لا أذكر أن معرض الكتاب ، وجه القراءات ، عيََرها ، غيَّرها . لن يحظر نفسه على أحد ، على التلاميذ ، الأصدقاء ، الرفاق ، القراء العاديين ، القراء النهمين ، المؤلفين . أخ لا أخوة ، أكمل تعلميه . وحين فعل ، أراد للآخرين أن يكملوا تعليمهم ، أن يكملوا علومهم في مكتبة عصوره الذهبية . لا تجهم ، لا خشونة مظهر . كتب لمن بيستطيع شراءها . كتب مهداة لمن لا يستطيع الشراء ، تبادل بدون تبادل . الآراء على ورقها ، آراء أناس معرفون أو مغفلون ، سوف تضحي آراء معروفة في وضعها ، في عصرها . بوضعها في عصرها . لن ينتج أحد مؤلفاً قصير القامة ولا مؤلفاً طويلها . المؤلف مؤلف . مؤلف ضد الكسل والتبذير والكسل في أجنحة مزينة ، على رفوف كأنها منتديات شهيرة . المعرض للثقافة ، لا للظهور بمظاهرها . المعرض مغامرة ، مدخل رئيسي إلى الكتاب بخطاباته المؤثرة في السياسة والفكر والثقافة والعلوم والإقتصاد . جزء من الذاكرة
الجماعية لبيروت ، جزء من الذاكرة الجماعية لأولاد البلد قاطبة . مزيج من المظاهر والظواهر . بيت فسيح يطل على ملايين الصالونات والغرف والحدائق والشرفات والمخابئ وغرف المؤونة والأدراج . وصف لا يستخدم إلا في الإطباق على معرض الكتاب العربي ، نافذة كبرى تسكب ماء الكتاب من دون انقطاع . مقصورة بديعة لمناسبة معينة . مناسبة غمر سعادة ، تغمر بالسعادة وسط كتاب أزرق أو أحمر أو ذهبي ، مغلف بالسيلوفان . أو بدون تغليف . كأنه معلمة عظيمة ، لا تجيب وهي تدل على طرق التوصل إلى الأجوبة . عَلَّم المعرض ترتيب الأفكار ، البحث ، إيجاد الحلول ، القراءة ، الإستماع ، الإستنتاج ، إطلاق المبادرات ، النقاش بمنطق ، النقاش بمنطقية .
هذه ليست مقدمة على شرف المعرض . هذا واقعه ، جزء من واقعه في حقائق لا تدحض.
لا أزال أذكر يوم حوصرت في القاعة الزجاجية في مبنى وزارة الإعلام والسياحة في شارع الحمراء ، بالقصف . لا شيء محسوم في الحرب الأهلية سوى ما حدث أكثر من مرة في لبنان . أن لبنان بلا ثقافة ، لبنان مخنوق . إدارة قتله بإبعاده من فعل العكس . عكس إشاراته ، إتسامه بعلاماته الثقافية . لا أزال أذكر تهديد القذائف ما لم يثر خوفي ، حين وجد أصحاب الرؤى في معرض الكتاب العربي ، أعرق المعارض وأدومها في مبادئه . مبادئ لا تقوم على الألغاز ، تقوم على اليقين . أن المعرض موضع من مواضع ، لا نظير لها وهي تهز ما لا يتعين أن تثبته للآخرين ، قدر إثباته لنفسها . أن جوهر الأمر هو العثور على الكتاب حياً . أن لبنان لا ينشر فقط . أن لبنان يقرأ بقدر ما ينشر . يقرأ أكثر من ما ينشر ، نشر يميل إلى الطبائع التأملية في أحوال الثقافة . نشر ، لا يجرد نفسه من التفاصيل وهو يقود الجمهور إلى الإحساس بأن كتاب بيروت كتاب يمضي قدماً . وأن المعرض أعرض من معرض . هذا شعار أستغله النادي الثقافي العربي لعام واحد ، ثم تركه على طريق وضع اليد على سلوغون آخر . ثمة معارض أخرى ميتة على الرغم من أنها تظهر حية ، لأنها لا تملك لا الأماكن، لأنها لا تملك التواريخ كما يملكها معرض الكتاب العربي . وهو معرض لا يلملم ، لأنه يدفع إلى العثور على الأشياء ، حين تقف هيئته على كراسات بداياته السنوية موسعة الهوامش ، بحيث تضحي مفيدة حتى إذا طرحها الآخرون . ذلك أن المعرض يقوم على روح ديمقراطية . الديمقراطية حكم الشعب لنفسه . يرفع النادي الثقافي هذه الروح في معرضه السنوي ، بعيداً من أحكام النخب وحدها . تقص النخب قصصها . ولكنها لا تحضر بقصصها إلا على لزوم حضور القصص. هكذا ، يقوم تبادل الرسائل بطرق مكشوفة ومكتومة بدرجات لا تخفى، بين المجموعات الحضرية . لا تبذل جهود عظيمة لإقامة الكلية الديمقراطية في معرض الكتاب العربي أو معرض بيروت للكتاب . لأن الديمقراطية في المعرض ديمقراطية لا علاقة لها بالتصور فقط . إذ تقف على الممارسة بعد التماع الذهن .
لكل مساحته في معرض الكتاب . لا ينقصه الترفيه . لأن الترفيه بعيد من قواعده . المساحة اختبار . لأنها ملك الدار المُستّأجِرة ، تختبر فيها برهنة قوة النشر ، مداه ، لا الخضوع المطلق له . مساحات تضع يدها على تصور الدار للنشر من العنوان إلى مواجهة التحديات المطروحة على الوضع العام دفعة واحدة . هذا ما حدث هذا العام . سواء على صعيد المنظمين والناشرين . دور المنظمين دافع إلى العثور على دور الناشرين . ذلك أن ثمة دوافع للنشر . أحدها، المشاركة في معرض الكتاب . وهو معرض لا يقوم ، لم يقم يوماً على الإنتقام . بالعكس . قام دوماً على الحسم . حسم موقع الكتاب . حسم موقع بيروت على الخارطة العربية والعالمية . إذ أن معرض بيروت يعتبر من طواقم العاملين على سفينة المعارض في العالم . إنه يرتب للأسرة مساحتها المشتركة( دار رياض نجيب الريس ، الآداب ، الساقي ، نيلسن ، التنوير ، الشروق ، الجديد ، الفارابي …) . هذه قضية مشقة ، مثيرة للقلق والإهتمام . لأن سطح السفينة يقوم على التنوع . لن يقوم سوى على التنوع ، لا على طلاء سطح السفينة . يقدم المعرض
الناشرين كأسرة . لا كعاملين في آداء الخدمات فقط. دورٌ أكثر إثارة للإهتمام ، بحيث يفيض بالإخلاص . قراءة الأمر ، هو طريق من طرق يمكن البدء بالسير بها للوقوف أمام مفهوم ربط الناس بالمفاهيم ، من خلال ربطهم بالأماكن . لم يتردد في متابعته أحد حتى في الحرب الأهلية . كتب كافية لدفعهم إلى الوقوف وسط الواجهات . هذا جزء . الجزء الأهم ، هو أن تنتمي إلى الحاضر من خلال الإنتماء إلى الذاكرة ، الماضي . لأن مراحل المعرض لم توصف ، حتى إذا وصفت حضر . لأن مراحل المعرض نقل العموم من مرحلة إلى مرحلة ، بعيداً من الغرق في بريكات الماء الداخلية . هذا لا يعني أن المعرض ومنظميه يداومون في قاعات المراقبة النهارية والليلية لحكايا السياسة والفكر والعلوم . سوف يرتكب من يعتقد أن المعرض يدور على نفسه خطأه الأعظم . لأن رجال المعرض وسيداته ، من المنظمين والمنظمات ( الدكتورة سلوى السنيورة وفريق المعرض ) ، لا يرون في الأمر طرفة . ذلك أنهم الأدرى بأن معرض النادي الثقافي العربي ، معرض حياة طالعة من الحياة السياسية . حيث دارت فكرة قيام النادي حول غرف المحركات السياسية في العالم العربي . قوميّون عرب ، اجتمعوا في حجرات ، تشبه الواحدة منها ضرس العقل ، على الحلول في الفكر العربي الموحد في مراحل تناثر الدم في أرجاء العالم العربي ، وسط الصراع العربي الإسرائيلي . اجتمع المجتمعون في رهافة مذهلة على قضية فلسطين وقضايا حركات التحرر في العالم العربي والعالم . لا يزال المعرض وفياً لرمايات مؤسسيه الأول . لا يزال صديقهم ، حين امتلأت جباهم بالعرق الغزير . وحين ارتاح بعضهم في وادي النوم . أو وجدوا في حياتهم وأعمالهم الأخيرة سداد حياة بعيدة من الألقاب . اندماج بالعناصر البعيدة من المشارب الوضيعة ، بشهيات مفتوحة . ثم ، الإنكفاء بعد تسليمهم الخبرة والعبرة إلى من حلوا حلولهم في محلهم .
الكلام على المنظم ، على النادي الثقافي العربي ، لأنه ناد لم يُعَرِّض وجهاً للإنهيار لصالح وجه آخر . وجوه شابة ، لا مترهلة ، في مسرح الطفل والفن التشكيلي والأدب السياسي والتصحيف العالي فوق الرؤوس من صدقه . لن يساور أحد الشعور بالإذلال ولا بالوحدة . لا توريق ولا تغليف مفضفض. لا رسائل مازحة بالكلام على كاترين داستي ولا على الآخرين في طروحات الحداثة في مسرح الأطفال . هكذا ، حين حوصرت بالقذائف في معرض الكتاب في القاعة الزجاجية لم أجذب يدي إلى رأسي لكي أحميه . لن استجمع قواي ، لأن رفوف المؤلفات الملونة قوة معجزة . وهي معجزة سوف تكافح لكي تصبح معجزة عامة . لم أخش زمجرة القذائف الوحشية المندفعة في الهواء ، لأنني وجدت ، بدون أن أجد ، أن العواصف الضارية لن تهزم المعرض ولا الموجودين في المعرض . لأن الكتاب يلف ، بحيث لا تأمل قذيفة بأن تهوي على حين غرة لكي تلطم هذا الصدر العظيم . وهو صدر لا يزال يصف المُؤَلٍف والمُؤَلف بالأمان . معرض الكتاب في البيال القديم ، سيسايد بالراهن ، دائما على الواجهة البحرية لبيروت ، لا يزال معرض ذاكرة لا تشاجر ، معرض يومئ بالمواقف الطيبة منذ المدخل . معرض تدور الرياح حوله ، تضربه الرياح ولكنها لا تهزمه . إنه صاحب كلمة ، صاحب كلمته . كلمة على منصة قبطان يخطو خطواته لكي يؤمن منصاته لركاب السفينة . لن يجد أحدهم ماءاً بارداً في حسائه الساخن . الناشرون ، منظمو الندوات ، المنتدون، موقعو كتبهم ، الشارون ، الجائلون ، المستأنسون بالتجوال ، البشر الحقيقيون بأعداد لا يستطيع أحد تقديره . لأن البشر لا بأعدادهم وحدها . لأن البشر بتفاصيلهم . وهي تبدأ منذ لحظة الإلتحاق . لحظة تدعهم يعرفون أن المعرض لا جناح فقط ، بل في نقاط تفرده . وسيط بلاغي . لا وسيط عادي . ولا أداة ناشفة . لا وجه حصر بالمعرض . لأنه معرض يرجع إلى نفسه في طريقه إلى تجديد نفسه . الكلام على بيروقراطية كلام متأرجح بين الواقع والغموض. ثم ، إن البيروقراطيين يمتلكون جداولهم المختلفة . بالمعرض حوكمة لا حكم.ثمة بون شاسع بين المفهومين.وحين جرى الإعتقاد بأن المعرض وقع في “الإنتفاضة الشعبية ” أو في أعوام الكورونا أوقع نفسه بالشك . حيث أن المعرض كغيره لن يستغرق في إنجاز أعماله إلا بمقدار تعقيدات الوضع أو خلاف ذلك . تعقد الوضع . إذاك ، وجدت المجموعة أن لا رسالة توحي بالمعنى الحقيقي للحياة . إذاك ، لم يقم المعرض لأن البلاد ابتعدت من التأقلم مع المستجدات . وبما أن المعرض معرض بيروت ، معرض لبنان والعالم العربي ، اختفى من الضوء في ضوئه في مراحل استهلال الحياة في مراحلها الفضلى .
المعرض اليوم في دولته الخامسة والستين . صحيح أن لا صور إضافية ، لأن البلاد توجهت إلى محاور إهتمام أخرى مع الأزمة الإقتصادية
والأزمة السياسية والأزمة الإجتماعية وعدم القدرة على إنجاز الأعمال العادية مع التضخم وانهيار المؤسسات . ولكن المعرض لا يزال يمتد على افئدة اللبنانيين والعرب . لايزال يمتد كمؤسسة لا تدور على ظهر لقطات سياحية . لا يزال يخوض غمار الصراع برقي موجه إلى الأصدقاء في مختلف أنحاء العالم . لا دخول غاضب . وصول آلى مرحلة معينة . خمسة وستون عاماً ، ولا يزال المعرض فتياً . لم يقع في العجز ولا في الشيخوخة . معرض لا يستخدم مطرقة بالكلام مع الآخر ، مع الجمهور . معرض الأسماء والشؤون غير المنقطعة عن سياقاتها . معرض الحكومات ، معرض الناشرين ، معرض المؤلفين ، معرض الجمهور . معرض الصفات المتجسدة لا المنداحة ولا المنزاحة . معرض التركيز لا الضجة. معرض المزايا لا الإفتراض . معرض اللقاء لا الإنقضاء . هنا تعد الالات . هنا تعزف الأنغام . لا تنقل المشاهد إلى المنازل . ولكنها تبقى . لا يزال المعرض يتبادل الصداقة مع من وسموه بالتبدلات الحديثة ، من الرئيس رفيق الحريري إلى رياض نجيب الريس ، من سهيل إدريس إلى الرؤوساء من آل الصلح ، الرئيس فؤاد السنيورة ، الرئيس نجيب ميقاتي . لم يعش المعرض في صندوق ضيق . بالعكس . واجه الصعوبات وتخطاها . وصوله إلى هذه المرحلة شيء يحسب ، بإصلاحه أطراف الإشتباك المحلي وأطراف الصمت . حين يشرع في الدوران ، نكتشف مزايا المعرض المبشر . معرض مبشر وسط نذر . هذه قضية لا توضع بين هلالين . يكفي تلمس الأعمال التمهيدية والإنطلاق ، لكي ندرك طبيعة الصلات بينه وبين من لا يريد أن يراوح في مكانه بشكل أو بآخر.