع الطريق . الى حب أكثر يرث من التسامح ما يفيض . الى عصفور يمعن في الهديل ويهدهدني . الى سؤال مجهول في صوت ديك الفجر . اكتب الموسيقى حين اعجز عن الكلام .

ان روحي وحياتي قد تكونتا من سلسلة الإضاءات والمسوغات التي تؤدي ادوارها دون توقّف في داخلي . ولهذا اترجم ذلك بصوت الموسيقى لأحرّض الناس على التوهّج وبلوغ النشوة .

إنني لا اعرف تماماً كيف اكتب الموسيقى ، مثلما لا تعرف السمكة كيف تسبح . ولا العصفور كيف يطير . ولا الطفل كيف يبدأ بالحبو .

الموسيقى برق يجمع في دواخلنا مشاعل مضيئة . نوع من الانبثاق الداخلي ينبع من داخلنا كما تنبجس الينابيع من جوف الصحراء .

الخصوصية ان تصنع لغتك . الموسيقى بصمات ، والعالم لا يحتاج الى نسخ متشابهة .

الطفولة تخترق نصوصي الموسيقية ، تستعيد عالماً مفقوداً .

في بيتنا الصغير ، البيت الضيّق – الواسع في آن معاً ، كتبت اول اعمالي واسمعتها لامي وابي وجدي وجدتي .

مارسيل خليفة وعبيدو باشا : اللقاء

الورقة المسطرّة بالمدرج الموسيقي كتبت عليها النوتات المليئة بأصوات البحارة والفلاحين وما سمعته وما شاهدته .

ورغم ذلك وإلى اليوم لم اكتب بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها . اسمعها في الحلم . وعندما أصحو ، تضجّ بها أذني بصمت صارخ الى ما لا نهاية . أليس في الموسيقى عبث لا ينتهي ؟!

من مصادر السماع الأولى كان صوت الغجر في خيامهم مع البزق والغناء والرقص الغجري الساحر .

اغانٍ بدويّة ذات حنين جارف . وما زلت الى اليوم ، أسمع صدى تلك الأغاني والايقاعات . وذلك الصدى الجميل الذي عجز الزمن الطويل على إسكاته .

اصوات اولاد الحيّ نغني سويّة على ايقاع التَنَكْ وعلب الحليب الفارغة .

والحنين الى تلك الاصوات في قريتي عمشيت لازمني كل الفترات ومؤلفاتي هي عبارة عن أغاني وموسيقى تتردّد فيها ما حفظته من اصوات البحارّة والفلاحين .

كنت بوعي الصبي الذي كنته ، وعي يحسّ بالموسيقى وينخطف بالأصوات .

صوت جدي العذب في جلسات الطرب وعزفه على الشبّابة .

ووالدي الذي كان يسلطن على صوت العود .

امي بفضلها اصبحت موسيقياً . ولقد لاحظت منذ طفولتي رغبتي في تعلّم الموسيقى .

اتذكّر كيف كانت ترجّع دون انقطاع ترنيمة مملوءة بالحب العظيم لأنام . لقد ترعرعت على تراتيل امي في سرير خشبي تهزّه بيمينها . وكان لصوتها جمال غامض حيث كان يختلط مع صوت الريح الآتي من صوب البحر . ولكن امي رحلت قبل الاغنية وقبل الموسيقى ولم تسمع اعمالي ولم ترى كيف بعثرتُ ايامي في الحقائب والمطارات والمدن البعيدة وقطعتْ الارض مرّات ومرّات كما يقطعها الطائر .

الموسيقى عملية مواجهة . والموسيقي الشجاع ينتصر على حاله ، ولا بدّ أن يجد لغته الجديدة في كلّ زمن .

يجب أن تصل الموسيقى الى كُثُر وليس الى قلّة . وحين يتخلّف أحد عن سماعي أذهب اليه واعتذر . ربما كان الخطأ خطئي . ربما كانت موسيقتي عصيّة على التواصل معه . لذلك أحاول أن أجد معادلة تستطيع أن تجد طريقاً اليه .

انا لا افهم موسيقى تعيش في حجرة تخاف من الناس . الناس هم بداية الموسيقى والنهاية . هم البوصلة التي تحدّد لي الاتجاه . والموسيقي الذي لا جمهور لموسيقاه يكون قد أضاع عنوان الجمهور . والموسيقي الذي لا يستطيع ان يكتب مقطوعة يمكنها ان تتواصل مع الجمهور لديه مشكلة .

أؤمن إيماناً مطلقاً بالذوق العام ، وهو الذي يستطيع أن يقيّم العمل الفني ، يقبل عليه أو يهمله .

تصنيف الفنان ،

لا أحب تصنيف الفنان ، فنان ثوري ، فنان الغزل ، فنان الفخر ، فنان الحماسة . وارفض ان يحدّد لي الآخرون صفتي وهويتي سلفاً . إني لا أؤمن بشيء كإيماني بالحريّة ، ولا أكره شيئاً ككراهيتي لكل ما من شأنه الحدّ من حريتي ، ولو كان متأتيّاً عن طريق المحبة ، بل حتى لو كان يجيء عن طريق الحب . فما قيمة الفنان عندما يريده الناس كما هم يريدون ، لا كما يريد هو ان يكون ! وإلى أي مدى يستطيع أن يلبي الفنان رغبات الناس دون ان ينتقص ذلك من تجرّده الفكري وأصالة لغته وحريته . الى أيّ حد ملزم بالتجاوب مع رغباتهم .

هل أنا ثائرٌ حقاً ؟ نعم ! ولكن ، هل يمكن اختزالي في كوني ثائراً ؟ لا ! فأنا لست هذا فقط . فكما أثور ، كذلك أهدأ . وكما اكره كذلك أحب . وكما اصرخ كالمجنون في أعمالي ، كذلك أهمس كالطيف او اختنق كالغريق . إنها معركة بيني وبين اصالتي وامتحان لشجاعتي الروحيّة . أنا هائم بحريتي هيام المأخوذ ، لا اتملّق الحمهور ولا استجدي التصفيق . لست ضعيفاً أمام محبتهم لي . أفضّل حريتي على اعجاب الناس . أعيش أرقاً دائماً ، ولا ألين للمساومة .

إنني لا أعرف تماماً كيف أكتب الموسيقى ، مثلما لا تعرف السمكة كيف تسبح . ولا العصفور كيف يطير ، ولا الطفل كيف يبدأ بالحبو . الموسيقى برق يجمع في دواخلنا مشاعل مضيئة . زلزال يضربنا حين لا نكون في انتظاره . عملية تلقائية . نوع من الانبثاق الداخلي ينبع من داخلنا كما تنبجس الينابيع من جوف الصحراء . الزيف والغش الفني أرفضه نهائيّاً . وإذا كنت أملك هذا الرصيد الشعبي . فسببه أنني لم أغش في ورق اللعب . أمشي عارياً تحت الشمس . باقٍ في وجدان الناس ولا يعنيني أن أبقى في ذاكرة ناقد . أتوجّه الى المنبع الى الناس . اذا استطعت ان اصل الى سماع وجدان الناس اكون قد نجحت . تعبت لأخترع لغتي خلال كل تلك السنوات ، وتعبت لتكوين حالة تُعرِّف بي وأُعرَّف بها . الخصوصية ان تصنع لغتك . الموسيقى بصمات والعالم لا يحتاج الى نسخ متشابهة .

الطفولة ،

الطفولة لا تكتب مرة واحدة ، إنها تخترق نصوصي الموسيقية . تستعيد عالماً مفقوداً . حتى لو كانت الطفولة بعيدة دائماً . والتذكّر يقربها ويجملّها ، او نلبسها الجماليات التي ربما لم تكن موجودة فيها . كأن نتذكر البيت الصغير ، ومسافة البعد تجمّل الماضي على نحو تجعله وكأنه هو هدف الأحلام التي نخترعها لنتغلّب على وطأة الراهن الثقيل .

في بيتنا الصغير ، البيت الانساني الضيّق – الواسع في آن معاً ، كتبت اولى اعمالي .

الورقة البيضاء المسطرّة بالمدرج الموسيقي وقلم الرصاص والممحاة كتبت عليها النوتات المليئة بأصوات من سكن وزار هذا البيت وما سمعته وما شاهدته ، كان حيزاً صغيراً لتمرّ من خلاله ذاكرتي ومجازي والاستعارات والرمزيات كلّها ، متقاطعة وقادمة من نتاج مكتوب سلفاً هناك .

لا أبدأ من بداية ، بل اواصل بدايات كتبتها هناك .

اليوم ، أبحث عن موطىء قدم في زحام العالم والتاريخ . أصعب شيء اليوم ، هو كيف تحقق نفسك على نحو خاص وسط هذا الزحام . عندما كنت صغيراً ، كنت أجرؤ ان اكتب ولم يكن عندي معرفة بكل ما اقوله بالصوت والايقاع . طفولتي الموسيقية لم يكن لها قصديّة معرفيّة تسبقها . كنت احب الموسيقى ، وكان جدي يحب الموسيقى . كنت أسمعه وأحلم ان اشاركه ، وبدأت أقلّد ما أسمعه وأكتب على منواله . شجعتني امي بدورها كذلك ، ولم اكن اعرف بعد انني سأصل إلى حد الحرفة ، كنت اعتقد أن الموسيقى ستبقى هواية . لا يمكن لأحد أن يقرّر سلفاً بأنه سيكون موسيقياً ، وحتى الآن ورغم هذه الطريق الطويلة ، ما زلت أنوس بين الهواية والحرفة ، بقيت هاوياً ومحترفاً في آن معاً .

الوقت ،

الوقت ، أنتبه اليوم الى الوقت اكثر من اي زمن مضى ، كل يوم يمرّ ولا اعمل فيه ، أشعر بإحباط شديد ، علمني العمر أن أحتسب الوقت بدقّة بحثاً عن الموسيقى الصافية . الموسيقى المتحررة من عبء تاريخها . من عبء الواقع . فبتّ أسعى للبحث عن الجوهر والعمق . علينا ان نحاول التصديق بأنهما موجودان . بحثاً عن الموسيقى المستحيلة .

لم أكتب بعد الموسيقى التي أحلم بكتابتها ، اسمعها في الحلم . وعندما أصحو ، تضجّ أذني بصمت صارخ الى ما لا نهاية . اليس في الموسيقى عبث لا ينتهي ؟! فهل اصدق نغمي المصنوع من ريشة العود ؟ أعود الى رندحات جدي الذي علمني ركوب البحر في عزّ الشتاء ، واكتب .