يبدو أن حظ الفلسطينيين العاثر أوقعهم بأسوأ احتلال مر عبر التاريخ ليس فقط لجهة أنه الأكثر توحشاً فقط كما ظهر في العامين الأخيرين كإمتداد لما كان مكثف لما كان خلال ثلاثة أرباع القرن في علاقته بالعربي ” الآخر “ولكن لأن العقل الثقافي الذي تشكل عبر التاريخ هو عقل عنصري بإمتياز يقسم العالم إلى قسمبن ” يهود وأغيار ” أي جمع غير كشعب لا يزال يصر على مفهوم الأمة التي لا تختلط مع باقي الأمم ولا تندمج بمفاهيم دينية ذات طابع قومي ، كان بروز القوميات في أوروبا سبباً لإشعال حربين طاحنتين احترقت فيهما القارة كان يحرك عمليات الموت الجماعي فيها تلك النزعة القومية وها هو الفلسطيني يدفع الثمن مضاعفاً على شكل إبادة جماعية .
كانت الدول التي غزت شعوب أخرى بعيدة لديها مكان تعود له في اللحظة التي أصبح احتلالها بلا جدوى حين ارتفعت كلفة السيطرةعلى الشعوب سواء كلفة بشرية أو مادية كانت سبباً للتوسع أو لفقدان جدوى الإستمرار لكن مأساة الفلسطينيين أن المحتل لديهم يعتبر بلادهم هي الوطن القومي للأمة اليهودية مستنداً على نص ديني قديم لذا اعتبر في بداية حملتة الإبادة على غزة أن تلك الحرب هي حرب وجودية اي على وجوده في المكان والذي تزعزعت فكرته يوم السابع من أكتوبر بينما لم تكن الدول المحتلة مهددة وجودياً وهنا قصة التاريخ التي تفسر حجم المسار السابق وما مورس من وحشية ضد غزة وشكل ما هو قادم .
هنا السؤال الذي بات مطروحاً في أروقة السياسة بعد كل تلك المجازر والمذابح والإبادة وتجريف غزة ” بالمناسبة من يعمل على هدم البيوت هي شركات مقاولات اسرائيلية تأخذ مناقصاتها من الجيش ” بعد ذلك وبإعتبار أن للحروب نتائج ونهايات ولأن السلاح هو تعبير عن السياسة أو أنه مادة استثمارها فما الذي تريده اسرائيل بعد هذه الوحشية التي أدارتها لواحد وعشربن شهراً كان العذاب الذي تعرض له الغزيون كفيلاً بأن تذرف البشرية دموعها لعقود طويلة وكانت النار التي صبتها اسرائيل على غزة كفيلة بتجفيف البحار والمحيطات .
ظل رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو صامتاً لأشهر طويلة دون أن يفصح عما يريد تاركاً للجيش وهواة السياسة أن يجربوا أو يتحدثوا عن مستقبل غزة إو إدارة غزة وخصوصاً في فترة الإدارة الأميركية الديمقراطية لكن الأكثر وضوحاً في مشاريع اسرائيل كان يتم الإعلان عنه من قبل الرئيس الأميركي المتجدد دونالد ترامب بأن يقف بنيامين نتنياهو إلى جانبه مفصحاً بتفريغ غزة من السكان وتهجيرهم ورغم ذلك لا زال هناك قدر من البلبلة تسيطر على الخطاب السياسي تجاه غزة مرة بوضع الفلسطينيين في مناطق معزولة وإبقاءهم فيها تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية مع خدمات مدنية تقدمها مؤسسات دولية ومرة حكم تتشارك فيه عدة دول عربية تدير غزة وربما يتفتق العقل الإحتلالي عن مشاريع أخرى في ظل الإدراك الفادح لإسرائيل أنها أمام منطقة لن تكف عن الصدام حتى حصولها على حقوقها الوطنية ولكن لا يظهر لإسرائيل خلاص لهذه المعضلة رغم ذلك لا يمكن تجاهل أن جزء من المشاريع على نمط الحكم العربي لغزة أو المناطق الآمنة تتعارض مع مشروع التهجير إلا إذا كانت اسرائيل تخطط أن يكون الأمر على مراحل أي مشاريع مؤقتة تجعل الحياة مستحيلة في إطار مشاريع بعيدة المدى تعمل عليها تل أبيب بالتعاون مع الإدارة الأميركية .
بمعنى آخر تفتيت القطاع جغرافياً وتفكيك البنية المجتمعية التي تعرضت لضربة شديدة بفعل التشتت والنزوح وتدمير البنية الإقتصادية وقد تم ذلك على امتداد الحرب فقد كانت كثير من الضربات لا تحمل أي معنى عسكري بقدر ما تعني الدمار الإقتصادي للمصانع والمعامل والمزارع فكل الجزئيات التي تمت كانت تدفع نحو كلية واحدة وهي ألا يكون قطاع غزة مرة أخرى وألا يعود صالحاً للحياة الآدمية وقد اتضح ذلك في أكثر من منطقة أُخرجت عن الخدمة مثل رفح وجباليا وبيت حانون تلك المناطق التي تم مسحها نهائياً .
في اللقاء الثالث خلال خمسة أشهر بين ترامب ونتنياهو وهو الذي شكل سابقة لم تحدث أن يتم استقبال رئيس وزراء اسرائيلي بهذه الكثافة خلال هذا الوقت القصير ولم يحدث أن يكرر رئيس أميركي دعوة رئيس وزراء اسرائيلي خلال فترة قصيرة لكن طبيعة العلاقة بين الرجلين والتي تسببت بمزيد من العنف والتصعيد في المنطقة ومزيد من الظلم للفلسطينيين ومزيد من العربدة الإسرائيلية على لبنان وسوريا وايران واليمن دون أن تتوقف اسرائيل ولا راعيها للحظة أدراك باتت مهمة بعد كل هذا الدم الذي سال في المنطقة والنار التي تشتعل وكادت تشعل براميل النفط وتحدث هزة للإقتصاد العالمي يمكن أن تتسبب بمزيد من المآسي للبشرية بأن كل هذا الخراب يحدث لأن اسرائيل تريد فقط أن تبقى دولة احتلال تهيمن وتسيطر على شعب آخر وتلك وصفة الخراب العالمي .
رغم التضارب والتناقض الإسرائيلي إلا أن موضوع إنهاء غزة وترحيل سكانها هو الهدف الأهم إذا ما تمكنت اسرائيل من تحقيقه وإنهاء هذا التاريخ من الصدام كما تعتقد فالضفة الغربية هي منطقة للسيطرة والضم لأسباب توراتية دينية بالإضافة للبعد الأمني السياسي التوسعي لكن قطاع غزة لا تريده اسرائيل بل تريد التخلص منه مرة وللأبد وقد كانت كل محاولاتها للتخلص فاشلة لتكتشف أن غزة تصر على النزال فلم يبق حل لإسرائيل إلا اقتلاعها من الجذور متكئة على رئيس أميركي يقوم بنيامين نتنياهو بشحنه وتعبئة عقله جاء من خارج مؤسسة السياسة ويعمل فقط من أجل إرضاء اسرائيل وصديقه الحميم بنيامين نتنياهو .
لكن أسوأ ما أحدثته الجريمة الإسرائيلية هو النتائج السياسية الغائبة عن صراع كبير بهذا البعد التاريخي وبهذا القدرمن التعقيد ولأن نتائج الحروب دائما يتم إجراء حساباتها على طاولات التفاوض فهذه هي الحرب ربما تكون الوحيدة التي لا يريد أحد أطرافها أن يجلس على الطاولة حتى لو كانت تميل كفة القوة المسلحة والميدان في صالحه وهذا من غرائب الأشياء فقد تمكنت اسرائيل بحربها الطويلة دون وجود خطة عملية من تحويل مصير قطاع غزة الذي يخضع لتلك التناقضات التي ذكرت إلى مسألة إدارية وأمنية واقتصادية وإنسانية لتقوم بنزع الجزء الأصيل في الصراع وهو البعد السياسي الذي قامت الحرب والسابع من أكتوبر وهو صاعق التفجير الدائم في اصرار دولة محتلة على استمرار حكم شعب آخر بالقوة المسلحة ومصادرة حقوقه الوطنية وحصاره بل وأيضاً ملاحقته في أرضه وممارسة كل أشكال العنصرية من كانتونات وإغلاق وحواجز والتحكم بكل شيء في حياته والمس بمقدساته الدينية واستباحتها بشكل مستمر .
لكن كل تلك الأفكار المطروحة والتي يقف التهجير في مقدمتها والتي يتم تداولها وإن تناقضت في لحظة ما لكنها ترتبط بمسالة واضحة وهي استمرار فصل قطاع غزة عن باقي الكتلة الفلسطنية في الضفة الغربية وإبقائه بعيداً عن المجتمع الفلسطيني وامتداده الإجتماعي والثقافي والحضاري والسياسي وتلك الأخيرة هي الأكثر خطورة متكئة على ثمانية عشر عاماً من الإنقسام بين الفلسطينيين وتوَلُّد نظامين سياسيين متوازيين ومشوهين واحد في الضفة والآخر في غزة أمضيا عقوداً في الصراع بينهما ومحاولات فاشلة في المصالحة لكنه خلال تلك السنوات السوداء في تاريخ الشعب الفلسطيني كان يتكرس التباعد بين المنطقتين ثقافياً واجتماعياً ونفسياً وهو ما عملت عليه اسرائيل التي غذت هذا الإنقسام كل تلك السنوات الطويلة وحالت بما تملكه من وسائلشديدة الدهاء ومن وقوة دون تقارب الفلسطينيين .
قبل ثلاثة أسابيع كشفت صحيفة فاينانشال تايمز أن مجموعة بوسطن الأميركية للإستشارات كانت قد بلورت نماذج لتكلفة مشروع حمل اسم ” أرورا ” لتهجير الفلسطينيين خارج القطاع قبل أن تنسحب من المشروع وتفصل اثنين من كبار الشركاء بعد الكشف عن عملها على خطط بشأن مستقبل غزة بعد الحرب ووفقاً للصحيفة فقد ساهمت المجموعة في تأسيس ” مؤسسة غزة الإنسانية ” المدعومة من اسرائيل والولايات المتحدة ودعمت شركة أمنية مرتبطة بها وذلك قبل أن تنسحب من المشروع لتدارك اسقاطاته القانونية محلياً ودولياً ثم بعد ذلك يصدر الرئيس التنفيذي للمجموعة بيانا يقول فيه ” أن انخراط شركته في اعداد خطط ما بعد حرب غزة والتي شملت تقدير تكاليف تهجير سكان القطاع كان مدمراً للغاية لسمعة المجموعة ” في محاولة للتبرؤ من المشروع بإعتباره أحد أوجة الإبادة وشريكاً أو مكملاً لها .
أزمة الفلسطينيين في وجود رئيساً أميركياً يضع نفسه وإمكانياته تحت تصرف اسرائيل وتلك تضاعف حجم المأساة عندما يسخر إمكانيات الدولة الأكبر في العالم في صالح اسرائيل إذ يظهر الرئيس القادم من عالم المال والأعمال بأنه القوة الضاربه لنتنياهو هكذا تبدى الأمر في ولايته الأولى التي امتدت بين أعوام 2016 – 2020 حين اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو ما لم يفعله أي رئيس قبله وكذلك ضم الجولان وصفقة القرن وتأكد ذلك في الأشهر القليلة للولاية الثانية ليذهب للحد الأقصى مرة واحدة وهي تفكيك الهاجس الديمغرافي الفلسطيني الذي تنشغل به دوائر الدولة ومراكزها الإحصائية التي لم تتوقف عن التحذير من أعداد الفلسطينيين بين البحر والنهر وأعداد اليهود .
يبدو أن الإندفاعة التهجيرية تشهد صعوبات تحول دون استمرارها بنفس الوتيرة فالبيت الأبيض لم يعد مسكوناً بالهاجس وفي تراجع هام يدلي نتنياهو من واشنطن بتصريح بأنه فقط يخير الفلسطينيين ولا يرغمهم على الرحيل بعد ان قضى على كل ممكنات الحياة والأخطر هو تفكيك المجتمع الفلسطيني بشكل مدروس وبات واضحاً أن حرب اسرائيل على غزة لن تتوقف قد تشهد هدنة مرة واحدة أو يتكرر هذا التقطع لكن الشعارات والأهداف التي وضعها نتنياهو تتعارض مع الوقف الدائم لها إلا إذا استسلمت حركة حماس كما يقول نتنياهو وترامب وهذا غير وارد لدى حركة أيدلوجية دينية اسلامية تخوض صراعها مع من يحتل أرضها وتعتبر أن استسلامها هو تسليم بشرعية الإحتلال .
فماذا تخطط اسرائيل لغزة وهل لديها مشروع واضح أم أن اللعثمة هي السائد تاركة للميدان والوقت وذوبان البشر أن تصل إلى نتيجة معينة ؟ أغلب الظن ذلك فدوما اسرائيل ما تجمع بين التخطيط والوقت وتستغل المناخات لتضرب ضربتها بقوة ربما هذا هو الوقت لغزة ولكن الحقيقة الأكبر أن النسبة الكبرى من اللاجئين في هذا القطاع الصغير قادرة على التحمل نظراً لظروفها في اللجوء الإستثنائي خلال رحلة ثلاثة أرباع القرن لم يهاجر الفلسطينيون ولم يستقبلهم أحد وتقف اسرائيل بين اندفاعة الرغبة وفرامل عدم القدرة والإمكانيات فما الذي ستفعله ؟ السؤال هو امتداد للصراع التاريخي والذي يعكس كل مرة أزمة اسرائيل في هذا الجيب الصغير .