مطلع اغسطس كان الفلسطينيون يختتمون محاولة جديدة من محاولاتهم المزمنة لرأب الصدع الذي حدث قبل سبعة عشر عاما بالصراع الذي دار في قطاع غزة وانتهى بقيام الحركة ذات التوجه الإسلامي “حماس” بطرد السلطة من القطاع عام 2007 منذ ذلك التاريخ لم تتوقف حواراتهم إذ باتوا يفعلون بأنفسهم ما تفعله بهم اسرائيل من مفاوضات مزمنة قبل أن تتوقف تماما على يد رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو .
منذ ثلاثة وتوقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل دخلت السياسة الفلسطينية في نفق طويل فقد حدثت الإنعطافة الأكبر في المسار التاريخي الذي تشكلت على أساسه جميع البنى السياسية الفلسطينية التي قامت على أساس الصدام مع اسرائيل وتحرير فلسطين متخذة من الكفاح المسلح وسيلتها للتحرير .
مأزق الفلسطينيين تجلى في السنوات الأولى لتشكيل سلطة بعد الاتفاق لحظة اكتشاف الهوة الكبيرة بين أحلام الفلسطينيين ونوايا اسرائيل فقد بلغ الحلم الفلسطيني حداً من الإعتقاد أنه بات قاب قوسين أو أدنى من الدولة فيما كان الدهاء الإسرائيلي يخطط لتحويل هذه السلطة إلى حالة خدماتية دائمة تعفيه من مسؤولية السكان فقط وترفع عنه حرج الإحتلال المباشر فيما يتمدد المشروع الإستيطاني وتتكرس سيطرة اسرائيل على الفلسطينيين ومع الوقت يفقدون فيه تطلعاتهم .
كان منطق إقامة سلطة تحت الإحتلال مخالف لطبيعة الإشياء بل أنه أوقعهم مبكرا أسرى معادلة تتعارض مع استكمال مشروعهم التحرري وتطلعاتهم ليس فقط من حيث تجريدهم من ممكنات الضغط على الإسرائيلي بل أخضعتهم لمعادلة ابتزازية لم تحدث في التاريخ ولخشية الفلسطينيين من فشل تجربة الإدارة وتحكم الإسرائيلي بعوامل النجاح كان السقف الفلسطيني يإخذ بالهبوط ويتأقلم بلاوعي مع مستجدات الواقع ومتطلباته .
تعارض الوطني مع الحياتي حيث تحكُّم اسرائيل بشروط الحياة كان يتحكم في برمجة أولوياتهم لجهة تامين متطلبات نجاح تجربة الحكم ووطأة المسؤولية عن شعب بلغ تناقض المعادلة ذروته بعد قمة كامب ديفيد عام 2000 وهو العام الذي كان يحب أن تكون انتهت فيه المفاوضات بين الجانبين بإقامة الدولة الفلسطينية ليكتشف الفلسطينيون أنهم وقعوا في كمين أراد ياسر عرفات الخروج منه والتمرد على الواقع فكانت الإنتفاضة الثانية تعبيرا عن المأزق وعن الإنسداد الذي حصل لخيارهم الوطني .
بوفاة زعيمهم التاريخي في ذروة الإشتباك مع اسرائيل كان عليهم إعادة لملمة صفوفهم ووترميم غياب من اعتبروه الأب الروحي للمشروع الوطني كان عليهم اجراء الانتخابات عامي 2005 للرئاسة ليفوز قائد حركة فتح محمود عباس تلتها بعام انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 لتنتهي بفوز حركة حماس المعارضة للسلطة واتفاقيات أوسلو التي أقامتها .
ومع الوضع الفريد بإقامة حكم فلسطيني تحت الإحتلال نشا وضع أكثر فرادة عمَّق المأزق على صعيدين الأول أن المعارضة الفلسطينية لإتفاق أوسلو والتي نبَّهت لإستحالة الحكم تحت اسرائيل والكمين الذي وقعت فيه حركة فتح وجدت نفسها بدفع إقليمي تلتحق بذلك الكمين ليقع ما تبقى بين الفلسطينيين في المصيدة وعلى الصعيد الآخر ينشأ وضع أكثر غرابة في نظام سياسي وليد كانت الضغوط الدولية تستحدث للتو منصب رئيس وزراء دون ان يتم توصيف صلاحياته بالتشريع لم يكن ذلك يشكل أزمة قبل انتخابات 2006 في ظل سيطرة حركة فتح على النظام السياسي بمؤسستيه الرئاسية والبرلمانية وعزوف حركة حماس عن المشاركة ولكن بعد فوز الحركة الإسلامية كان ذلك يمهد للصراع بين الحركتين .
مأزق تلك الحظة تولد نتاج الوضع الملتبس حيث أصبحت حركة حماس الأغلبية في النظام السياسي كسلطة ولكنها كانت تعتبر نفسها المعارضة للرئاسة فيما كانت حركة فتح قد فازت بالرئاسة لتصبح معارضة للأغلبية التشريعية وهنا إصبحت كلتا الحركتين سلطة وكلتهاهما أيضا معارضة ليزداد الإلتباس أكثر ومع حداثة تجربة الفلسطينيين وتربص الإسرائيلي الذي يحشو أصابعه داخل الحالة الفلسطينية كان لا بد من فض اشتباك الإلتباس بالصدام لدى حديثي التجربة وورثة الثقافة العربية القبلية في ممارسة الحكم وهذا ما حدث
فبعد الإنتخابات كانت حركة حماس وفقا للقانون هي من يشكل الحكومة لتنشأ حكومة من رحم أوسلو ولكنها لا تعترف بالإتفاق مع اسرائيل في ظل تمسك الرئيس الفلسطيني بتلك الإتفاقيات خاصة أنه كان عرابها منذ أن كانت سرية وما بين التناقض الصارخ في برنامجين متعارضين كان الإنقسام بينهم يتسع ويخلي الحوار طريقه للسلاح بين الإخوة لينتهي الأمر بطرد حماس للسلطة من غزة وإقامة حكمها الخاص لتنحسر سيطرة التيار الوطني وحركة فتح في الضفة الغربية وينشأ نظامي حكم متنافسين جعل الإسرائيلي من هذا التنافس مادة لإبتزاز الطرفين ووسيلة لتطويعهما مستغلا خوف كل منهما من الآخر وخشيته من سقوط تجربته ونجاح تجربة الخصم وكانت مأساة الفلسطينيين أن الإسرائيلي من يتحكم بالنجاح والفشل .
حدث الإنشطار بين الفلسطينيين وتعرض نموذج حكم حركة حماس للعزل والحصار حيث استغلت اسرائيل عدم اعترافها بالإتفاقيات لتمارس عملية الحصار بمصادقة المجتمع الدولي لتصبح حركة حماس المزهوة ببرنامجها ” برنامج المقاومة “أمام سؤال قدرتها الإدارية وقدرتها على استكمال مشروع المقاومة وحول مصداقيتها حين عقدت أول تهدئة مع اسرائيل وعلى الجانب الآخر كانت اسرائيل تعيد انتاج الرجل الذي تكفل بإنهاء المفاوضات واغلاق ملف التسوية بين الجانبين الزعيم اليميني بنيامين نتنياهو ليصبح برنامج حركة فتح إيضا محل شك في قدرتها على استكمال مشروعها بالتسوية وهكذا وضعت اسرائيل البرنامجين أمام محاكمة صعبة .
ولكن تلك المحاكمة كان لها تداعياتها الأخطر على محاولات رأب الصدع الحاصل بين الفلسطينيين حيث كل يرى بالآخر ومشروعه مجرد محاولة فاشلة وعلى الآخر التخلي عن برنامجه ” الفاشل ” وهنا مع تمسك كلٌ بما يرى ونظرته لفشل الآخر كان الحوار بين الفلسطينيين يتعقد أكثر وتزاد المسافة تباعدا مع إصرار الإسرائيلي على إفشال الجميع ومع الزمن كانت تترسخ مؤسسات متنافسة ومتوازية أصبح من الصعب تفكيكها بحيث تمت اعادة تركيب المجتمع الفلسطيني وفقا لمستجدات الإنقسام بعد أن تمت هندسته اثر اتفاقيات أوسلو ووجود سلطة فلسطينية تدير شؤون الفلسطينيين .
وفي هذا الواقع وجملة الإلتباسات الحاصلة كانت السياسة الفلسطينية تغرق في تعقيداته لينتهي الآمر بما يشبه انهيار مشروعهم سواء لجهة استغلال الإسرائيلي تفتتهم للتشكيك بشرعية وجدوى المفاوضات ومشروعية تمثيل المفاوض أو لجهة فقدانهم الصورة المتخيلة عربيا وهيبة القضية وفقدان هيبتهم لتذهب دول عربية للتطبيع بلا حساب مع اسرائيل ليزيد الأمر فقدانهم لأحد أوراق القوة العربية .
ومع وصول حكومة يمينية هي الأكثر تطرفا في تاريخ اسرائيل واغلاق ملف التسوية بدا أن السياسة الفلسطينية تشهدا فراغا لا تجد ما تفعله غير الإستمرار بأداء دور خدماتي في ظل تنافس الضفة وغزة هذا الدور على حساب التطلعات بلا افق ولا برنامج غير الإصرار من قبل الجهتين المتصارعتين على التمسك بموقفهما ما يزيد التباعد ويمنع التوحد لتبدو قضيتهم كأنها تعرضت لضربة شديدة في عمودها الفقري ففقدت توازنها ووسط ك ل تلك التعقيدات يتساءل المواطنون الفلسطينيون الذين يدفعون ثمن الشقاق عما حدث وما هو المستقبل …بحذر …وبخوف من القادم …وبقدر من التشاؤم .