مسرحية “فيزيا وعسل” للينا خوري

احتفال جنائزي في عالم فقاعة

لا قطعة حلوى في ما يقدم في الصالات.لا شيء يدعو إلى التفكير. لا درة . لأن الدرر سؤال الكمال . لأن الدرر كمال . الآن ، لا شيء سوى قمصان على صدور المسرحيين ، إذا ما نظرت إليها لن تجدها . لا عار . ذلك أن حسن الضيافة القديمة في المسرح، انحسر لا في لبنان وحده. انحسر في العالم . لا داعي لكلام يدعي الأهمية لايستثير السباب ولا المثالب ولا التأنبيات. لأن الأخيرة تراكمت خلال الثلاثين عام الماضية ، حيث لم يعد أحد يعرف أن يصنع الحلوى ولا أن يحترم صناعتها ولا أن يسمع خبرها ولا أن ينظر إليها باحترام إذا ما استطاع أن يصنعها . الأهم ، أن لا سخط. بالعكس.صالات ممتلئة بالعمات والخالات، صاحبات التعليقات المباشرة وكأنهن يشاجرن أنفسهن حين يطلقن تعليقاتهن ، حتى إذا نظرت اليهن نظرن بدورهن كما لو أنهن يزجرن بصرف القروي من الصالات المدينية.لا صراع فكري.لامفكرين.لأن الأمر يستوجب معسكرين. والعالم في آحادية لا تحترم أحداً( المعادلة واضحة : لا أفكار، إذن لا أشكال . لا البشر ولا الحيوانات. ولكن ثمة جرحاً في الحناجر . جرح مجروح بالجحود ، من عدم اشتياق أهل المسرح لأسرهم القديمة . ولكن ثمة شباباً، شباناً وشابات . ثمة من يواصل التكهن بمرض المسرح . مرض داء الحب . ثم ، مرض ما تعانيه ما تبقى من أجزاء سليمة في مسرح كلما تراجع لن يرمقه أحد بكراهية ظاهرة.ادراك الكل ذلك ، باستثناء من لم يشأ رؤية الأمور ، برفض الرابط بين الإختفاء والإنهيار . هكذا ، يعالج المسرح نفسه بالذهول . يعالج نفسه بالمونودراما ، أقراص الفيتامينات أو مرق الطيور . الوصفة

لينا خوري مخرجة فيزيا وعسل

جاهزة ، على التبدلات بعيداً من التقديرات . مونودراما متوحدة ، مونودراما متعجرفة . لا ينقص سوى أن يجيء المسرحيون بقروية ، ما دام الكلام على القرى والمدن ، قاسية التقاطيع تدخن سيغاراً كما دخن بريشت ، لتنفث دخانه على المريض بهدف استخلاص معاناته في طقس من طقوس السحر . معاناة المسرح من أي مرض معروف في العلم ، لتخرج بأن ما وقع ليس سوى نوبة متصلة من كآبة الغرام المفقود ، في هجوم المؤسسات والصناديق على جيل الشباب ، من لا يزال يراوح أمام مقولة أن لا مشكلة سوى في العلاقة بتقاليد الأسلاف .

ذهب المسرح من دون وداع . لا يزال يحتفظ بجزء من جمهوره. جمهور لا يمكنه إلا الذهاب إلى المسرح . إنهم ضيوف المسرح . ضيوف من دون داع . سوف يتعرف الجمهور على الرعب في بعض المسرحيات وفي بعض المؤلفات النقدية . مؤلفات إما تنزع الفستان عن المسرحية ، لكي تظهر عريها وعارها . أو تزيد على الفستان فساتين حتى تنغلق معدة لابسه أو لابسته وتفقد القدرة على ابتلاع الطعام . تحطمت علائم طيب الطالع بصالح سوء الطالع ، ما جعل الأسنان تصطك . وما جعل السؤال يدور حول فن المسرح ، مع التصديق بأن ما يحدث لا علاقة له بالمكتسبات ، وهي ما ينبغي أن يدركه العاملون في المسرح لا أن يدركه المتلقون وحدهم . ذلك أن سؤال ما هو فن المسرح يطرح بلا هوادة أمام مسرحيات لن تباشر رحلاتها قبل أن ترصد طرقاتها أو تسلكها .

لا علامات جديدة وثيقة الصلة بالموضوع . ثم ، أن لا توقعات بغياب التضمينات . لأن كل ما يرى معروف، سوى مع من لا يزال يفهم ألعاب المسرح بضم المواقف الإفتراضية بالصور والأحداث والشخصيات والأفعال وردود الأفعال على الأفعال الفردية والجماعية . ردود الأفعال ، ما لا يتعلق بتصديق الحالات الذهانية لا الذهنية ، الشبيهة بالتصديق . ما يأخذ أشكاله المادية بوضوح يرتبط بالوسائل . لأن ما يجعل التعبير أو العلامات التعبيرية نوعاً ملائماً لشيء توجب مشاهدته، يعتمد على نوع الحالة المرتبطة بالمسرح من الناحية المفاهيمية. ربطت بتي طوطل “مونبوز” بفشل استجابة الجسد لانفصال الإنسان عن حالاته المادية في الأعمار المتقدمة .إنها من الأشخاص المراقبين للنفس . لن تفعل لينا خوري أشياء عادية وهي تحس بعدم الراحة أمام ما وقع ويقع وسيقع في بلاد انتهت في بذلها الحد الأقصى من الجهد حتى انتهت محمومة بجسد بارد وروح مقتولة ما عاد باستطاعتها التجاوب حتى في حالات العودة إلى النفس . لم تعد تجد هداياها للمسرح إلا وهي تَنحَل . “فيزيا وعسل” عن نص نيك باين “كواكب” ، تؤكد ما هو مؤكد . أن العالم أضحى امرأة لا تخشى أن تقطع حلمتي ثدييها ، بعد أن وجدت أن الحلمتين خانتا الثديين . من المؤسف عدم العثور على المؤلف

مشهد آخر : فراغ المسرح فراغ العالم

الأصلي وتقدير مسرحية خوري على مؤلفه ، زمنه ، فترته . من المؤسف عدم العثور على المسرحية الأسيوية، من وجدتها خوري في فناء أحد المهرجانات وهي تعالج نص باين ، بحيث بقيت تتأرجح في ذاكرتها على مدى أعوام ، حتى بللت وجهها وجعلت مكياجها يختلط بدموعها . نص قاس ، كأنه قناع مهجور في العراء لم تدعه خوري يغفو لحظة واحدة فوق منصة خالية ،لا تذكر سوى بانغراس جذع بروك في “المساحة الخالية” . ولكن خوري لا تلتقط من رياض بروك سوى الفراغ . فراغ ، فراغ ، فراغ . فراغ من عظم ولحم . فراغ لينا خوري من محاولاتها ملء فراغ المسرح بماء العلاقات المستحيلة وهي تنطلق من المداعبات إلى الإنهاكات . إنهاكات اليوميات العادية . انهاكات الظلال الصدفية للعلاقات . انهاكات الأمراض . ذلك أن بطلة المسرحية ( ريتا حايك ) لن تلبث أن تقع في الإتساع المفتوح للسرطان في دماغها بعد محاولات دؤوبة لتنظيف العلاقة بحبيبها (وزوجها) وتهوئتها . طشت من الفراغ يدور به البطلان ( رولان سعادة وريتا حايك ) لا يخرج من الفراغ إلا للكلام على المحن،إلا لتجسيد المحن في لحظات أبرد من برد الثلج حتى ولو دعت ” فيزيا وعسل ” إلى عدم التفكير سوى بالحرارة. بالطشت فراغ يبقى إلى آخر الليل ، تعطره لينا خوري بالعبث. لأن منطق الأمور في العبث . لأن المنطق في العبث ، بعد أن حار العقل أمام الأحداث بحيث رفع أعلامه البيضاء أمامها .

مسرحية ” فيزيا وعسل ” ( قصة علاقة بين فيزيائية وعسال ) مسرحية عبث خالص . ولأنها كذلك لن تطلق تنهيدة سعادة واحدة . لأن عبثها كعبث العبثيين ( لا العابثين ) من يونسكو إلى بريندلو وبيكت وأداموف . عبث لا يجيء في مركبة فضائية . عبث يستلقي على سرير الواقع . إنه يغني في ” فيزيا وعسل ” باللغة العربية ( المحكية اللبنانية ) . إذ أن العبث لدى خوري يضع أحمر الشفاه على الخدين لا على الشفتين في إشارة لا علاقة لها بالطلاء . إشارة ترغب في معرفة ما هي متأكدة منه . أن الخراب عميم ، أن الموت عميم ، أن الأمل مفقود ، حتى بذلك الأمل المخترع في جاط الكبة أو التبولة . نهاية الحرب العالمية الثانية عند العبثيين ، كتلك الخلسات المحلية . خلسات وضعت أحلام اللبنانين في حقيبة كرتونية . ثم ، رمتها في مياه الأبيض المتوسط ، في مياه مرفأ المدينة المُدَمر . مياه المدينة الساقطة كورقة واحدة على جذعها في غفوة تفزع الصمت حتى في مخيمات الإعتقال .

لينا خوري لا راضية ولا سعيدة وهي تواجه الخوف والتصدع وعدم الإستقرار . إذن ، لا بد من رواية الأمر بنوع من الإحتفاء الجنائزي . احتفاء يترنح فيه الجميع لأن في قلوبهم ما يحدثهم بأن الكارثة لم تقع بعد ، بأن الكارثة ستقع . وسط هذا القيظ يمتطي الواحد لحظات الآخر . يغطي الواحد الآخر بلحمه ، في لقطات سريعة تجعل الرب يعترف بأن المسرح لا يمحوه شيء وهو يستعمل السينما ، حيث فاحت روائح السينما في ” فيزيا وعسل ” كما لو أن ما يقع حلم في واقع أو واقع في حلم . غير أن التقطيع السينمائي السريع، قاد إلى رصد السيد تغريب فوق المنصة المكنوسة من كل شيء سوى من بعض المكعبات . هكذا ، يتعانق بريشت وابطال العبث في دبيب البطل والبطلة من لا يحتفظان بالصمت وهما يعترفان الواحد للآخر بأن شعره تبلل من جسد آخر في تسرب جنسي قصير ، وقع بدون استعداد . أو باستعداد بسيط . التقطيعات الضوئية رمال متحركة ، خرجت منها لينا خوري بدون ترنح ، لأنها حين استعملتها ارادت أن تبعث بالصور حماسة في عملية دقيقة . كثافة ضد النوفرة . ولكنها كثافة مزيج من الوقوع في الأرق والخيال . غرق في القطع، حتى ظهر القطع وكأنه دعوة إلى التأمل في أعماق النفوس . تأمل يقف على التحولات . تحولات داخلية، تحولات خارجية ، حتى يرى بعضها كما لو أنها ذات نتائج فوتوغرافية ، تجمد الصورة ولا تجمد رنين جلاجل الخوف .

ثمة شيء ملح يتظهر في أحيان ولا يتظهر في أحيان . ولكن لا مشقة في إدراك أن العمليات كلها تقود إلى التطهر ( كتب بعضهم أن المسرحية ما بعد حداثية ، حين أنها مزيج من هواجس العودة إلى خلاصات المسرح مع بريشت وبروك). كاترسيس بلا وسائد . ولكن ثمة من يندفع إلى التواصل مع خوري وهي تُسمِع أخبارها لمن يود سماعها . غروتوفسكي . ذلك أن الصراع يدور على مسرح فقير . صراع كاهنين من كهان المسرح ، كلما ابتعد الواحد منهما عن الآخر ، داعبه الآخر حد الإعياء . قد يجد بعضهم في ريتا الحايك جرأة لا توجد لدى أخريات . إنها ملتزمة ، لا تغطي الأدوار بخمشها في مواضعها . إذ أنها تخرجها من احشائها بالهمس أو بالصراخ . ملتزم من لا يخشى أن يؤدي مشاهد يعتبرها جزء من الجمهور ممتلئة بالجرأة . التزام لا جرأة . هذه شابة تقود نفسها في كل العمليات مسخنة أدوارها بالتزامها بمتطلبات الدور حتى ولو بدت ضرباً من المحال لآخر أو أخرى .

ثمة جمل مكررة . إنها جزء من روح العبث في الدراما . ثم أنها جزء من التعبير عن اصطدام اللغة بنفسها ، مراوحتها في عالم مراوح . ثم ، اصطدامها بالواقع وهي تحدث بما لا يظهر أنه سيقدم نتائج جيدة . خوري كممثليها مذعورة في عالم فقاعة . عالم انقشع على تغلب الشهوة على المخاوف ، حين اندفع إلى تصويب ميزانيات خارقة على التسليح ليهزمه فيروس قاتم طبع روح العالم على مدى أعوام . فيروس بأنف بارز . فيروس دفع العالم إلى معالجة إبزيم حزامه وهو في طريقه إلى خلع بنطاله لتظهر مؤخرته مصوبة نحو روح بهيمية سادت ولا تزال ، مانعة العيون من اللقاء .

“فيزيا وعسل “مسرحية عضات . كل ما فيها يعض .إنها تشد بعنف لكي يواصل العالم ارتياد عنقه وكتفيه ، ارتياد فؤاده . لا الإنفعالات ذات اللعقات المتعجلة . مسرحية عضات مستحقة ، تحفز على الإتضاح غير المتوافق مع الشخصيات . هذه واحدة من أدوار المسرحية . أن لا يجد المشاهد نفسه بديلاً للبطلين ، الأنثى للأنثى والذكر للذكر . لأن معتقدها معتقد إنتحاري ، في فهمها المسرحي . الفهم الأعمق . لأن ثمة فهمين . فهم أساسي وفهم مسرحي أعمق ، لا يشتغل على ما يلائم . بالعكس . لا بأس من العودة إلى التقطع الضوئي . التقطع جمع تكسير . التقطع كسور في أسلوب الأداء الدرامي ، الإخراجي ، المستخدم . ولكنه تقطع إذا يخرج المسرح من السرد ، يقوده إلى التوقيع بدل الإيقاع . الإيقاع موجود في الأداء . موجود في الإخراج ، غير أنه أعرج في تواليه في القصة المقدمة ، إذ ينحرف بها إلى فقدان الفرضية الجمالية في صالح الصنعة الفنية . ولو أن المسرحية وهي تدور على معتقدات الشخصيتين بحرية مطلقة ، دوافعهما وأفعالهما ومبادئهما في محاكاتهما الساخرة للحياة ، تجمع اجزاء من المناهج المسرحية بدون اقتراحات تعريف إجرائي . هذه شطارة . اذ أن لينا خوري لا تدخر جهداً في تحرير ما تقدمه من بريشت وغروتوفسكي وبعض ارتو وبروك تحريراً لا يفتقد شروطه العامة والخاصة ، بحيث يبقى قابلاً للتقويم والتقدير والإنجاز . هكذا ، تتقدم ” فيزيا وعسل” كإنجار يقوم على التساوي ، إلى حد الوقوع ( احياناً ) في نوع من السيمترية الأدائية في مختلف وجوهها . وهي سميترية واضحة وضوحاً لا لبس فيه في الإيقاع ، بحيث يضحي الإيقاع نمطاً ايقاعياً لا إيقاعاً في البنية المكونة من فصل واحد وعشرات المشاهد القصيرة( سوى على صعيد الملابس ، حين تقدم المسرحية ريتا حايك بملبس واحد وظيفي ، بوظائف متعددة ، بعكس رولان سعادة من راوح في مصافي الملبس العادي ) .

“فيزيا وعسل” مسرحية هجاءة للنفس ، لا للسخفاء المنحرفين من يقومون بأشياء ضارة أو سخيفة . لا يفوتها الهجاء لكي تضيء على نقاط ضعف الشخصيتين من لا تسلمان بالتأكيدات الحياتية . لن يفوت الإخراج أن ريتا حايك هي لينا خوري . هذا شيء حاسم . وأن ما يعرض هجاء لا يسخر منه ، لأن الهجاء يستوعب كل الأهداف ، منها المحاكاة الساخرة من الالام. لأن السخرية فن الإهتمام بالتفاصيل المرعبة والإنقلاب على رعبها بفهم خلفياتها وفهمها في نوع من المعرفة المتخصصة ، ما يسمى تلقائية . هكذا ، يفهم الممثلان ما يؤديانه بما يفعلانه ، حتى في اخطائهم الأدائية المتعمدة . لأن الأخطاء تقود في “فيزيا وعسل” إلى الخروج على العادات تبعاً لشروط النجاح التالية للفهم الأعمق للأداء . ولأنها كذلك ، تملك المسرحية تسرب نواياها في بنيتها الداخلية العرضية ، وهي بنية تقليدية ولا تقليدية في الوقت ذاته ، حين أن مظهرها الواضح هو مظهر مدار . أي مسرح يدور في مداره وهو يدور في مدارات الآخرين . وهذه من الإنجازات اللامألوفة لهذه المسرحية الدافعة إلى التشبع بخصائصها حد الدعوة إلى الخروج على معتقدها . انها في ذلك تقدم مثالها التوضيحي في شروط المعرفة المشتركة بين المسرحي والمسرح . إنها ذات صلة بشروط المسرح . وهي في صلتها هذه تبتعد عن الشروط هذه في علامات سلوكية لا علاقة لها بقواعد الإرشاد . لا علاقة لها بالتعليم . علاقتها بالتربية لا بالتعليم . لان التعليم اعادة انتاج ، حين أن التربية قنوات خيال . مخيال لا يوافق الممارسات الثابتة .

مناهج موظفة بنجاح ، بعيداً من الأدلجة ، سوف يقود الأمر إلى نوع من الشفافية العالية . شفافية سوداء ضد التضمين المجاني ،اذ تقدم شروطها بشكل متباين لا متناقض لتحقيق طبيعة المسرح وهدفه في مسؤولية المخرج والممثل في عملية صنعه . لا مخاطرة بالوقوع في السوابق . لأن “فيزيا وعسل “لا علاقة لها بحكي نسوان ولا بحكي رجال ولا بما فعله سرحان سرحان في ستيريو عصام محفوظ( ثلاث مسرحيات سابقة لخوري ) . ذلك أن خوري لا تلتزم الجبن المسرحي وهي تقفز فوق الجهل والكسل.الكسل أولاً .