تحديات أمام الفريق المالي وتساؤلات إذا ما سيترك له إردوغان حرية التصرف
عناوين فرعية:
* “إي إن أيه جي” المستقلة تقول إن المعدل الحقيقي للتضخم تركيا هو 109 في المئة
* تركيا على حافة نفاد احتياطيات النقد الأجنبي القابلة للاستخدام
* المصرف المركزي استنزف ما لا يقل عن 24 مليار دولار هذا العام في محاولة للدفاع عن الليرة
* شكوك المستثمرين لا تزال قائمة بعد خطوة المصرف المركزي رفع الفائدة
ما حصل في تركيا بعد الانتخابات الرئاسية التي أعادت رجب طيب إردوغان إلى سدة الحكم، هو ببساطة انقلاب اقتصادي. فالفريق المالي الذي اختاره إردوغان بعناية ليدير دفة البلاد المنهكة اقتصادياً، أقدم على خطوة انقلابية حين قرر العودة إلى السياسات النقدية التقليدية، بمعنى استخدام أسعار الفائدة المرتفعة كوسيلة أساسية من أجل محاربة التضخم المرتفع.
لطالما كان إردوغان رافضاً بشدة خلال ولاياته السابقة لمسار ارتفاعات الفائدة، لا بل أنه أقال عدداً من محافظي

المصرف المركزي التركي الذي كانوا ينتقدون وجهة نظره ويرفضون تطبيقها.
أما اليوم، فباتت المسألة مختلفة. التضخم بلغ حدود الـ40 في المئة في مايو (أيار) وفق البيانات الرسمية (وإن بانخفاض عن الأشهر السابقة) ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للأسر التركية، علماً أن مجموعة الأبحاث المستقلة “إي إن أيه جي” تقول إن المعدل الحقيقي للتضخم في البلاد هو 109 في المئة.
كما تسبب التضخم المرتفع بتراجع الليرة التركية، إلى مستويات متدنية جداً، في حين أدت محاولات إبطاء هبوطها إلى مستويات قياسية متتالية إلى استنزاف الاحتياطيات من العملات الأجنبية، وأسهم في تأجيج عجز ضخم في تجارة السلع. هذا عدا عن التدعايت التي خلّفها الزلزال في مفاقمة تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي.
وأظهرت البيانات الرسمية أن صافي احتياطيات النقد الأجنبي للمصرف المركزي التركي انخفض إلى المنطقة السلبية للمرة الأولى منذ عام 2002، قبل أن تعاود الارتفاع نتيجة عدم التدخل في السوق.
لا شك أن القيادة المالية التي صاغها أردوغان منذ إعادة انتخابه في مايو (أيار)، بقيادة وزير المالية والخزانة المعيّن محمد شيمشك (الذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية بين أعوام 2009 و)2018، ومحافظة المصرف المركزي الجديدة حفيظة غاي إركان (أول امرأة في هذا المنصب)، بالاضافة إلى جودت يلماز (وهو مدير اقتصاد تقليدي عيّنه إردوغان نائباً له)، ستواجه تحديات هائلة في وقت تسعى إلى تجنيب الاقتصاد البالغ 900 مليار دولار، حافة الهاوية.
الخطوة الأولى في مسار الألف ميل، كانت في ذاك القرار الذي أعلنه المصرف المركزي التركي بمضاعفة سعر الفائدة الرئيسي تقريباً بعد سنوات من السياسات غير التقليدية، ورفعه إلى 15 في المئة من 8.5 في المئة وتعهده

تشديد السياسة بقدر الحاجة لخفض التضخم. وهو ما يعني أن لجنة السياسات النقدية في المصرف المركزي قررت المباشرة بسياسة التشدد النقدي من أجل خفض التضخم إلى 5 في المئة على المدى المتوسط، كما تعهدت.
وكان المصرف المركزي التركي اتبع طوال عامين تقريباً، سياسات غير تقليدية بخفض الفائدة من مستوى 19 في المئة لتصبح 8.5 في المئة رغم تسارع التضخم، قبل تثبيت الفائدة عند هذا المستوى حتى الشهر مايو (أيار).
من الواضح أن هذه الخطوة تؤكد سعي “الأوصياء” الاقتصاديين الجدد في تركيا إلى إظهار جديتهم بشأن خطط استعادة السياسات التقليدية. كما أنها أوضح مؤشر حتى الآن على أن إردوغان أقر بأن نهجه الاقتصادي غير التقليدي الذي اتبعه في السنوات الأخيرة وضع تركيا على مسار غير مستدام. وهو أمر عبّر عنه شيمشك الذي يحظي باحترام دولي، حين تعهد بإعادة سياسات “عقلانية” “يمكن التنبؤ بها”، وأضاف على “تويتر” أن تركيا ستستهدف النمو “المستدام” بدلاً من المزيج غير المتوازن من الزيادات السريعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب التضخم الجامح.
لكن الاقتصاديين اعتبروا أن أول ارتفاع لسعر الفائدة في تركيا منذ عام 2021 كان “خطوة صغيرة” في الاتجاه الصحيح نحو استعادة ثقة المستثمرين في الإدارة المالية للبلاد، علماً أنهم كانوا يأملون في زيادة أكبر، ربما إلى 20 في المئة أو حتى أعلى لإظهار إردوغان الذي وصف تكاليف الاقتراض المرتفعة بأنها “أم وأب كل الشرور”، مستعد لقبول معدلات فائدة أعلى.
حتى أن بعض مديري الصناديق الاستثمارية أبدوا قلقهم من إمكان تدخل إردوغان مجدداً في تحديد مسار السياسات النقدية إذا ما هددت الآثار المحتملة للسياسات التقيلدية، مثل تباطؤ النمو الاقتصادي من ارتفاع أسعار الفائدة، شعبيته، والتسبب بالتالي في تعميق الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا منذ سنوات. وتساءلوا ما إذا كان الفريق المالي سيُمنح الاستقلالية التي يحتاجها من أجل وضع سياسات اقتصادية أكثر قوة. أحدهم عاد إلى الوراء مذكّراً في تصريح لـ”فايننشال تايمز” بأنه حين كان شيمشك وزيراً للمالية بين أعوام 2009 و2018، “أمضى الكثير من الوقت في التحدث إلى المستثمرين حول ما يريد القيام به، ومن ثم لم يسمح له حقاً بالقيام بها”، في إشارة إلى السلطة التي يتمتع بها إردوغان في تغيير المسار بسرعة في السياسة النقدية. وكان أردوغان استبدل في السنوات الخمس الماضية أربعة وزراء مالي ، بينما عزل ثلاثة محافظين للمصرف المركزي في العامين الماضيين قاوموا الضغط لخفض أسعار الفائدة.
ويرى محللون أن مقدار رفع الفائدة الذي جاء أقل من توقعات السوق، يمكن أن يفسر على أنه علامة على أن المحافِظة الجديدة تتطلع إلى السير بحذر لتجنب الصدام مع إردوغان.
هذا ويتوقع عدد من الشركات الاستشارية بأن يقر المصرف المركزي التركي المزيد من الارتفاعات من أجل رفع سعر الفائدة إلى 20 في المئة أو حتى أعلى. يقول جورج دايسون، كبير المحللين في شركة الاستشارات “كونترول ريزورتس” في تصريح لـ”سي أن بي سي” إن وزير المالية التركي “يجب أن يكون حذراً بعض الشيء… أنا واثق من أنه قلق بشأن التسبب في أزمة ديون عن دون قصد من خلال إبطاء الاقتصاد بسرعة كبيرة”.
وكان المصرف المركزي استنزف ما لا يقل عن 24 مليار دولار هذا العام في محاولة للدفاع عن الليرة، وهي خطوة أدت إلى استنفاد الاحتياطيات بالعملات الأجنبية في البلاد. وبالتالي، فان التحدي في المرحلة المقبلة هو تلمس تراجع تركيا عن تدخلها في دعم العملة المحلية.
ويرى البعض أيضاً أنه مع استمرار عجز الحساب الجاري عند مستويات قياسية، مدفوعاً بفجوة تجارة السلع البالغة 36 مليار دولار، والاقتصاد المحلي المنهك، والعملة المحلية المتدهورة، من المتوقع أن تكون التدخلات التي سيحتاج شيمشك إلى القيام بها مؤلمة على المدى القصير.
يجمع المحللون على أن تركيا في خضم أزمة اقتصادية خطيرة، ويرون أن التضخم ليس هو المشكلة الوحيدة. إذ ارتفعت أسعار المساكن في البلاد، كما تكاليف العقارات في اسطنبول بنسبة مذهلة بلغت 193.9 في المئة بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 والخريف الماضي. وهذا يعني أن المزيد من الأتراك يجدون أنه من المستحيل امتلاك العقارات. كما شهد المستأجرون زيادة في مدفوعاتهم الشهرية، حيث يستفيد الملّاك مما أصبح وضعاً مربحاً للغاية.
وفي الوقت نفسه، فإن القوة الشرائية تنخفض. فقبل ثلاث سنوات فقط، كانت الليرة التركية تتداول عند حوالي 7.5 مقابل الدولار. اليوم، سعر الصرف هو 26 (وفي بعض الأحيان أعلى)، وهو ما جعل تركيا وجهة سياحية جذابة ورخيصة للأجانب، لكنها مكان مكلف للغاية للأشخاص الذين يعيشون هناك بالفعل.
كما أن تركيا على حافة نفاد احتياطيات النقد الأجنبي القابلة للاستخدام.
نقاط ضعف الاقتصاد التركي
ولكن هل تكفي عودة تركيا إلى السياسات الاقتصادية التقليدية لتأمين استثمارات دولية طويلة الأمد يحتاج إليها الاقتصاد بشدة؟
يرى العديد من المحللين أنه في حين أن أسعار الفائدة المرتفعة يمكن أن تجذب بعض المستثمرين الأجانب إلى الأصول التركية، إلا أنهم يعتبرون أنه من الضروري بدء إصلاح مشاكل الاقتصاد الكلي والتراجع عن بعض السياسات التي تم تنفيذها في الفترة التي سبقت الانتخابات.
كما أن تعزيز البنية التحتية القانونية ستجلب الاستقرار والمساءلة والشفافية اللازمة لطمأنة المستثمرين.
لا شك أن الأزمة حادة وعميقة، فهل يكون حل إنقاذ الاقتصاد ببيع الذهب أو ابتلاع جرعة صندوق النقد الدولي المريرة؟