أزمة ائتمانية تلوح في الأفق وركود متوقع
*ما حصل من انهيار وتراجع لمصارف أميركية كان نتاج فشل إداري بامتياز
* “سيليكون فالي” لم يكن لديه مسؤول عن إدارة المخاطر
* تسببت السياسات التشددية للاحتياطي الفدرالي لكبح جماح التضخم، بإضعاف المصارف
وكأن زلزالاً كبيراً ضرب القطاع المصرفي في العالم وهزّ قاعدته الأساسية. من الولايات المتحدة أقوى اقتصاد في العالم، إلى أوروبا ذات المصارف العريقة، لتصل ارتدادات هذا الزلزال إلى الأسواق المالية.
شهر مارس (آذار) كان مفصلياً بالنسبة إلى النظام المصرفي العالمي. ففي أيام معدودات، حصلت “انقلابات” أطاحت بمصارف كان يفترض أنها أكبر من أن تسقط وذكّرت بالأزمة المالية العالمية في العام 2008.
بدأت الهزة، كما كلنا بات يعلم، من الولايات المتحدة، حيث عانى مصرفان كبيران من فشل مصرفي مع تعرض كبير لقطاعي التكنولوجيا والعملات المشفرة، بينما دخل مصرف آخر في التصفية تحت ضائقة مالية.

المصرف الأول، وهو “سيلفرغيت” الذي كانت أعماله تتركز على العملات المشفرة، توقف عن ممارسة أعماله اعتباراً من الثامن من مارس (آذار) بسبب الخسائر التي تكبدها في محفظة قروضه.
بعد ذلك بيومين، حدث هلع مصرفي في مصرف “سيليكون فالي” الذي كان يقدم قروضاً كبيرة لشركات التكنولوجيا الناشئة، مما تسبب في انهياره وتولي إدارته من قبل الجهات التنظيمية. وبعد ذلك بيومين أيضاً في 12 منه، قامت الجهات التنظيمية بإغلاق مصرف “سيغنتشر”، وهو مصرف يتعامل بشكل متكرر مع شركات العملات المشفرة.
الأزمة المصرفية في الولايات المتحدة تسببت في نشر حالة من الذعر بين المستثمرين، وانتشرت تداعياتها سريعاً الى خارج الإطار الجغرافي للولايات المتحدة وطالت “كريدي سويس” السويسري العريق، ثاني أكبر مصرف في سويسرا والذي كان تأسس في العام 1856.
ففي 19 مارس (آذار)، استحوذ مصرف الاستثمار السويسري “يو بي إس” على غريمه “كريدي سويس” مقابل 3 مليارات فرنك سويسري (3.2 مليارات دولار) في صفقة بوساطة الحكومة السويسرية وهيئة الإشراف على السوق المالية السويسرية، أُعلنت يوم الأحد قبيل افتتاح الأسواق المالية الآسيوية صباح يوم الاثنين من أجل منع الاضطرابات التي تهز الأسواق المالية العالمية.
بعد فترة وجيزة، أعلنت المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم عن تدابير للسيولة بالدولار الأميركي لمحاولة تخفيف ذعر السوق الأوسع وتجنب أزمة مصرفية أوسع.
هذه هي الوقائع التي انتشرت كالنار في الهشيم وهددت بسقوط القطاع برمته سيما وأنها يمكن أن تطال المؤسسات المالية الأصغر حجماً.
ولكن لماذا حصل هذا الأمر؟
الأسباب عديدة، نوجزها وفق ترتيبها من الأهم إلى المهم كالتالي:
أولاً، سوء إدارة المخاطر ولاسيما لدى المصارف الأميركية. فما حصل من انهيار وتراجع لبعض المصارف الأميركية كان نتاج فشل إداري بامتياز، مرده الإدارات العليا في المصارف ومنها إدارات المخاطر.
وهذا أدى مباشرة إلى أزمة ثقة نتيجة تأهب المستثمرين لأزمة مالية عالمية جديدة مثل تلك التي حدثت في العام 2008.
وقد اعترف الاحتياطي الفدرالي بذلك، إذ قال نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي للرقابة المصرفية مايكل بار، في جلسة مساءلة أمام اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ، إن “سيليكون فالي” لم تتم إدارته بشكل جيد، مما جعل المصرف معرض للصدمات. أضاف أن مصرف “سيليكون فالي” أقدم على إجراءات بالغة السوء في ما يتعلق بإدارة المخاطر قبل انهياره.
ولمن لا يعلم، فإن مصرف “سيليكون فالي” الذي يدير محفظة من الأصول بـ209 مليارات دولار، لم يكن لديه مسؤول عن إدارة المخاطر بعدما تنحت كبيرة مسؤولي المخاطر في المصرف عن منصبها في أوائل العام الماضي، ولم يوظف المصرف بديلاً حتى يناير (كانون الثاني) الماضي.
ثانياً، في حالة “سيليكون فالي” مثلاً، تحمّل المصرف الكثير من المخاطر، لكنه في المقابل لم يكن يخضع للقواعد التنظيمية اللازمة ولمعايير “بازل 3” – ومنها اختبار التحمل – على غرار بقية المصارف الأميركية الكبرى.
والمصرف المشار إليه لم يكن مصنفاً في خانة المؤسسات المالية الكبرى انطلاقاً من قانون وقّعه الرئيس الاميركي السابق دونالد ترمب حول تحرير المصارف عام 2018. هذا القانون، الذي اعتبر بمثابة تراجع كبير عن قانون دود-فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك لعام 2010، أعفى المصارف الصغيرة من اللوائح الصارمة وخفف القواعد التي يتعين على المصارف الكبرى اتباعها. كما رفع حد الأصول لـ”المؤسسات المالية المهمة” من 50 مليار دولار إلى 250 مليار دولار. وبالتالي، فإن “سيليكون فالي” الذي أنهى عام 2022 بأصول تبلغ حوالي 209 مليارات دولار – لم يكن مُصنّفًا كمؤسسة مالية مهمة. وعلى هذا النحو ، لم يكن خاضعاً للوائح الأكثر صرامة التي تنطبق على المصارف الكبرى.
ودفعت هذه التطورات بالاحتياطي الفدرالي إلى إعادة النظر بشكل رقابته على المصارف متوسطة الحجم التي تتراوح أصولها بين 100 مليار دولار و250 مليار، والبحث في قواعد يمكن أن ترفع رأس المال والسيولة لمستويات قريبة من القيود التي تواجهها أكبر شركات “وول ستريت”.
ثالثاً، معدلات الفائدة، حيث تسببت السياسات التشددية التي اعتمدها الاحتياطي الفدرالي لكبح جماح التضخم، بإضعاف المصارف.
فالمصارف التي كوّنت ودائع كبيرة جداً خلال فترة وباء كورونا التي تخللتها عمليات واسعة للتحفيز النقدي معطوفة على معدلات فائدة قريبة من الصفر – استثمرت جزءاً كبيراً من محفظتها المضخمة من الودائع في سندات الخزانة ذات المخاطر المنخفضة، لكن من دون اتخاذ تدابير وقائية كافية، وهو ما عرّضها لما يعرف باسم مخاطر سعر الفائدة.
“سيليكون فالي” مثلاً ربط 91 مليار دولار من أموال المودعين في أدوات مالية غير مضمونة وغير آمنة مثل رهانات قروض الإسكان والعقار، وكذلك السندات طويلة الأمد. وفي هذه العملية خسر 15 مليار دولار.
أي انه مع ارتفاع معدلات الفائدة، تآكلت قيمة هذه السندات طويلة الأجل نتيجة تراجع أسعار السندات التي تربطها علاقة عكسية بمعدلات الفائدة، ما كبّدها خسائر كبيرة فاقمتها عمليات السحب الكبيرة من قبل المودعين.
رابعاً، من الأسباب التي سرعت من انهيار “سيليكون فالي” تضاعف ودائعه أكثر من 4 مرات خلال 4 سنوات (من 44 مليار دولار في 2017 إلى 189 مليارا في نهاية 2021)، فيما نمت قروضه التي يقدمها للشركات الناشئة من 23 مليار دولار إلى 66 ملياراً نظرا لأن المصارف تجني الأرباح من الفارق بين سعر الفائدة الذي تدفعه على الودائع والسعر الذي يدفعه المقترضون.
خامساً، الهروب السريع للمودعين من المصارف إلى صناديق أسواق المال ذات المخاطر المنخفضة والتي توفر لهم عوائد تفوق بكثير الفوائد التي يجنونها لدى المصارف.
تطمينات مزيفة
تطمينات صنّاع السياسة عن سلامة القطاع المصرفي ومدى ملاءته وقدرته على مواجهة الصدمات، لم ترح المستثمرين والأسواق المالية التي يبدو واضحاً هشاشتها تجاه أي معلومة أو خبر جديد عن أي مصرف.
عدم ثقة هؤلاء نابعة من تجربة العام الماضي حين كان الاحتياطي الفدرالي يقنع الجميع بأن التضخم الذي تعانيه الولايات المتحدة هو مؤقت ويمكن لجمه ليكتشف بعدها أنه ليس مؤقتاً على الإطلاق، لا بل أنه يزداد عمقاً في المجتمع.
وفي هذه الحالة أيضاً، ورغم تدخلات المؤسسات الرسمية وعمليات الإنقاذ التي تمت، كان واضحاً تماماً أن الأزمة لم تنته، وهو تعبير نقتبسه من الرئيس الأميركي جو بايدن بنفسه.
مكمن الخطر القادم هو في ما يُقرأ بين سطور ما أعلنه رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول أن انهيار مصرف “سيليكون فالي” واضطراب النظام المصرفي الذي أحدثه “من المرجح أن يؤدي إلى شروط ائتمانية أكثر صرامة للأسر والشركات، وهو ما سيؤثر بدوره على الاقتصاد”.
فمع مواصلة التشديد النقدي عبر رفع الفائدة، تبرز تساؤلات حول مدى تأثير ذلك على الائتمان.
صحيح أن السلطات المعنية تحركت سريعاً منعاً لانتقال عدوى انهيار المصارف، واتخذت اجراءات صارمة، لكن هذا الأمر لن يتوقف هنا. فالمصارف ستتشدد في معايير منح الائتمان خصوصاً وأنها تشهد استمراراً لسحب الودائع. وهنا، قد تحدث دوامة تنتقل إلى الإقراض العقاري في كل من أميركا وأوروبا.
وليست القروض العقارية وحدها التي قد تواجه مشكلات، لكن الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري أيضا قد لا تنجو.
قد يكون الاحتياطي الفدرالي سعيداً بالتشدد الائتماني كونه يساعده في معركته لكبح التضخم المرتفع بعناد، إلا أنه يزيد أيضاً من مخاطر حدوث ركود هذا العام. فهل سنكون أمام أزمة جديدة؟