مسيرة وطن .. من خلال رؤيه انسانيه ونضالية

عرض لمسرحية تم عرضها الشهر الماضي على مسرح باترسي

هذا العنوان ليس اسم المسرحيه التي شاهدتها على مسرح مركز الفنون بمنطقة باترسي في العاصمه البريطانيه والتي قام الفنان البريطاني ذو الأصول العربيه ( المصريه) خالد عبدالله بدور البطولة فيها، كما قام بكتابة النص،وهي مسرحية من مسرحيات الممثل الواحد، فهو البطل، واختار لها اسم تمتزج فيه الكثير من المعاني والرؤي وهو ( اللا مكان..سيرة ذاتيه مضاده) . الفنان (خالد عبدالله) خريج جامعة كامبردج البريطانيه ،ودراسته تخصصت في الأدب الانجليزي ،اما الفن فكان عشقه الطبيعي بعد ان مارسه على خشبة مسرح الجامعه،وقدم عليه انماطا مختلفة من

صورة الاعلان الذي سبق العرض

الأدوار،قبل ان يتخرج ويلعب ادوارا متعددة على شاشات التلفزيون والسينما وعلى خشبة المسرح . الاسم الذي اختاره وفق رؤيتي ككاتب لتلك السطور، يعكس رؤية شاب ولد في اسكتلندا، بعد ان هاجر والداه الى بريطانيا،ودخلت في عملية الهجره عوامل عده منها الظروف السياسيه بعد ان كابد الأب والجد من قبله بعض المتاعب في البلد الأم.لذلك عندما اطل الحفيد على الدنيا وجد نفسه في اسكتلندا، واصبح هذا البلد الذي شهد مولده هو (هنا) التي حاول ان يشرحها،وماذا تعني كلمة (هنا) بالنسبة له.انها  كلمة تحمل في طياتها احداث

 واحداث عبرت في حياة القادمين الى هذا البلد اوغيره . انها بالتأكيد ظروف معقدة ،مازالت تترك بصماتها في حياة الكثير من البشر، بين ترحال واقامة جديده. أما العبارة الذي اختارها عنوانا،للمسرحيه فنرى انه بالأمكان أن يمتزج في حروفها ألوانا من الأدب والفن وهما صناعته من واقع الدراسة التي قام بها ،والممارسه التي انتهجها ،ثم اكتسب منهما قيمة أخرى وهي الفلسفة في الرؤى ، ،فاكتسبت حصيلته بذلك الوانا كثيره من المعرفه ، والمعرفه هي الجمال .والحياة بلا فن تصبح قاحله موحشه ،ولذلك فالجمال رفيق الحياه،بل هو جوهر استمرارها وسر عذوبتها ،مع كل مانصادفه من متاعبها بل ومن شقائها ان لم تكن ادرانها. ان جمال الحياة وقبح متاعبها هما ادوات الصراع على هذه الأرض .ويأتي الفن ليكون مراّة لهذا الصراع ،وعلينا ان نتذكر ايليا ابو ماضي واشعاره الثريه ، حين نظم ،والذي نفسه بغير جمال ..لايرى في الوجود شيئا جميلا.

العرض المسرحي واّفاقه

ان كان للعلم أداة رئيسيه في المعالجه والطرح هي (كيف)، فالفلسفة ايضا لها أداتها المميزة في الاستفسار والسؤال وهي ( لماذا ؟) .وقد حاول الفنان الكاتب الممثل ( خالد عبدالله ) ان يجيب على وعده بالمشاركه في الحوار– عبر النص المكتوب – مع مشاهديه عن ماذا تعني كلمة (هنا) في اطار عرض تناول فيه الأحداث التاريخيه التي مرت بها بلده الأم (مصر) والشخوص المقربة اليه وأدوارها على الساحة المصريه حتى قبل ان يولد ،ثم وهو الأدعى بالمتابعه الميدانيه ،حين شارك بشخصه في ذروة الثورة الأخيرة في مصر ،وهي احداث 25 يناير عام 2011 ،في ميدان التحرير وهو القاعدة الرئيسيه في الثورة،وانطلاقا منها الى احياء وشوارع ومقرات متعددة .كانت بدايات هذه الموجه  في تونس ،و(ثورة الياسمين) والمعروفة تلك الأحداث مع تقارب اندلاعاتها بالأنتفاضات العربيه واسمها الأعم (الربيع العربي )،والسؤال الى مدى نجح ( الربيع العربي) وهل كان ربيعا خالصا ؟

العرض المسرحي وأدواته

قام الفنان خالد عبدالله بأداء الدور، ليس من خلال عرض خطابي ،يحاضر فيه ويسترجع ،ويتواصل ويستدرك ،وانما قام بأداء دوره مستخدما فيه كل ادواته الحركيه من الصوت الى الجسد بأطرافه المتعددة استخدام اليدين، والقدمين،ترافقه تقاطعات الموسيقى، لأعطاء الحدث قيمته وفحواه ،بل انه قام عدة مرات بالألتفاف داخل خشبة المسرح باستخدام الستائر الشفافه والقيام بحركات تتنوع في مدلولاتها ومراميها، يضاف الى ذلك استخدام الأكتاف والذراعين ،ورعشات اليد تعبيرا واسقاطا على بعض المعاني ،ثم والاهم استخدام العينيين ،وتعبيرات الدهشة والأستنكار ،والتعجب

ثورة 25 ينانير عام 2011 الذي شارك فيها الفنان

والأستهجان ، ويشد الأنتباه حين تعرض لما يلاقيه الفلسطينيون من عذابات،وحملات القتل والتعذيب وتكشف العينان عن لمعات باكيه ،وهي تترقرق في مقلتيه ،محاولة ان تخرج بسيل من الدموع ،لكن تحجبها ارادة قويه،ورغبة ان لا يفلت الموقف ويخرج من بين يديه ،فيؤثر ذلك على استمرار التعبير وتدفقه. كشف ذلك الموقف عن مدى سيطرته على ادواته،بأسلوب يسترعي الانتباه ويثير الاعجاب من جانب اّخر ،وباختصار كان البطل الأوحد على خشبة المسرح،ولكنه باستخدام أمثل للغة الجسد بشحنات التعبيرالمتوهجه، قد ملأ مساحة المسرح، الى مدى بعيد في حجم البلاغة في دقة تعبيرها ،والتحكم في اشاراتها ،بحيث في النهاية ملك وامتلك في اّن واحد مساحة العرض كاملة  عرضا لقضيته وتعبيرا عن فهمه ومشاعره التي تدفقت كشلالات ثرية بما تحمل ،فامتعتنا واسعدتنا في وقت واحد.

موضوع العرض

القضية في الاساس قضية وطن،سلبت حريته،في ازمان متعددة، وما ان يستردها،بكفاح مرير ومعارك ضاريه، حتى تعود اليه غارة جديدة من سلسلة الناهبين للثروات الوطنيه، ومن ثم يعود من جديد الى مرحلة كفاح جديده. ولذلك صيغت عبارة نافذة تشير وتسجل لهذا التعدد من القوى الاستعماريه ،بين الغزو ،وبين الرحيل والجلاء ان (مصرمقبرة للغزاة) ،ونقترب من موضوع المسرحيه بادخال عامل المعاصرة للأحتلال البريطاني وظهور صورة ( اللورد كرومر) على شاشة العرض الواقعه خلف الفنان

بطل العرض(خالد عبدالله). كان الاحتلال البريطاني امرا تعد له بريطانيا منذ وقت طويل ونتذكر تاريخيا حملتها عام1807  بقيادة ( فريزر) وبعد فشلها كانت تراقب من جديد حتى عام 1882 حين بدأت في ضرب الاسكندريه في 12 يوليو من ذاك العام ،حكم اللورد كرومر مصر منذعام 1883 حتى 1907،ولم يخرج الا بعد مذبحة دنشواي عام 1906 ،وهي قرية صغيره، من محافظة المنوفيه جرت فيها احداث تتلخص في ان خمسة جنود بريطانيين دخلوا الى تلك القريه باعتبارها مكانا مناسبا لصيد الحمام وبالطبع كان الحمام يتجمع لالتقاط حبات الغلال ،في اجران الغلال وهي  اجران مخروطية من اللبن تُخزّن فيها غلال الموسم، وحدثت اشتباكات بين الجنود البريطانيين والفلاحين ،بعد ان اصيبت امرأة في عمليات الصيد وتطور الأمر في نهاية الاشتباكات الى مقتل عدد من الفلاحين،ووفاة ضابط بريطاني،وقد تم التركيزعلى هذه الحادثة تاريخيا نتيجة لرد الفعل الغاشم للسلطه البريطانيه،والأسلوب  الذي عولجت به ،واستخدمها الزعيم المصري الشاب مصطفي كامل ،وقام بالتشهير باللورد كرومر الحاكم البريطاني لمصر،بعد مضي اكثر من ربع قرن على الأحتلال، مما استدعي في النهاية ان يتم عزله من منصبه. اقتصر الفنان في طرحه على رمز الاحتلال ، ولكنه لم يتطرق تفصيلا لجرائم الاحتلال ،وما ترتب عليها اقتصاديا واجتماعيا ،والمشكله في كل استعمار انه يصادر حق الشعب في التنميه والحياة ،فقد ترتب على الاحتلال وكرومر ،انه قام بتصفية كل المصانع التي انشأها محمد على وفتح الابواب للأستيراد كما احتكر محصول القطن ،وكل ناتجه لصالح شركات المنسوجات البريطانيه.

استمرار الاحتلال

خرج (كرومر) ولكن الاحتلال لم يخرج ،وعلى الجانب الاّخر ظلت عمليات المقاومة عبر التفاوض بحثا عن الجلاء عبر القنوات الدبلوماسيه والهيئات والمجالس الدوليه،وهو امر لم يتعرض له الفنان تفصيلا ،فهو يروي من خلال المراحل

الفنان خالد عبداله
كتب النص وقام ببطولة العرض

التاريخيه في عمومياتها،وليس في تفصيلاتها ،والخط الرابط بين تلك الاحداث ، والمتابعات الأسريه ،فهو ملتزم بالخط الأساسي ( An anti – biography )

(سيرة ذاتيه مضاده) ،ويستدعي الامر عدم الدخول في التفاصيل.

الظروف السياسية وانعكاساتها على الاسرة

قدم الفنان الشاب (خالد عبدالله) عرضا للظروف السياسية التي مرت بها مصر، وانعكاساتها على اسرته،تحدث عن جده الكبير(عبدالله)،وتحدث عن جده المباشر( الدكتور ابراهيم سعدالدين)وتحدث عن والده (الدكتور حسام عبدالله) ,قد كان الدكتور ابراهيم سعد الدين، وللعلم اسم الدكتور اسم مركب فهو في ذاته اسمه (ابراهيم سعدالدين)،ولم اكن اعرف ذلك سابقا ،وقد تسبب لي في بعض الارباك في وقت مضي، والدكتور ابراهيم سعدالدين كان استاذا في كلية التجاره وتخصص في الاقتصاد قبل ان يصبح نائبا لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وعميدا للمعهد العالي للدراسات الأشتراكيه ،وقد تم اعتقاله عام ،1956 قبل تأميم قناة السويس ،وقد ظهر له رسم على الشاشة في تلك الفترة المبكره من حياته وقد رسمها سجين اّخر في فترة الاعتقال، ذكرى لتلك الأيام، ثم اعتقل مرة أخرى عام 1971 أبان الأنقلاب الذي قاده الرئيس انور السادات في 15 مايو 1971،وقد استمر في الاعتقال عدة

شهور،ويقول من عاصروه في فترة السجن انه كان نموذجا مشرفا للأنسان خلقا وسلوكا والتزاما وتقديرا لوزن الكلمه ومدى مسؤوليتها.هكذا يقول من عرفوه عن قرب،و لم تأت تلك التعريفات

 في العرض الذي قدمه الحفيد الفنان خالد عبدالله ،وانما اذكرها اثراء لمعلوماته عن جده ، وبعد ان

خرج اعفي من وظيفته،وذهب للعمل في الكويت أما عن الأب (الدكتور حسام عبدالله) فقد ظهرت له لقطات وزوجته ( الدكتوره مديحه الصاوي) مع الأبن الفنان خالد وشقيقته السيده حنان وكانوا اطفالا ،وقد اعتقل ايضا الدكتور حسام عبدالله ونسبت اليه اتهامات خرج بريئا منها،وان قد تعرض لبعض المتاعب مع الحكم بالبراءة ،وربما كانت هذه المتاعب العائليه جزءا من متاعب الوطن ،وماتلاقيه بعض العناصر المخلصه للوطن وللمجتمع ،وقادره على البذل والعطاء لبلدها ومستقبل بلدها ،ولكن ليست كل العناصر وماتحمله من اّمال للوطن وللمستقبل في منأي عن المتاعب.ولعل تلك الصور تحمل الأجابه عن معنى (هنا)ولماذا وكيف وصلت الى (هنا).  يسعدني في هذه العرض ان اقدم للفنان الشاب بعض المواقف لأبيه (الدكتورحسام) وقد كان يدير مشروعا خاصا بأطفال الأنابيب وجاءته ذات يوم سيده تريد عملية اجهاض فسألها عن الأسباب جراء اتمام هذه العملية ،وقالت له بصرف النظر عن الأسباب سأدفع لك الأجر الذي تطلبه فقال لها ردا قاطعا المسأله لاتتعلق بالأجر،فأنا على استعداد للقيام بها بلا اجر ان استدعي الأمر صحيا،ولكني لست على استعداد للقيام بجريمة قتل مهما كان حجم الثمن . اتضح فيما بعد ان تلك السيده كانت صحفيه تعمل تحقيقا عن بعض المواقع الطبيه التي تجرى مثل تلك العمليات نظير اجور باهظه. يمكنني ان استطرد في الحديث عن اباك ، ولكن في

اللورد كرومر حاكم مصر
تتصدر صورة الكتاب الذي الفه روجراوين على شاشة المسرح

ظروف اكثر اتساعا.المهم اجابة السؤال .كيف وصلت الى هنا وتركت بلادك . هل هو نسيج الأقدار، ام ان هناك دوافع متعددة لا تدخل منها الرغبه في البحث عن بلد اّخر، كما لا تدخل فيها الصدفة ،ولا شك ان في كل منا عالم اّخر يسكنه ويحركه عالم من الاحلام والرغبات والطموحات،ولا شك ايضا ان هناك تقاطعات يمكنها ان تحد أو تدفع ،والمحصلة دائما هو السؤال كيف ولماذا وصلت الى هنا ؟ سؤال تمت الاجابة عليه كثيرا في السابق ،وسوف تظل مطروحه رغم انه في الكثير من الأحيان سوف تجد ان الاجابات في الغالب الأعم واحده ،ولكن خلاصتها ان مجتمعاتنا لم تنضج بعد، الى حد ان تستوعب احلامه ،او على الأقل تكفل له أمانه او استقراره، وتجد تكرارا لما صادفناه من قبل ،لقد صفيت المصانع التي بناها محمد علي،وبعدها بعقود طويله، صفيت مرة أخرى المصانع التي بناها جمال عبد الناصر. ولك ولغيرك ان يتساءل بعد ذلك كيف ولماذا وصلت الى هنا ؟ ! المسرحيه من اخراج عمر العريان .وبدأ العرض في السابعه والنصف مساء.وانتهى في تمام التاسعه مساء .الحضور كان كثيفا فامتلأت القاعة والتجاوب كان ملحوظا، والبطل نجم العرض يقدم اداءا عاليا في التعبير وفي الحركة.بل كانت لغة الجسد اشبه بكاست كامل في الليونه ورهن اشارة الفنان الذي رسم الحركة واجاد التعبير.