في فيلم يحكي عن قصة حياتها “MARIA MONTESSORI- La nouvelle femme” ، تحمل ماريا منتسوري طفلها وهي تهدهده، مرتدية السواد فيما يشبه أنّها تودّعه، ونراها في مشهدٍ لاحق في عربة يجرّها خيل مبتعدة، وفي مشهد تتوسط أطفال من ذوي الهمم، توجّه وتُشرِف على مجموعةٍ من المعلّمات وهنّ يقمن بأنشطة مع الأطفال، رفقة رجل يتبيّن لنا لاحقًا أنّه حبيبها ووالد طفلها من علاقة لم تكلّل بالزواج، ونفهم من خلال سياق الأحداث أنّ ذلك يعود لخوف ماريا من أن يتملكها زوجها ويُنهي طموحها، كطبيبة ونفسانيّة، وهو ما يتراءى لنا عندما نرى أن هذا الرجل يحلّ في الواجهة في التعريف عن مشروعهما المُشترك في رعاية وتربية وصقل مهارات هؤلاء الأطفال في زمن كان يُنكر على النساء

نجاحاتهنّ، ونرى أنّ هذه المرأة الطموحة والقويّة هي كائن ضعيف عاطفيًا ويعمل من دون أجر، وأنّ من سيساعدها على الخروج من هذا الدور وإطلاق نفسها للعالم هي مغنيّة وعازفة فرنسيّة قصدتها لكي تضع ابنتها في مؤسستها ومع الوقت تتغير وجهة نظر المغنيّة حول ابنتها التي تعاني نوعًا من التأخر العقلي بفضل توجيهات ماريا.
خارج حدود الرجل تُعلن نفسها أنها هي صاحبة المشروع وصاحبة الفكرة، وتبدأ محاضِرة في جامعة روما، وفي مشهد يقرّر الحبيب التخلي عنها والزواج من أخرى لأنّه بات يراها منافسةً له، يخيّرها بين أن تأخذ ابنهما “ماريو” وتكون أمًا عازبة، وبين أن يأخذه ولا تراه بعدها أبدًا.. وهكذا ينتهي الحب بخيبة ونفهم المشهد الأوّل أن ماريا اختارت الحريّة على العبودية ولو تحت إطار الزواج، وتركت طفلها مرغمة لتساعد أطفالًا كثُر، وتُرسي فلسفةً جديدة في التعليم يصل صداها إلى كلّ العالم.
ماريا، من التعليم حتى التطوير
وُلدت في إيطاليا (1870- 1952) وتوفيَت في هولندا، كان والدها اليساندرو مونتيسوري، يعمل كمسؤول في وزارة الماليّة في مصنع التبغ المحلي الذي تُديره الدولة، وكانت والدتها متعلّمة ومن أسرة نبغ فيها علماء.
دفعها تشجيع عائلتها لمواصلة طموحها العلمي، درست الطبّ في جامعة سابينزا في روما، تعرّضت للكثير من المضايقات أثناء دراستها في الجامعة كونها المرأة الوحيدة بين جمع من الطلبة الذكور، عقب تخرجها عملت مساعدة طبيب في عيادة الطبّ النفسي في مستشفى الجامعة، وكان من ضمن مهامها زيارة المصحّات ومراقبة الأطفال المعوّقين.
نتيجة اهتمامها بالفلسفة وعلوم التربيّة، درست أعمال جان إيتارد وإدوارد سيجوا. اللذان اشتُهرا بأعمالهما عن الأطفال المعوّقين، وكذلك تأثرت بفلسفة جون جاك روسو الفرنسي الذي نادى بعودة الطفل إلى أحضان الطبيعة وناصرت فكرة

تربيّة الطفل بحسب ميوله من خلال أنشطة تُنمّي حواسه وجميع النواحي الروحيّة والفكريّة والحركيّة فيه وتنميّة إمكاناته داخل مؤسسة مُتخصّصة وبمواصفات محدّدة.
وكذلك تأثرت بفلسفة فريدريك فروبل العالم الألماني، والذي ركّز على السنوات السبع الأولى من حياة الطفل وهو المؤسس الفعليّ لرياض الأطفال، ومنه طوَرت منتسوري فكرة بيوت الأطفال.
عملت في التدريس في جامعة روما، فاهتمّت بالأنثربولوجيا وطرائق التعليم. أسست منهجًا تربويًا وتعليميًا خاصًا بتعليم الأطفال المعوّقين وطوّرته لاحقًا ليشمل الأطفال الأصحاء.
منهج منتسوري
أسّست ماريا منتسوري نظريّة متفرّدة عُرفت بـ”طريقة منتسوري”. في مشهد من الفيلم، وبعد الوعكة العاطفيّة التي تعرضت لها، يقول لها والدها في إشارة إلى حملها اسم العائلة: “إنّه اسمك أيضًا وستجعلينه مشهورًا”، وكانت انطلاقتها في تأسيس بيت للأطفال على قاعدة “طريقة منتسوري”.
وهو” نظام تعليمي مُتكامل له فلسفة خاصة به، يؤمن بأنّ الطفل يتعلّم أفضل في بيئة اجتماعيّة تدعم وتغذي أنماط التطوّر الخاصة بكلّ طفل..”، ركّزت منتسوري في فلسفتها التعليميّة على التغذية المناسبة والنظافة والسلوك والتدريب الحسيّ بحيث يعمل الأطفال بالتجهيزات التي صممتها. وأهم ركيزة في منهجها هي “أن يتعّلم الأطفال كيف يتعلمون”.
من خلال عملها في رعاية الأطفال ذوي الإعاقة وتحقيقها النجاح في تطوير مهاراتهم التعليمّة، اكتشفت الأسباب التي تُعيق تعليم الأطفال العاديين وما وراء ضعفهم الأكاديمي. وتوصلت إلى أنّ الطرق التي استخدمت مع الأطفال

المعوّقين لو استخدمت مع العاديين لحققت نجاحًا مبهرًا. أسست تجربتها على دراستها الطبيّة وتأثّرها بالتربويين. وآمنت بفلسفة التربيّة الذاتيّة للطفل أي أنّ الطفل يقوم بنفسه بالعمل حسب قدرته وميوله ولذلك عملت على اختراع الطرق التي تساعد على التعلّم، مؤكدةً أنّ الطرق التقليديّة هي السبب في ظهور التأخر الدراسي.
التعلّم بالملاحظة واللعب
رأت منتسوري في نظريّتها أنّ دور المعلمة يقوم على مبدأ ملاحظة الأطفال أثناء اللعب، بهدف التعرّف على إمكانياتهم ويقتصر دورها على الإرشاد والتوجيه.
ومنح الطفل حريّة الاختيار والحركة أثناء اكتسابه الخبُرات، والعمل على تهيئة الظروف بحيث لا يكون هناك عائق بين الطفل وخبرته في مزيج بين العقلانيّة والعمليّة. وتهيئة البيئة الصفيّة بما يلائم الظروف للتحكّم فيما يتعلّمه الطفل.
فالمعلّمة تؤدي دور القائد، ومهمتها تزويد الطفل بمعلومات حول النقاط الأساسيّة لتمكينه من معرفة ما يجب عمله.
وضعت مخططًا تعليميًّا للمراحل العمريّة من الطفولة حتى المراهقة المتأخرة، تتلخّص أهم أهداف التربية في فصول المنتسوري على تنمية المعرفة الذاتية، الثقة بالنفس والاعتماد عليها، الانسجام مع البيئة والنمو العضلي والفطري، تنمية الشعور بالمسؤولية، تنمية الطفل لثقافة مجتمعه وحضارته وعاداته، وتنمية روح المساعدة والتعاون.
وتدريبه على تمارين الحياة العمليّة كالعناية بالجسم والملابس، الآداب الاجتماعية، العناية بالبيئة حوله، تحضير الوجبات، العناية بالخارج، و توازن الحركات ..
بيوت الأطفال
” بينما كان الناس في منتهى الدهشة والعجب بنجاح تلاميذي المعتوهين كنت في منتهى الدهشة والعجب لبقاء العاديين من الأطفال في ذلك المستوى الضعيف من التعليم، لذلك فإن الطرق التي نجحت مع المعوّقين لو استعملت مع الأطفال العاديين لنجحت نجاحًا باهرًا لهذا صممت أن أبحث الأمر وأدرسه من جميع الوجوه.”
وُلدت بيوت الأطفال العام 1907 تميّزت فصول الدراسة بالحجرات الواسعة المزيّنة جدرانها بألوانٍ زاهيّة، والصور التي تُحاكي حياة الأطفال. اهتمت بكلّ تفصيلٍ داخل الفصل، من الأثاث الذي يتناسب مع حجم الطفل ويسهّل حركته وتخصيص حجرة للطعام وأخرى للأشغال اليدويّة، وأولت اهتمامًا بالغًا للتنظيم الذي يؤسّس لفصلٍ هادئ يدعم التركيز، ففي الفصل أركان مختلفة ومع التمارين المتكرّرة وفهم تسلسلها والهدف منها تتأمن متطلبات الإدارة الجيّدة.
كذلك اهتمت بالمدّة التي يقضيها الطفل داخل المدرسة وتقوم على التحاقهم المبكِر صباحًا حوالي الساعة الثامنة وحتى ما بعد منتصف النهار، واهتمت أن يرتدي الطفل مريلته أثناء الدوام. وحدّدت دور المعلمة -كما أشرنا- في الإرشاد والتوجيه، والتشجيع والتعزيز وتركه ليعلّم نفسه ويُصحّح أخطاءه بنفسه.
وتقوم الأنشطة داخل الفصل على تدريب حواس الطفل بتمارين عقليّة لاستثارة قدرات التفكير لديهم كذلك أداء ألعاب رياضيّة المشي في الهواء الطلق والرقص. وتعزيز المهارات الاجتماعيّة، احترام حقوق الآخرين وقيَم التعاطف والتعاون واللعب الموجّه.
لاقت بيوت الأطفال نجاحًا باهرًا وانتشرت فصولها في أنحاء البلاد، واستبدلت العديد من الدول طرقها القديمة بالتعليم بطريقة مونتيسوري.
الحرية لا تعني الفوضى
انطلقت منتسوري في فلسفتها من أنّ الطفل لديه الفضول والميل للمعرفة لذلك عملت على تأمين أدوات المعرفة الملائمة لاحتياجات الطفل. وتخصيص الركن الحسّي لتنميّة وصقل حواس الطفل. وأعطت للطفل حرية الاختيار التي يتكشّف من خلالها اهتمامات الطفل الشخصيّة، فالطفل عندها يتعلّم ذاتيًا من خلال الاحتكاك والتفاعل الحسّي مع البيئة، والتكرار حتى الإتقان هو وسيلة من وسائل التعليم.
وضعت منتسوري مجموعة من الحدود التي على الطفل الالتزام بها، وهي تقوم على مبدأ تعزيز الاعتماديّة على الذات من دون فوضى، فالطفل الحرّ عند منتسوري هو الذي يعتمد على نفسِه ولا يلجأ للمعونة ما دام قادرًا على أداء عمله بنفسه. وأكّدت على ضرورة أن تكون المعلّمة حازمة في إقامة الحدود ولا تتساهل مع تخريب النظام في الفصل. فهذه الحدود يجب أن تكون واضحة ويتم التدرّج في إعطائها للطفل. وفي حال أخطأ الطفل تعتمد المعلمة آلية المحاسبة على حدة، من خلال سؤاله “ماذا حدث” والاستماع لسرده ممّا يُمكّنه من اكتشاف خطائه بنفسه ويكون هنا التركيز على السلوك الخاطئ.
أمّا الطفل الذي يتجاوز الحدود باستمرار، فعقابه يكون بعزله من خلال الجلوس بعيدًا عن الأطفال الآخرين، وتوقيفه عن المشاركة في نشاطاتهم والاكتفاء بمشاهدتهم. وتجنّب الكلام معه لأنه لن يكون مستمعًا. وفي منحى آخر رأت أنّ الطفل الذي لا يرتدع ويستمر في تجازواته، هو طفل مريض يجب عزله عن باقي الأطفال ويحتاج إلى رعاية خاصة مرفقة باللين والعطف.
ثم تُشير إلى المشاكل الجسديّة التي تؤثر في سلوك الطفل وتُعيق تعلّمه، كمشاكل السمع والنظر والكلام والمشاكل المرضيّة كحساسية الطعام أو مرض السكري أو أمراض الغدّة، من هنا ضرورة لفت انتباه الأهل للعلاج عند مختص.
منتسوري في كل مكان
ترشّحت منتسوري خلال حياتها ثلاثة مرات لجائزة نوبل للسلام، وكان لها العديد من الإنجازات التي أسّست لنجاحها وانتشارها في العالم.
طالبت في مؤتمر طبيّ في مدينة تورينو ببناء مؤسسات للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وإعطاء دورات تدريبيّة للمعلمين. افتتحت معهدًا دوليًا يُدرّس ويُعرّف المعلمين على الطرق الملائمة لتعلّم الأطفال المعوّقين. عُيّنت مستشارة للرابطة الوطنية لحماية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.
سافرت إلى عدّة دول لنشر فلسفتها في العالم، كتبت العديد من المؤلّفات التي رسّخت فكرها وفلسفتها التربويّة، وتُرجمت إلى لغات العالم ومنها العربيّة: (من الطفولة إلى المراهقة، المرشد في تعليم الصغار، التربية من أجل عالم جديد، الطفل في الأسرة، سر الطفولة، طريقة منتسوري المتقدمة. اكتشاف الطفل، القوّة الإنسانية الكامنة، العقل المستوعب، التعلم من أجل السلام.)
حقّقت مدارسها نجاحًا باهرًا وجذبت انتباه الكثير من الشخصيّات البارزة، استمر عملها في تطوير علم أصول التدريس.
ومنذ العام 1909 بدأت دول مثل إيطاليا وسويسرا والمملكة المتحدة وباريس وكوريا والمكسيك وكثير من الدول بتأسيس مدارس وفق منهج المنتسوري، وتأسست جمعيات المنتسوري في عدة دول من العالم. نُشر كتابها “طريقة مونتيسوري: علم أصول التدريس” في الولايات المتحدة باعتباره تطبيقًا لتعليم الطفل في بيوت الأطفال. وصدرت عنه عدّة ترجمات، سافرت إلى الولايات المتحدة ثم إسبانيا، وفي أواخر حياتها استقرت في هولندا.
أسست وابنها ماريو جمعية مونتيسوري الدولية العام 1929 في الدانمارك، وتقوم مهامها بالإشراف على أنشطة المدارس والجمعيات والتي تنشر باسم منتيسوري. بعد انتقالها إلى هولندا ازدهرت برامجها هناك، وفي عام 1935 انتقل مقر جمعية مونتيسوري الدوليّة إلى أمستردام.
غيّرت ماريا منتيسوري مسار التعليم، وحوّلته من التلقين حتى التعلّم الذاتي، واستفادت من طرائقها المعلّمات وحتى الأمّهات على سواء، فبتنا نتحدث عن التعليم المنزلي، وتحت عناوين مختلفة وُضعت برامج تدريبيّة ودبلومات تستهدف المهتمين بتطوير خُبراتهم التربويّة.
“علينا أن نضبط اهتمامنا بالطفل، لن يكون هذا بالرغبة في جعله يتعلم الأشياء، بل بالسعي المتواصل لإبقاء ذلك الضوء متّقدًا داخله، ذلك الضوء الذي يُدعى الذكاء”.