معرض “تأقلم” بحي جاكس… انبعاث الجذور الإنسانية مع الطين عبر الزمن

في 20 فبراير الماضي افتُتح معرض “تأقلم” في المتحف السعودي للفنّ المعاصر بالعاصمة السعودية الرياض، تحديداً في حي جاكس، استمر حتى 20 مايو الفائت.

يحكي “تأقلم” سيرة الحياة الأولى للإنسان التي تطورت عبر الزمن باستخدام الطين كمكوّن أساسي للبقاء والصمود، هذه التجربة المتكاملة لعلاقة الحاضر بالماضي قدّمت لزوّار المعرض تجربة ثقافية استكشافية بمنتهى الدهشة، حيث شارك بالمعرض 11 فناناً من 5 بلدان عربية، قاموا باسقاط إبداعاتهم على نموذج ونمط استخدام فنّ السيراميك، على اعتبار الطين مادة حيوية قابلة للتغير والتعبير والإتصال والديمومة.

وهم: منال الضويان، وسعود الصالح، والبراء صائم الدهر من المملكة العربية السعودية، وأمين أسلمان، ومبارك

الطين مادة حيوية، متغيرة ودائمة

بوحشيشي من المغرب، وسما الساكت من الأردن، وزينة عاصي وماري لين مسعود من لبنان، وتوماس مودين من قطر/فنلندا، وهنا السجيني وإبراهيم السعيد من مصر.

كما أشرف على المعرض القيّم الفني سامر يماني، المتخصص في التصميم والحِرف المعاصرة.

قدّمت الأعمال المعروضة نماذج عن العلاقة بين السمات الإنسانية وميزات الطين التي تتغير بحسب عدة عوامل، منها المناخ وعامل الزمن والطبيعة، حيث يكون في البداية هشّاً ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مادة صلبة قابلة للانكسار تماماً كالإنسان اذ ما تعرّض لصدمات قاسية، بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الأعمال أيضاً طردية واقعية من خلال اعتماد تقنيات يدوية وابتكارات التصنيع الرقمي، ما أظهر تجانساً فنياً بين تقنيات التشكيل واستغلال التكنولوجيا للدلالة على نقطة البداية وما وصل إليه الفكر الإنساني اليوم في رحلة الزمن.

قبل الولوج في تقريرنا الثقافي الفني هذا، لا بدّ من التطرّق إلى الحالة الثقافية التي تعيشها العاصمة الرياض مؤخراً من حيث اكتشاف المواهب أو كونها منصة حاضنة للفنانين والفنون من العالم، ومن الوجهات الأساسية لعكس مظاهر الثقافة والجوانب الفنية في المملكة علينا المرور على حي جاكس بالدرعية، هذا الحي الحيوي، كونه وجهة مرجعية

الفنانون المشاركون بالمعرض يتوسطهم القيم الفني سامر يماني

ثقافية من المملكة إلى العالم، وبالطبع سيكون لنا وقفة عند المتحف السعودي للفنّ المعاصر وفعالياته، الذي أنشأته هيئة المتاحف في عام 2023، الذي يُعدّ منصةً لعرض الفنون المعاصرة ومركزاً للتبادل والحوار الثقافي عبر الفنّ.

فنّ السيراميك: رحلة الطين عبر العصور

يجسّد معرض “تأقلم” رحلة الطين مع الإنسان، كونه عنصراً طبيعياً قابل للتمدّد والتأقلم بحسب التغيرات المحيطة به، وقد خدم البشرية في تسهيل حياتهم لاستخدامات يومية، واليوم جرى توظيفه بالفنّ، كي يعكس مرونته في التطور مع التقنيات الحديثة التي اكتشفها الإنسان.

هذه الرحلة عكست المنظور الواقعي للحياة اليومية الإنسانية مع لمسات الفنانين المشاركين التي تعكس الخيال، الأمل، التغير، والتكامل.

لقاءات على هامش المعرض

زينة عاصي – لبنان

منذ حوالي 4 سنوات تعمل الفنانة زينة عاصي بالطين، لذلك كان للمعرض صدىً عميقاً لديها، وخصوصاً الرؤية القيّمة التي كان سامر يماني يطورها. وتقول عن ذلك: “جذبتني بشكل خاص فكرة الطين كوسيط خالد، وكيف يستمر هذا

القيم الفني سامر يماني مع أحد الفنانين المشاركين

الشيء في التطور، متجاوباً مع سياقه، ومحافظاً على أهميته عبر الأجيال. وقد كان من الرائع أن أكون جزءاً من مشروع يجمع الأصوات الإقليمية من خلال مادة قوية وعميقة كهذه.

وعن قطعتها الفنية، تقول: اخترتُ أنا والقيّم سامر يماني *صورة ذاتية ١ و٢* من مجموعة أعمال اقترحتها، لأنها تتوافق بشكل وثيق مع مفهوم المعرض للسيراميك كوسيلة معاصرة وتجريبية تُستخدم لاستكشاف القضايا الاجتماعية الراهنة.

يجمع هذان التمثالان بين السيراميك المزجج المصنوع يدوياً، وتمثال راتنجي مطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وقاعدة خرسانية. وتجدر الإشارة إلى أن المواد اختيرت عمداً لاستحضار الهشاشة والديمومة.

وتتابع: تمزج الأعمال بين المرجعية التاريخية والسرد الشخصي والتعليق الاجتماعي. وهي تعكس الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠)، وتضم رموزاً مثل أكياس الرمل وحقائب السفر التي تُعبّر عن الحماية والبقاء والنزوح والصمود. تُشير القاعدة الخرسانية إلى الطريقة التي حُفظت بها منحوتات وتحف متحف بيروت الوطني بالخرسانة خلال الحرب كوسيلة للحماية – وهو عمل حرفي ورمزي للحفظ وسط الدمار.

يُمثّل التمثال الراتنجي الصغير تمثيلًا ذاتيًا يجعل العمل شخصياً وسهل المنال. إن تصويري لبورتريهٍ ببدلة، أو العمل على حاسوب محمول، أو خلال استراحة قهوة، يُشكّل تحدياً للتصورات التقليدية للمرأة في الفنّ. فهو يفتح حواراً حول

شارك بالمعرض 11 فناناً من خمسة بلدان عربية

أدوارها المتطورة، من شخصيات صامتة إلى شخصيات محورية فاعلة تُشكّل تاريخاً شخصياً وجماعياً، بحسب قول زينة.

وعن الوقت الذي استغرقه العمل، تقول: يصعب عليّ دائماً الإجابة على هذا السؤال مباشرةً، لأن كل عمل فني هو ثمرة سنوات من الممارسة، والتجربة والخطأ، ولحظات من الوضوح، وتأثيرات خفيّة لا تُحصى. كل قطعة ليست مجرد نتاج ساعات قضيتها في صنعها يدوياً، بل هي ثمرة رحلة فنية كاملة شكّلتها تجارب الحياة والحدس.

لذا، بينما يُمكنني تقدير الوقت الذي استغرقه بناء التمثال نفسه، إلا أن الحقيقة هي أنه استغرق 51 عاماً – وهو عمري الحقيقي – لإتمام هذا العمل. كل ما عاشه الفنان، وتعلمه، وتجاهله يُغذّي أعماله.

تعتبر زينة أن الطين من أقدم المواد التي استخدمها البشر لسرد القصص، وتسجيل الطقوس، وتشكيل الهويات. من الأواني والتماثيل القديمة إلى القطع المعمارية، حمل الطين دائمًا آثاراً للأشخاص الذين شكّلوه، حرفياً ورمزياً.

وتضيف: بصفتي فنانة لبنانية، أنجذب بشكل خاص إلى هذه الوسيلة نظراً لارتباطها العميق بأرضي. في الشرق الأوسط، مدن مثل بيروت وجبيل ليست قديمة فحسب، بل هي أرشيفات حيّة، حيث تُكتشف القطع الأثرية والأواني الطينية يومياً تقريباً. هذا الاكتشاف المستمر للماضي يجعل الطين ليس مجرد وسيط عالمي، بل أيضاً وسيطاً محلياً للغاية، متأصلًا

جرى استخدام التقنيات اليدوية وأدوات التصنيع الذكي

بعمق في تراثي. ففي عام ٢٠١٩، على سبيل المثال، تم اكتشاف مقبرة من العصر البرونزي لم تُمس في جبيل، مما كشف بشكل أكبر عن طبقات التاريخ التي تختبئ تحت أقدامنا. بالنسبة إلي، يُجسّد الطين الهشاشة والصمود، تماماً مثل التاريخ البشري نفسه. تعكس قدرته على التشكيل والحرق والحفظ كيفية تطور الثقافات وتكيفها وتذكرها.

وتختم قائلة: بإعادة تصوّر الأشكال الكلاسيكية في ممارستي الفنية ودمجها مع سرديات معاصرة، مثل الأزمة المالية اللبنانية عام ٢٠١٩ أو الحرب الإسرائيلية عام ٢٠٢٤، تهدف الأوعية التي أبنيها أو الأعمدة التي أبنيها من الطين إلى أن تكون جسراً بين الحضارات. فهو يسمح لنا بالتواصل عبر الزمن – تكريماً لما فُقد، وتساؤلاً عما تبقى، وتخيّلاً لما سيأتي.

سما الساكت – الأردن

بالنسبة للفنانة سما الساكت فإن الطين يتيح إمكانية إنتاج أشكال متنوعة من خلال مجموعة من عمليات المواد. فقد استُخدم الطين المحروق، وهو طين غني بالحديد يُحرق على درجات حرارة منخفضة، تاريخياً في الأردن لصنع أوعية لتخزين المياه. يُعيد مشروعها الفني “ظلال الطين المحروق” تصور أوعية الطين المحروقة التقليدية كحاجز معماري معياري مُصمم لتسخير خصائص المادة لجمع المياه وتخزينها – وهي خطوة أولى نحو استخدام السيراميك لمواجهة التحديّات البيئية في الأردن، مثل ندرة المياه.

تقول الساكت عن مشاركتها في معرض تأقلم: “كان المشروع فرصة لاستكشاف تأثير طرق المعالجة المختلفة على سلوك الطين الغني بالحديد، مما يؤدي إلى تدرّج لوني. مع تغير اللون، تتغير الخصائص الميكانيكية أيضاً من مسامي إلى مزجج، مما يفتح المجال أمام استخدام الطين المحروق لأداء وظائف متعددة في التجمعات المعمارية. اخترت هذا العمل للمعرض لأنه يُظهر تنوع الطين التقني وإمكاناته في الهندسة المعمارية. يُظهر هذا العمل كيف تُنتج أنواع

عمل االفنانة اللبنانية زينة عاصي

الطين المختلفة وعملياته خصائص متنوعة تُساعدنا في مواجهة التحديات البيئية من خلال التصميم. يُسلط هذا العمل الضوء على إحدى الطرق العديدة التي استخدم بها البشر الطين، مُساهماً في عرض أوسع لتطبيقاته المتنوعة. وقد استغرق المشروع 4 أشهر.

وعن سؤالها كيف يعبّر الطين عن الإنسانية، تقول: بصفته من أقدم المواد التي شُكّلت وصُممت بأيدي البشر، فقد تطور الطين والسيراميك جنباً إلى جنب معنا. تُوثّق القطع الطينية التطور البشري والطرق المُختلفة التي استخدمناها بها لتلبية احتياجاتنا المُتغيرة – من تشكيل التماثيل لأغراض جنائزية، إلى تشكيل أوانٍ لتخزين الماء وزيت الزيتون، إلى تصنيع الطوب للمساكن، واستخدام التكنولوجيا لبثق واجهات سيراميك عالية الأداء.

من مصر – هنا السجيني

قدّمت الفنانة المصرية متعددة التخصصات هنا السجيني عملها الفني بعنوان “مكتب الطبيب”، حيث تحول بلمستها الفنية المساحات العميقة للرعاية الصحية إلى عوالم خيالية تحاكي الأحلام.

وتقول عن عملها الفني هذا: استوحيته من تجربتي مع المرض، فأعدت تصوّر البيئات السريرية الباردة في المستشفيات وغرف الانتظار، في دعوة لإعادة التفكير في نظرتنا للألم والضعف والتأقلم.

حي جاكس – الدرعية: ملتقى الفنون

جاء حي جاكس الواقع في العاصمة الرياض ليكون منصة للإبداع والتشارك الفني، ودعم المواهب المحلية ومركزاً

عمل الفنانة الأردنية سما الساكت

للتواصل الثقافي والفني مع العالم، حيث يستضيف الحي المعارض الفنية ووسائل الإعلام الرائدة والوكالات الإبداعية.

يتناغم الحي الثقافي هذا في ريادة الفنون وبات مؤخراً محطّ أنظار الفنانين والمبدعين وكلّ من يسعى إلى التعبير عن ابتكاراته وإبداعه بحسب التقنيات المختلفة، كتلك التي تعتمد على الصناعات اليدوية أو من خلال وسائل الفنون الحديثة التي يعبّر عنها معظم الفنانين الشباب اليوم.

عزّز الحي من خلال احتضانه معظم فعاليات الرياض الثقافية الأشهر الترابط الفني والتراثي والحضاري بين الفنانين المحليين والعالميين، لعلّ أبرز هذه الفعاليات الحدث الفني العالمي “بينالي الدرعية”، ﻣﯿﺪل ﺑﯿﺴﺖ XP، ومهرجان ﻧﻮر اﻟﺮﯾﺎض وغيرها الكثير من الفعاليات التي تقام في متحف السعودي للفنّ المعاصر، الذي يتخذ في حي جاكس مقرّاً له.

المتحف السعودي للفنّ المعاصر: شبكة ثقافية

هو متحف وطني سعودي للفنّ المعاصر، أُعلن عن تأسيسه عام 2019، ليكون مركزاً للهوية البصرية السعودية المعاصرة، ومنصة لعرض القطع الفنية المعاصرة، إلى جانب كونه حاضنة للأصوات التعبيرية الجديدة في المملكة. المتحف نتاج للتعاون بين هيئة تطوير بوابة الدرعية ووزارة الثقافة. يأتي إنشاؤه انطلاقاً من رؤية 2030، حيث الاهتمام بالمتاحف والتركيز عليها.

صُمم المتحف وفق مفهوم إبداعي حديث متأثر بالطراز المعماري المحلي التقليدي، للمحافظة على تاريخ الدرعية

يعكس جوهرية مادة الطين وتلاحمها بالسمات الإنسانية

وتطويرها لتصبح من المواقع التاريخية الجاذبة على مستوى العالم، ويلعب الترويج للثقافة دوراً مهماً لتحقيق هذا الهدف.

بالتزامن مع معرض “تأقلم” افتتح المتحف معرض “فنّ المملكة” يقدّم روايات ثقافية جديدة عن تاريخ المملكة العربية السعودية وذاكرتها الجماعية وتراثها، من خلال أعمال سبعة عشر فنانًا سعودياً معاصراً بارزاً، يعملون عبر وسائط متنوعة تشمل الفيديوهات والتركيبات الفنية والتصوير الفوتوغرافي.