بين المثَل العربي القائل إنّ “الوطن تميته الدموع وتحييه الدماء”، والمثَل الإنكليزي “الأوطان ليس لها مكان”، تضيع الهويّة الجديدة للأوطان ويلتبس التوصيف على ساكنيها. لاسيّما أنّ طوباويّة فكرة الوطن أضحت تنتمي إلى مجموعات بشريّة لا بدائل لها تقايض بها وتساوم عليها. كل ما تمتلكه هو قُدسية الفكرة ورومانسية الحالة ونوستالجيا الذكرى، كأنّ الوطن هو أعظم ما ملكتْ يُمناها، لأنّ بيُسراها تمسك بما تبقّى من حياة كريمة.
بين المفهومين، تتّسع هوّة الغربة. وهي القائمة، لا محالة، عند “الوطنيّين” ذوي التعلّق بالتراب لأنه الذهب الوحيد المتبقّي، وعند “المواطنين” المُعولمين الذين ينشدون الوطن في أيّ قطعة أرض في العالم يسمّونها وطنهم، فالرّزق هو الهدف وليس الذكريات الجميلة، حتى وإن بقي الوطن هو المكان الذي قد تغادره أقدامهم وتظل فيه قلوبهم.
صارت الغربة معادلة ملتبسة، ولم تعد كلمة تُدمي الجوارح عند التلفّظ بها. فهل ما زالت: “الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة” على قول الإمام علي بن أبي طالب؟ أم “انتهى الزمن الذي كان فيه أهلنا يخافون علينا في الغربة، وأصبحنا نحن في غربتنا نخاف عليهم في الوطن” كما يقول دوستويوفسكي؟
ماذا عن الذلّ في الوطن، أليس هو الغربة الأوجع؟ ماذا عن الحزن في الوطن؟ عن الجوع عن البرد عن جرح لا يندمل، ماذا عن الخوف والقهر والقمع والبكاء؟ وماذا عن القتل والعنف والنهب والفساد؟ وماذا عن أسوأ الموبقات في الأوطان العربية، أليست هي الغربة متجسّدة؟
أمّا وقد أصبحت أوطاننا أقدارًا لا مفرّ منها للبؤساء والفقراء والمهمّشين والمتعبين في الأرض، وقد رُسمت على جباههم خرائطها، ونُحتت فوق ترابها شواهد قبورهم، ورُمّمتْ سِماتُهم لتتناسبَ مع حزنها، وأمّا وقد صُنعت لمآسيهم زوارق متواطئة مع البحر ومتآمرة مع الموج، فإنّ الوقت قد حان ليعبر المساكين جسور الوطن الوهم. لأنّ بعض الأوطان هكذا، يقول الشاعر، “الدخول إليه صعب، الخروج منه صعب، البقاء فيه صعب وليس لك وطن سواه”.
العدد 129 / حزيران 2022