مصر: هل تراجع دورها المحوري؟

تعيش منطقة الشرق الأوسط في حالة تغير دائم بسبب التطورات السياسية والاجتماعية، والتي شهدت زيادة التعقيد بعد ثورات الربيع العربي في عام 2011. هذه الثورات، التي أدت إلى تغييرات جذرية في أنظمة الحكم في عدد من الدول العربية، أسفرت عن أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، بالإضافة إلى تصاعد حدة النزاعات والعنف. ومن بين الدول التي تأثرت بشدة بهذه التحولات، تأتي جمهورية مصر العربية، التي تعتبر من الدول المحورية في المنطقة، حيث لطالما كان لها دور بارز في تعزيز الأمن والاستقرار.

منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم عام 2014، تبنت الحكومة المصرية سلسلة من السياسات والإستراتيجيات تهدف إلى إعادة تأهيل وتعزيز مكانتها كدولة مركزية في الشرق الأوسط. تتزايد التحديات أمام مصر، حيث تتطلب الأزمات المتعددة في المنطقة استجابة فاعلة وبعيدة المدى. من أبرز القضايا التي تثير القلق وتستدعي مزيدًا من التحليل هي أزمة مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي(ضمن الإطار)، الحروب والنزاعات في غزة وليبيا، والأمن في الخليج العربي، ومكانة مصر في العلاقات مع دول شرق البحر الأبيض المتوسط.

أزمة مياه النيل وسد النهضة:

تعتبر مياه نهر النيل شريان الحياة لمصر، حيث يعتمد عليها أكثر من 100 مليون مصري في مختلف جوانب حياتهم، من الزراعة إلى الشرب. منذ سنوات، اندلعت أزمة حادة بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق. تشعر مصر بقلق بالغ من أن يؤدي هذا السد إلى تقليل حصتها من المياه، وهو ما يعتبره المصريون تهديدًا للأمن القومي.

لقد سعت مصر منذ البداية إلى حوار دبلوماسي مع إثيوبيا والسودان للتوصل إلى اتفاق يضمن عدم الإضرار بمصالحها المائية. ومع ذلك، فإن التوترات لا تزال قائمة، حيث تتعلق العديد من القضايا الأساسية، بما في ذلك كمية المياه المسموح بإمرارها إلى مصر وسوريا، والجرائم البيئية الناتجة عن بناء السد.

قد أثرت هذه الأزمة على العلاقات بين مصر وإثيوبيا، حيث تتزايد المخاوف من أن تؤدي السياسات الإثيوبية إلى تفاقم المشاكل في المنطقة. وبالتالي، تعمل مصر مع شركاء دوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول الأوروبية، للضغط على إثيوبيا لاستئناف المفاوضات بروح من التعاون.

الأمن في الخليج العربي:

بالإضافة إلى الأزمات المائية، تلعب مصر دورًا فعالًا في استقرار الأمن في الخليج العربي. تُعتبر مصر جزءًا أساسيًا من التحالفات الإقليمية والدولية، مما يتيح لها التأثير في القضايا الأمنية، مثل مكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار في الدول الأكثر عرضة للخطر كاليمن وسوريا.

من خلال دعمها للقوات العربية المشتركة، تعمل مصر على تعزيز الانضباط الأمني في المنطقة، حيث تواجه العديد من التحديات، بما في ذلك الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي تهدد الأمن الإقليمي.

حرب غزة والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي:

تُعتبر القضية الفلسطينية جزءًا محوريًا من السياسة الخارجية المصرية. تسعى مصر بجدية لتعزيز وحدة الصف الفلسطيني ودعم الحقوق الفلسطينية. وفي هذا السياق، تلعب الحكومة المصرية دور الوسيط بين حركتي حماس وفتح، بالإضافة إلى وجودها كمرجع في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي.

لعبت مصر دورًا مركزيًا في جهود الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وحيث نجحت في إبرام اتفاقات تهدئة في العديد من الأوقات المشحونة. ورغم المراوحة المصرية في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي بعد تفريغ رفح من سكانها، فإن الجيش المصري الموجود عبر الحدود لم يتدخل في وقف المجازر ضد المدنيين. صحيح ان مصر تسعى لإيجاد حل شامل، ولكن وبدون دعم من القوى الدولية، لا يمكن لمصر إحداث تغيير جاد. ولكنها تعتبر استضافة القاهرة لمؤتمرات الحوار بين الفصائل الفلسطينية مؤشرًا على فعاليتها.

وعلى الرغم من النجاحات السابقة، فإن عجز مصر عن تحقيق السلام المستدام يتجلى في تجدد القتال بين غزة وإسرائيل. يبرز هذا التحدي الحاجة إلى إعادة التفكير في الاستراتيجيات المصرية ودعمها بمواقف أكثر إيجابية مع المجتمع الدولي. ويجب أن تتضمن الجهود الإقليمية معالجة جذرية تعود بالنفع على الشعب الفلسطيني ومنع الكوارث الإنسانية.

ان مستقبل القضية الفلسطينية يتطلب تنسيقًا أكبر بين القوى الإقليمية والدولية، مما يجعل موقف مصر كوسيط أكثر أهمية من أي وقت مضى. ويجب أن تسعى مصر إلى تعزيز علاقاتها مع دول الخليج والولايات المتحدة للضغط على إسرائيل، مع الحفاظ على الروابط القوية مع فلسطين.

والآن هناك مقترح معدّل تقدمت به القاهرة لتحقيق اختراق يقود إلى وقف إطلاق النار في غزة.

‎ويبدو أن المقترح المصري الجديد قد يكون الفرصة الأقوى لتحقيق وقف إطلاق النار، وهو ضروري ومهم حتى لو بدا الطريق مسدوداً.

‎وتستند القيادة المصرية في تواصلها مع الفلسطينيين والاسرائيليين على الدعم الأوروبي الكبير للموقف المصري والعربي، الرافض للتهجير، والمساند لضرورة إدخال المساعدات وإعادة إعمار غزة، وكذلك تبذل القيادة المصرية جهوداً مع الشركاء للضغط من أجل تحقيق اختراق يقود لوقف إطلاق النار والعودة إلى المفاوضات، كما أن هناك تعويلاً كبيراً على إمكانية قيام ترامب بالضغط على نتنياهو لتحقيق التهدئة، لا سيّما بعد استدعاء ترامب لنتنياهو وبعد الاتصال الأخير بين الرئيس الأميركي والرئيس المصري.

‎وعقد الرئيس المصري قمة ثلاثية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والملك الأردني عبد الله الثاني، استجابةً لحالة الطوارئ في غزة. ويعمل المصريون الآن على صيغة

‎تضمن رؤية واضحة لكيفية إدارة غزة بعد الحرب، من خلال وزير الخارجية المصري بدر على العاطي، ومبادرته لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني تقوم على جعل حماس شريكة في إدارة المشهد الفلسطيني عبر إدخالها في منظمة التحرير الفلسطينية التي ستقترح لجنة إدارة تمثل جميع الأطراف الفلسطينية.

تقييم البعد الإنساني للأزمة:

تعتبر مقدرة القطاعات الإنسانية على الخيار الفلسطيني ضرورة حيوية، حيث تتجلى أبعاد الوضع الإنساني من خلال معدلات البطالة المرتفعة وظروف الحياة القاسية. تقوم مصر بتوفير المساعدات الإنسانية وتسهيل دخول المواد الأساسية، في إطار دورها كوسيط.

توسيع التعاون مع الدول الكبرى والمنظمات الدولية يمكن أن يحسن من موقف مصر كوسيط. والتركيز على الشراكة مع الأمم المتحدة قد يعزز من إمكانية تحقيق التفاهمات المطلوبة بين الأطراف المتنازعة.

إن الأمن في غزة يتطلب تنسيقًا أكبر مع القوى الدولية التي يمكن أن تسهم في دفع العملية السلمية، فضلاً عن ضرورة وجود دعم حقيقي واعتراف دولي بحقوق الفلسطينيين.

الوضع في ليبيا:

في السنوات الأخيرة، أصبحت ليبيا مسرحًا للعديد من الصراعات العسكرية والسياسية، مما يؤثر بشكل غير مباشر على الأمن القومي المصري. تتمتع مصر بعلاقات تاريخية قوية مع ليبيا، مما يدفعها إلى العمل على دعم الاستقرار هناك.

من خلال الدعم السياسي والعسكري لبعض الأطراف المحسوبة على الحكومة، تسعى مصر إلى تجنب انتشار الفوضى على حدودها الغربية. وتعتبر الإدارة المصرية أن استقرار ليبيا مرتبط بشكل وثيق بأمنها القومي، حيث أن النزاع في ليبيا قد يؤدي إلى تدفق الأسلحة والمرتزقة إلى سيناء، مما يعرض الأمن المصري للتهديد.

العلاقات مع القوى الدولية:

تعتبر العلاقات مع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، جزءًا أساسيًا من السياسات الخارجية المصرية. تسعى مصر إلى الحفاظ على توازن دقيق بين هذه القوى، من أجل تلبية احتياجاتها الأمنية والاقتصادية.

تحافظ الولايات المتحدة على شراكة استراتيجية مع مصر، تتضمن الدعم المالي والعسكري، مما يمنح القاهرة القدرة على تعزيز قوتها في المنطقة. من جهة أخرى، ترغب مصر أيضًا في تقوية علاقاتها مع روسيا، التي تلعب دورًا متزايد الأهمية في الشرق الأوسط، مما قد يوفر لمصر مزيدًا من النفوذ في القضايا الإقليمية.

الآفاق المستقبلية لدور مصر المحوري في الشرق الأوسط:

مع كل ما تم ذكره، يبقى الدور المصري في الساحة الإقليمية عرضة للتحديات المتزايدة. إذ يتطلب الوضع الإقليمي المتغير استجابة استراتيجية مرنة وتكييفًا مع الظروف المتغيرة. ينبغي على مصر أن تعمل على تعزيز نقاط قوتها كمركز للحوار والتفاوض، والابتعاد عن الأسلوب القائم على الحلول العسكرية.

يتطلب مستقبل المنطقة تعاونًا أكبر بين الدول العربية والدول الأجنبية، بما يعزز من قدرة مصر كوسيط في تحقيق السلام والاستقرار. يجب أن تسعى مصر أيضًا إلى إنشاء تحالفات جديدة مع القوى الإقليمية الأخرى، مثل المملكة العربية السعودية والأردن، لتعزيز موقفها كداعم رئيسي للأمن والاستقرار الإقليمي.

ويبقى السؤال: هل سيتراجع دور مصر المحوري أم ستستعيد مكانتها في قلب الأحداث الإقليمية؟ تعتمد الإجابة على قدرة الحكومة المصرية على التكيف مع التغيرات السريعة، والاستجابة بفعالية للأزمات المتعددة التي تواجهها. إن النظر إلى المستقبل بعين التفاؤل والتحليل الدقيق للمعطيات سيوفر لمصر الفرصة للعودة كقوة استقرار وأمن في منطقة الشرق الأوسط.

أزمة مياه النيل وسد النهضة

الخلفية والتحديات

تعتبر مياه نهر النيل شريان الحياة لمصر، حيث يعتمد أكثر من 100 مليون شخص على النيل لتلبية احتياجاتهم المائية. وقد شكل إنشاء سد النهضة الإثيوبي مصدر قلق كبير للحكومة المصرية بسبب تأثيره المحتمل على كمية المياه الموزعة.

يمثل النيل أداة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأي تهديد لتدفقه يعني تهديدًا للأمن القومي المصري. ولذلك تسعى مصر لتحقيق التوازن بين الضغط على حقوقها وبين الحفاظ على علاقات إيجابية مع دول حوض النيل.

يتكون حوض نهر النيل من عدة دول، تشمل مصر والسودان وإثيوبيا وأوغندا وكينيا، مما يزيد من تعقيد مسألة الحقوق المائية. تأسست اتفاقيات تاريخية مثل بروتوكول 1891 واتفاقية 1902 لضمان عدم انقطاع تدفق المياه إلى مصر. ومع ذلك، تزايدت التحديات بسبب القرارات الأحادية التي تتخذها إثيوبيا والأوضاع السياسية المتغيرة.

تُعتبر الدبلوماسية أداة رئيسية لمصر في مواجهتها الحالية. وقد عملت مصر على إجراء مفاوضات مع السودان وإثيوبيا تحت إشراف الاتحاد الأفريقي، مع دعم من المجتمع الدولي. تسعى مصر إلى استخدام كافة الأدوات المتاحة، بما في ذلك الحملات الإعلامية والدعائية، لزيادة الوعي بما يخص حقوقها المائية.

نجحت مصر في رفع مستوى الوعي الدولي بقضيتها، بالإضافة إلى ضغوطها الدبلوماسية. ومع ذلك، لا يزال الفشل في تحقيق التوافق القانوني يمثل تحديًا. وبالرغم من جهودها، تتجاهل إثيوبيا معارضة مصر وتواصل بناء السد. يُظهر هذا الفشل الحاجة إلى استراتيجيات أكثر فاعلية تتجاوز النداءات الدبلوماسية.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الوضع الحالي ، بما في ذلك الملء الثاني لسد النهضة يمثل نقطة حرجة، مما قد تضطر مصر إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، بما في ذلك إمكانية التحكيم الدولي أو الضغط لتحقيق محادثات جديدة. ومن المحتمل أن تشمل التطورات المستقبلية تدخلاً من منظمات دولية لتعزيز التعاون الإقليمي.

لقد انخرطت مصر في تبني تكنولوجيا جديدة لإدارة الموارد المائية، مثل التخزين في السدود وأنظمة الري الحديثة، من أجل تحسين توصيل المياه وتعظيم العائدات الزراعية. وتسهم التقنيات الحديثة في زيادة كفاءة استخدام المياه، مما يسهم في تلبية الاحتياجات المتزايدة في ظل التحديات المائية.

على المستوى الداخلي، يتطلب الوضع المائي في مصر تطوير استراتيجيات للحفاظ على المصادر والموارد المائية، مما يفرض تحديات على الحكومة في تخصيص الموارد المالية اللازمة. بالإضافة إلى ذلك، يظل التوازن بين احتياجات التنمية المستدامة والمصالح المائية يمثل تحديًا كبيرًا للحكومة.

نهر النيل أطول أنهار العالم؛ إذ يبلغ طوله 6825 كيلومترا، ومساحة حوضه 2.96 مليون كم2 تضم عشر دول هي: بوروندي – رواندا – الكونغو – كينيا –  أوغندا – تنزانيا – إثيوبيا – إريتريا- السودان- مصر. ويمثل حوض نهر النيل تحديًا طبيعيًا يصعب السيطرة عليه، والشكل الحالي لنهر النيل هو ناتج سلسلة من التغيرات الجيولوجية والمناخية مر بها عبر الزمن الجيولوجي.

‎ورغم أن النهر يعد الأطول في العالم، لكنه ليس الأغزر مائيا بل، بعيد عن أغزر عشرة أنهار في التدفقات المائية في العالم، ولا تزيد تصريفاته السنوية (أي ما يصل من ماء النهر إلى دولة المصب) على 84 مليار متر مكعب سنويا يتنافس عليها 437 مليون نفس بشرية تعيش على ضفاف النهر، ومتوقع تضاعفها إلى 874 مليون نسمة عام 2050 طبقا لتقرير مفوضية حوض النيل، الصادر عام 2014.

تبقى التكنولوجيا والابتكار في إدارة المياه.

لقد انخرطت مصر في تبني تكنولوجيا جديدة لإدارة الموارد المائية، مثل التخزين في السدود وأنظمة الري الحديثة، من أجل تحسين توصيل المياه وتعظيم العائدات الزراعية. تسهم التقنيات الحديثة في زيادة كفاءة استخدام المياه، مما يسهم في تلبية الاحتياجات المتزايدة في ظل التحديات المائية.

على المستوى الداخلي، يتطلب الوضع المائي في مصر تطوير استراتيجيات للحفاظ على المصادر والموارد المائية، مما يفرض تحديات على الحكومة في تخصيص الموارد المالية اللازمة. بالإضافة إلى ذلك، يظل التوازن بين احتياجات التنمية المستدامة والمصالح المائية يمثل تحديًا كبيرًا للحكومة.