في هذا الوقت الذي تشغل فيه الصين، العالم كله، بتقدمها المذهل في ميادين متعددة، وتحولها من دولة معزوله الى دولة من اعظم الدول الاقتصاديه في عالمنا المعاصر ،ومن ثم أصبحت الصين احد الشواغل الرئيسيه لكل المراقيبن والمتابعين لمجرى السياسة الدوليه. يصدر هذا الكتاب (مستقبلات الدور العالمي للصين في 2050 ) للأستاذ الكبير الدكتور مازن الرمضاني ،وهو المشغول على الدوام بالمستقبل، وأهمية العمل والاجتهاد بالدراسة والبحث لأقتحام هذا المجهول بكل مالدينا من جهد،وما نحصله من علم واجتهاد وخبرات، حتى نكون على دراية تامه بوقع خطانا،ومسارها المدروس. ان التقدير العام والمتداول لدي الكثيرين من الباحثين السياسيين والمتخصصين من أهل الفكر السياسي والاقتصادي والعلمي يشير بشكل مؤكد، بحتمية الصعود الصيني على المسرح الدولي لكي تأخذ مكانها ومكانتها على الساحة الدوليه، في عالم يبشر من جانب اّخر بدخول التعددية القطبيه الى واقعنا السياسي بصورة اسرع مما يقدر بعض الخبراء. وعلى ذلك اصبح علينا ان نواكب هذا العالم المرتقب من خلال الفهم والادرك لطبيعة هذا الزمن،وصراع المصالح الذي يتحكم فيها من يملك الدراية والعلم بصناعة المستقبل، لكي يأخذ مكانه،و يرسى قواعد وأصول مكانته.
الكتاب وتبويبه
يبدأ الكتاب بتقديم يتناول فيه الكاتب الأوضاع السياسيه، بجذورها التى تمتد الى قرون مضت ويحددها ابتداءا بمعاهدة (وستفاليا)عام(1648) باعتباران تلك المعاهده قد انهت الحروب الدينيه،التي امتدت الى ثلاثين سنه في اوروبا،ونتج عنها ارساء تلك القواعد المؤسسه للعلاقات الدوليه بشكلها المعاصر.كما انها تعد أولَ اتفاقيه دبلوماسيه فى العصرِ الحديثِ ترسي نظاما جديدا فى اوروبا الوسطى والغربيه تم بناؤه على مبدأِ سيادةِ الدولِ. يستطرد المؤلف قائلا أنه منذ ان ابرمت تلك المعاهده والنظام الدولي يتأسس على مفهوم مركب، جمع بين دالة الدوله القوميه ذات السياده، وبين نمط توزيع القوة، الذي تراوح عبر الزمان بين نمطين، الأول عمودي،والثاني افقي،وبينما يشير التوزيع الأول (العمودي) للقوة بكونها تشكل (أحتكارا)،أو (شبه أحتكار) من احدى القوى الكبري في القدرة على التأثير،وامتلاك النفوذ الدولي الطاغي،ويضرب مثالا لذلك النفوذ بالهيمنه البريطانيه في القرن التاسع عشرعلى امتداد العالم وكذلك بالهيمنه الأمريكيه العالمية ايضا، بعد انتهاء الحرب البارده،وسقوط الأتحاد السوفييتي،وبالتالي تمزق المنظومة الاشتراكيه. في المقابل يعبر التوزيع الثاني (الأفقي) للقوة عن نمطين مختلفين من توزيع القوة بين القوى الكبري،فهو قد يكون (ثنائيا) ومثاله الواضح في ذلك النظام الدولي خلال حقبة الحرب البارده (1947- 1991) وكانت الولايات المتحده والاتحاد السوفييتي محوره الاساسي ،أو قد يكون متعدد الاقطاب ومثاله النظام الدولي خلال الحقبه بين ( 1648 – 1914) فقد جمع بريطانيا وفرنسا وروسيا والمانيا وايطاليا واليابان ، والشئ ذاته ينسحب على الحقبه الزمنيه بين الحربين العالميتين الاولى والثانيه فالنظام الدولي اّنذاك تمحور حول الدول المنتصره بالحرب العالمية الاولى عام 1914 .
الحـراك الـدولي
تبينت لنا ظاهرة الحراك الدولي واضحة،في نهاية العقد الثاني من هذا القرن(الحادي والعشرين)
،بشقيها الصاعد والهابط،من خلال تلك الدول المؤثرة حاليا في السياسة الدوليه،فهي تتوزع على مستويات ثلاث : هناك دول كبري تتقدم صعودا باتجاه قمة الهرم السياسي الدولي،و دول أخري كبري اصبحت تشكل مكانتها الدوليه بالتراجع التدريجي،كما يوجد بينهما كذلك دول كبري اخرى تكافح من اجل بقاء مكانتها،وتأثيرها الدولي مستمرا. وانطلاقا من سرعة حركة التغير التي تغمر عالم اليوم ،وفي اطار تحديات جمه تلازم حركته،كان علينا ان نتواكب مع تلك الحركه من خلال البحث والدراسة في حاضر ومستقبل تلك الدول التي اسلفنا رصد واقعها الذي اصبح يساير مستوياتها،ولاسيما تلك
التي تتقدم صعودا، ونخص هنا دولة (الصين)،أو تلك التي بدأت في التراجع هبوطا كالولايات المتحده الأمريكيه.يستطرد الدكتور مازن فيقول (علينا ان نتذكر ان المرء اذا كان لا يستطيع الاستهانه بالدور الدولي المؤثر لبعض الدول المتوسطه،وحتى الصغري في احيان أخرى،فانه لا يستطيع بداهة نكران التأثير الممتد لسياسات الدول الكبري.
الصين وخصوصيتها
تتمتع الصين باهتمام الكثير من المحللين، وذلك باعتبارها (تعد من اوائل مجموعة الدول التي تبرز بوتائر سريعه في طريق النمووالتقدم الى حد قيل فيه أنها المنافس المحتمل لمقارعة الولايات المتحده الأمريكيه ،بل والتفوق عليها،وبذلك فانها المرشحه لكي تسطر نهاية القرن الأمريكي). كل تلك احتمالات، ولكن تبقي مع ذلك الحقيقه التي تقول (ان الولايات المتحده تسعي الى تكريس نظام القطبيه الأحاديه، في حين ان الصين تسعي الى اعادة رسم وتغيير النظام الدولي). ثم علينا هنا ان نستدرك ونقول(ان المستقبل الذي هو البعد الأخير من ثلاثية أبعاد الزمان (ماض وحاضر ومستقبل )يشير عند تفكيرنا به في الحاضر الى زمان لم يحن بعد، ولكنه قادم حتما،وكذلك لا تتوافر عنه معرفة يقينيه،أو شبه يقينيه مسبقه).لكن مايعزز الفرضيات التي يمكن ان نطرحها حول نهضة الصين المتوقعه خلال الأكثر قليلا من العقدين القادمين من الزمان، هو التزام القياده الصينيه بصناعة المستقبل الذي يجعل من الصين الدولة القائده للنظام الدولي متعدد الاقطاب قيد التشكل الآن، وسوف يكون هو المشهد الذي ستعمل على تحقيقه الصين في 2050،أي بعد مرور مئة عام على تأسيسها في عام (1949).
اسئلة البحث
يطرح الكاتب عبر سطوره خمسة تساؤلات تتناول القضايا التاليه:اولا: ما المتغيرات الداخليه الداعمه للفاعلية الدوليه للصين؟ ثانيا:كيف كان التوجه السياسي الخارجي الصيني،وكيف أضحى الأن؟ثالثا:ما
الاولويات الراهنه للسلوك السياسي الخارجي الصيني؟رابعا:كيف يحتمل ان تكون السياسة الخارجيه الامريكيه حيال الصين؟خامسا:ما المستقبلات البديله للدور العالمي الصيني في 2050؟ وقبل الدخول في اي شرح يتناول تلك الأسئله وكيفية الاجابة عليها،علينا ابتداء القاء نظره مختصره على تاريخ الصين.وهو تاريخ يقترن بخمس مراحل اساسيه، تمتد الى عمق التاريخ الانساني في ابعاده الزمنيه ا،على النحو التالي:مرحلة الامبراطوريه الصينيه (1360- 1840). مرحلة الأذلال الغربي للصين (1840-1912). مرحلة تشانج كاي تشيك (1912- 1949). مرحلة ماوتسي تونج- 1949–1976). مرحلة الصلاح والتحديث الداخلي الممتده من 1976 الى الآن.
تحديد الهدف ونقطة البداية
بغض النظر عن المرحلتين الأولى والثانيه، دخلت الصين في القرن العشرين بعد ان استطاع الحزب القومي الصيني (الكومنتانج) 1912 اسقاط النظام الملكي الصيني حكم اسرة (تشينج) وتأسيس دولته التي اطلق عليها (الصين الوطنيه)وكانت دوله ضعيفه داخليا وخارجيا وقد استمر هذا الحزب في الحكم حتى انتصار الشيوعيين يقيادة (ماوتسي تونج) 1949 على القوميين الصينيين في الحرب الأهلية التي اندلعت بين الطرفين،وقد توج هذا الأنتصار باعلان (جمهورية الصين الشعبيه) في الأول من أكتوبر1949. يمضي الدكتور مازن في القول ان اعلان الصين جمهوريه شعبيه ذات ايدولوجيه اشتراكيه،و خصائص قوميه صينيه قد اسس نقطة البدايه، لتحقيق المشروع القومي للصين ،وقد أريد به أن تعود الصين أمة واحده،ومؤثرةعالميا كما كانت أيام امبراطوريتها قبل ذلك.في هذا السياق
يذكر الدكتور مازن ان التجربه الصينيه بعد رحيل القائد (ماوتسي تونج) عام 1976 قام كل صناع القرار الصيني الذين تعاقبوا على قمة الهرم السياسي في وطنهم بالعمل من حيث انتهى سلفهم.
الجسد القومي
ومدخلات القوة ومدخلات الضعف
غنى عن التعريف ان (الجسد الوطني/القومي) للدول المؤثرة يحتضن بين طياته مدخلات( عوامل) القوة بمعنى القدره على الفعل الهدف والمؤثر وبين مدخلات (عوامل)الضعف التي تحد من القدره على الفعل المؤثر. ذلك ينطبق بدوره على الصين،فجسدها القومي يحتضن عوامل قوة خشنه وكذلك عوامل قوة ناعمه،وكلاهما من المفترض عليه ان يلعب دورا فاعلا في تقدم ونهضة الصين، وذلك بالأستخدام الأمثل لكليهما،ولكن يبقى ان لكل تلك العوامل،أو المدخلات جوانب اخرى فرعيه لابد من احتساب اّثارها في عمليات التغير المحتمله.ينطلق الدكتور مازن من ذلك التصور حول العوامل أوالمدخلات الى تفصيلات تتناول تلك العوامل بالكثير من التركيز والشرح حول معالمها الرئيسية.
عوامل النهوض المتعددة
حول العامل الجغرافي يقول المؤلف ان دعاة المدرسة الجغرافيه السياسية (الجيوبولتيكيه) في السياسة الدولية يولون هذا العامل أهمية خاصة،وكأنه يستوى والحتمية المطلقة للتأثير الجغرافي في عملية صنع السياسة الخارجيه، وقد تمتعت مثل تلك الرؤية باستجابة عاليه، بيد ان مستجدات قد طرأت على عالم اليوم اضافت الى اهمية العامل الجغرافي اهمية عوامل أخرى،مثل العوامل الأقتصادية والتكنولوجية، وان كان ذلك لا ينفي العامل الجغرافي وبقاؤه مؤثرا في التفكير الأستراتيجي لصناع القرارالسياسي لأسباب كثيرة ، ثم تتوالى العوامل الأخرى ويفرد لكل منها مساحة واسعه من الشرح ،لا نتعرض لتفصيلاتها لضيق المساحه في الكتابه.يذكر الكاتب العوامل التاليه : مساحة الدوله ومدى تميزها في الزراعة،والسكان وتعدادهم وحجم الرعاية الصحية وكفائتها،ومنظومة الثقافة وتطورها، والأقتصاد وثرواته وحجم العماله وخبراتها، ثم العامل العسكري ومدى التحديث في مكوناته العسكريه والكفاءة التي يتمتع بها ،وكذلك مدى تأثيره على القرار السياسي بحكم توجهه العقائدي، ومن حيث الأعتداد بجاهزيته. ثم نصل في النهاية الى عامل شديد الأهميه، وهو عامل (القوة الناعمه) ويفرد له الدكتورمازن تعريفا لأستاذ جامعة هارفارد الأمريكيه (جوزف ناي الأبن)وقد ورد ضمن تصنيفاته لمفاهيم القوة المستخدمة في السياسة الدوليه وذكر( ان القوة الناعمه تتأسس على التوظيف السلمي لثلاث مصادرأساسية هي : الثقافة والقيم السياسية والسياسة الخارجيه لتحقيق الأهداف التي تنشدها الدوله) وعلى ذلك لا تدخل القوة الناعمه ضمن مجموعة الأدوات الأكراهية المباشرة أو غير المباشرة المستخدمة لتنفيذ السياسة الخارجية لهذه الدولة أوتلك .
التوجهات السياسية الخارجيه منذ عام 1949
عمدت الصين الى اعادة هيكلة سياستها الخارجيه ثلاث مرات منذ عام 1949، وهو أمر جعلها تقترن بتوجه محدد وجديد في كل مرة (1) التوجه الأيدولوجي: امتد من 1949 الى عام 1960 بالأنحياز المطلق للأتحاد السوفييتي ،ثم حدث التباين بعد وفاة ستالين في عام 1953 وتبني السوفييت لسياسة التعايش السلمي مع المعسكر الغربي (2) التوجه نحو تبني سياسة العزله الخارجيه النسبيه: كان عدم الانغماس الواسع في التفاعلات الدوليه يرجع لقناعتها بعد نجاح الخطه الخمسيه الأولى وامتلاكها للسلاح النووي انها يمكن تنمية قدراتها الاقتصادية والعسكريه اعتمادا على قدرتها الذاتيه (3) التوجه الواقعي البراجماتي وقد ابتدأ عام 1976:،ارتبط ذلك بالمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني ،ونقطة التحول في كيفية التعامل الصيني مع العالم (4) اولويات السياسة الخارجية الصينيه: تمت هيكلة السياسة الخارجيه الصينيه لكي تتحدد مؤخرا في هدفين الاول تغليب الأرتقاء الاقتصادي لتحقيق التنمية الشامله. الثاني تغليب سياسة التعاون على سياسة الصراع. (5) السياسة الخارجية الأمريكيه حيال الصين حتى عام 2050 :على الرغم من تناقض المصالح الامريكيه الصينيه الا ان هناك عوامل تجعلها تحت السيطره، وتحول دون تصاعدها منها زيادة العلاقات الاقتصاديه بين البلدين، ثم امتلاك السلاح النووي لكل منهما ،وهو يمثل رادعا لأي مغامره غير محسوبه. (6) المستقبلات البديله للدور العالمي للصين عام 2050 :ان اوضاع مستقبلها الذي يمتد الى عام 2050 سوف يتحدد على ضوء تفاعلات معطيات عواملها الداخليه مع نتائج سياساتها الخارجيه، ولنتذكر ان الصين التي كانت دولة لا تحظى بالقبول الدولي ،استطاعت لاحقا وعبر سلوك قوامه التعاون ان تبني لذاتها مكانة وهيبة دوليه. لذلك نقول انه على ضوء نتائج معطيات الواقع الداخلي والخارجي للصين فاننا نرى ان المشاهد المحتمله والبديله لمستقبلات الدور العالمي للصين في عام 2050 تتحدد بثلاثة منها وكالآتي بالتتابع. أولا: قيادة الصين للنظام الدولي متعدد الأقطاب،وهومطلب اوهدف يرتبط بأربع مثلثات تضم كل مجموعة منها دول توليها الصين حاليا اهمية خاصه،وهي الآتي المثلث الأول ويتكون من مجموعة من الدول ترتبط قوميا بالصين(هونج كونج وماكاو وتايوان وفي هذا المثلث ينصرف الهم الصيني الى تأمين استعادة تايوان “فرموزا” مثلما تم استرجاع هونج كونج وماكاو). المثلث الثاني (المثلث الدولي المتوسط الذي يجمع الصين مع اليابان والهند )ولطبيعة موقعه وحجمه تتطلع الى ان تكون مؤثرة في تفاعلاته.المثلث الثالث الكبير: وهو الذي يجمعها مع الولايات المتحده واليابان، واهميته تكمن في الحاجة المتبادله بين أطرافه.المثلث الرابع: وهو المثلث الدولي الأكبرالذي يجمع الصين وروسيا الاتحاديه وكذلك المانيا الاتحاديه ،واهميته ترجع الى اهمية أطرافه. ثانيا: المشاركه في تشكيل النظام الدولي متعدد الأقطاب : ان قانون الحراك الدولي يؤكد ان هبوط اي قوة دوليه من قمة الهرم الدولي يتقابل دائما مع صعود غيرها الى هذه القمه،وتعد الصين من بين تلك الدول التي يحتمل بدرجة عاليه ان تكون طرفا مشاركا في بناء هيكلية تعدد الأقطاب الدوليه.ثالثا: قيادة عالم الجنوب: وهو ما يعرف لدينا في العالم العربي باسم ( العالم الثالث) وقد حرصت الصين منذ مرحلة ماوتسي تونج على عدم التدخل في شؤونه الداخليه ،وان ترتبط به من خلال دعم العلاقات التجاريه التي ارتفعت الى اكثر من 330 مليار عام 2022ـ والصين تعتبر نفسها تنتمي الى ذلك العالم وقد صرح الرئيس الصيني الحالي في معرض حديثه عن العلاقة بين الصين والعرب الى قوله ( انهما عضوان في معسكر الدول الناميه ).
الخاتمه
حرص الدكتور مازن ان يذكر في نهاية هذا الكتاب ان يقول ان هذه الدراسة لاتنصرف الى التنبؤ القاطع بما سيكون عليه المستقبل ،ولكنها تنصرف الى استشراف مستقبلات الدور العالمي للصين في عام 2050 .واستطيع من جانبي ان اقول انني استمتعت للغاية في السباحة الفكريه بين دفتي هذا الكتاب .