حطت بِنَا الطائرة في مطار سيدني، بعد رحلة بدت طويلة جدّاً، ليس فقط لبعد المسافة بين لبنان وأستراليا، بل لتعجّل الوصول ولقاء الأحبة. وها هي المشاعر الملتهبة بنار الشوق تقلع من جديد من بين مقاعد الطائرة لتطير إلى قاعة الاستقبال، حيث ينتظرنا ابني البكر وعائلته وبعض الأقرباء، متلهفة للعناق، ومتعجّلة إجراءات الوصول واستلام الحقائب. وها نحن والساكنة أطيافهم حصون المخيّلة ونبض القلب ندحرج الخطى معاً كل باتجاه الآخر، لاختصارالأمتار القليلة الفاصلة بين خروجنا من قاعة الوصول، ومكان انتظار الواصلين. وها هم الأحفاد في قمّة انتشائهم وفرحهم، ومن بينهم الحفيد الأصغرالذي لم يتسنَّ له رؤية جدٌه وجدّته والتحدّث إليهما إِلا من خلال الصور والاتصالات المرئية.
انطلقنا الى المنزل، في موكب من ثلاث سيارات، والمشاهد الأولى للمدينة تضيع بين جمع الشمل العائلي بعد طول غياب، واحتضان الأحفاد، وزحمة الكلام، واشتعال العواطفَ. وصلنا إلى المنزل، وبعد استراحة قليلة، خرجنا إلى الحديقة التي كنت أعرفها صُورياً، وراح ابني يعرّفني إلى أشجارها، وعمر كل واحدة منها، وما هو موجود مثلها في لبنان أو غير موجود، وتوجَّه إلى شجرة ليمون مزهرة، ودعاني لأشمّ رائحة طرابلس الربيعية في سيدني، فتذكرت ما قاله الشاعر نزار قباني لدى زيارته المدينة في ستينيات القرن الماضي، حين وصف وقوفه إلى المنبر في الرابطة الثقافية، بالقول إنّه يقف لأوّل مرة إلى منبر من صنع نيسان، في مدينة هي قارورة طيب يملأ الصدور برائحة النارنج والليمون. وسردت هذه الواقعة على مسمع ابني، معلّقاً أن تلك الرائحة الجميلة لم تعد تفوح إِلا في فضاء الذاكرة ! وأثنيت عليه بزراعة
شجرالليمون، وقلت في سرّي، بعد أن استرسل في استرجاع بعض الذكريات من المدينة التي وُلد فيها وترعرع، إنّ ولدي ما غادر مدينته إِلا جسداً، وهي ما تزال تنبض فيه. وازدادت قناعتي بذلك عندما كنّا في الأيام التالية نجول بالسيارة في شوارع سيدني، وكانت أغاني فترة أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيات رفيقتنا، وهي أغان كنت قد نسيتها، لكنّها ما تزال حيّة نضرة في سيدني؛ وكأنّها خرجت للتوّ من تسجيلها لأوّل مرّة، ومن بينها واحدة كانت تتكرّر، وهي تقول :
أُمِّي كيف أنساك؟
وحياتي وليدة رؤياك…
من دموعك التي تذرفينها
سقطت دمعة على خدّي
فروت بنفسي ظمأ قديم…
والآن ابتعد عنك وأقترب
لكنّي سأعود يوماً
سأعود يوماً يا أمي .
كذا تتوزّع أكبادنا في أربع رياح الأرض، وتحلّق إليهم أجنحة الشوق والحنين، وينقسم وجودنا إزاءها إلى نفوس مرتحلة صوب الدفء الهارب من الصقيع ، وجسوم مقيمة في حالة الانتظار ترقب عودة الروح إليها. وكذا يمتطي أبناؤنا جياد التوغّل في قفار البحث عن ترياق الأمل في مستقبل لا تلفحه ألسنة الهجير، ولا تنال منه الأشواك ألماً ودماً، ولا تسفح أحلامه الورديّة كوابيس الليل الطويل بسيوف الفقر والقهر والعبث والانكسار والإحباط … وكذا تغادر الطيور أعشاشها وسماءها إلى فضاءات الإرتزاق المفتوحة على وجع الغربة وألم الفراق، من غير أن تتخلٌى عن حلم التحليق مجدّداً في طريق العودة إلى موطنها. ثمّ كيف يعقل أن يقع الأهلون في تلك المفارقة الغريبة في أن تتحوَّل هجرة أبنائهم إلى أمنية يسعدون بها عندما تتحقق، ثمّ لا يلبثون أن يتقلّبوا في جمر المواجع لفراق أحبّتهم والحنين إليهم ؟! إنّها لعمري جزية القبول ب »مرقد أمل« لهم، بديلاً من »مرقد العنزة«!
لماذا يا وطني تركت ضباب الشتاء يصادر إرهاص الربيع، ويغلق على السنونوات طريقها إليك؟! لماذا تأخّر الفجر، وتمدّد الضجر، وسكن القلق، وارتحل الغد، واستقرّ الضنك والخذلان ؟! لماذا تركت حقولك بلا أزهار، وأشجارك بلا اخضرار، وجداولك من دون ماء، وصوتك من غير صدى ؟!
تتداعى طفولة الأبناء على ضفاف العبور إليهم في غربتهم، وتستمطر في الأعماق شآبيب الفرح لتغمر بوهجها جدب البعد وقحط الفراق وصمت الغياب وأرق الليالي، وتهمس في آذان الوالدين بوشوشات الورود في مراتع البراءة المحفوظة في ثنايا الروح، فتعود الى الصدور أنفاسها بعدما فرغ منها الهواء، وإلى العيون بريقها بعدما استغرقت في وجوه واجمة، وإلى الشفاه بسمتها التي سافرت مع الأحبّة ثمّ أضاعت طريق العودة إلى دارها.
في سيدني الجميلة استعدت الجزء المسافر من روحي إلى أقاصي الأرض، ففرحت واستمتعت وضممت أحبتي كثيراً، لكنّي أيضاً بكيت …!