نازك الملائكة: الأيقونة التي انقلبت على ذكورية الشعر العربي

دفاعها النظريّ عن الحداثة لا يقل  قيمة عن قصائدها

قد يكون الشّعر بالنسبة للإنسان السعيد ترفاً ذهنياً محضاً. غير أنّه بالنسبة للمحزون وسيلة حياة وشمس حزن تشرب جرح البرتقال. فكيف ترضى يداك أن تقتل الإلهام ؟”.

تيمناً بالثائرة السورية نازك العابد التي قادت الثوار السوريين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في العام ١٩٢٣، أطلق الكاتب صادق الملائكة على ابنته الحديثة الولادة اسم نازك، دون أن يعلم أن جينات الكتابة التي تعود لعائلتها المثقفة ستجعل منها شاعرة استثنائية ورائدة للحداثة الشّعرية.

من أهم إصدارات نازك الملائكة :” عاشقة الليل ( ١٩٤٧)،

 ” شظايا ورماد (١٩٤٩)،قرارة الموجة( ١٩٥٩)،  مأساة الحياة وأغنية للإنسان (١٩٧٧)، وللصلاة والثورة يُغيّر ألوانه البحر”(١٩٧٨).

اتجهت بخطى ثابتة لمعالجة قضايا وجودية ، موضحة قلقها ومعاناتها النفسية التي عبرت عنها بطرق مختلفة نثراً وشعراً، هي التي تقصت عوالم التصوف الإسلاميّ بكل وجوهه وأضافت منه على ذاتها والقصيدة.

تأثرت الشاعرة بالرمزية ، وهذا ما جعل لنصوصها أبعاداً خيالية مضمرة، تحتاج إلى قارئ قادر على التقصي وتأويل المشهديات المتسمة بالفلسفة والعمق و قراءة بين السطور.

وتُعتبر الشاعرة رائدة الشعر العربي الحديث، هي والشاعر العراقي بدر شاكر السياب .

” أعتقد بأنني لو لم أبدأ حركة الشّعر الحر، لبدأها بدر شاكر السياب ، ولو لم نبدأها أنا وبدر شاكر السياب لبدأها شاعر عربي آخر غيري وغيره، فالشعر العربي الحرّ قد أصبح في تلك السنين ثمرة ناضجة حلوة على دوحة الشعر العربي، بحيث حان قطافها، ولا بدّ أن يحصدها حاصد في أية بقعة من بقاع العالم العربيّ، ويبتدئ عصراً أدبياً جديداً كله حيوية وخصب وانطلاق”.

من تكون نازك الملائكة التي غيّرت إيقاعات الزمن، بدءاً من القصيدة إلى عقارب الزمن؟

وهل للأنوثة مساراتها في التغيير، وتأويل ما لا يعول عليه في النصوص الآفلة؟ وهل الشكل هو الذي يحدد القيمة الأدبية للشعر؟

إذن ، لماذا تجرأت نازك الملائكة دون غيرها على وضع عصافير على قبعتها الكلاسيكية، فوصل غناؤها إلى أبعد من أسوار القصر الملكيّ للمنابر، بربطات عنقها الذكورية الفجة؟

ولدت الملائكة في بيئة ثقافية، وهذا ما عزز لديها شعوراً بتقصي مختلف أنواع الآداب والفنون.

تخرجت الشاعرة  من معهد الفنون الجميلة – قسم الموسيقى- عام ١٩٤٩.

وفي العام ١٩٥٩ حصلت على شهادة ماجيستير.

كذلك نالت شهادة في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن في أمريكا.

عيّنت أستاذة في جامعة بغداد والبصرة ، وقد ظهر تأثرها واضحاً بالشّعر الفرنسي والإنجليزي وشعراء أمثال بودلير و سانت إيف وغيرهم.

اعتمدت الملائكة على الموسيقى الداخلية للنص، متنصلة من الأشكال التقليدية الرتيبة للإيقاعات والأوزان، وقد استطاعت من خلال ثقافة استثنائية، وبديهة حاضرة أن تتجاوز  ما هو مألوف ومكرر، والعبور إلى الضفة الثانية للعالم، مكرسة مفهوم الحداثة الشعرية كواقع وتطبيق، بعيداً عن النظريات الكلاسيكية المعهودة.

استخدمت الشاعرة الرمزية وأشكالاً جديدة من الموسيقى، فاتحة للمعنى مجازات لا حصر لها، لمساً وتذوقاً وسمعاً وتنشقاً،بعيداً عن المبنى الاعتياديّ والسائد في عصرها المتزمت، الذي كان يختصر دور المرأة بالانصياع، وترك الزمام للرجل في ساحات الثقافة العامة .

لقد استطاعت من خلال تجربتها العميقة، التمرد على الشعر العمودي، والتمهيد لثورة المرأة على التقاليد البالية، وذلك على كافة المستويات.

” تنبأت في مقال لي نشرته مجلة الأديب – بأن حركة الشّعر الحرّ : ” ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع صاعق، ولا أحد مسؤول عن أنّ شعراء ضحلي الثقافة سيكتبون شعراً غثاً بهذه الأوزان الحرّة”، واليوم أتنبأ بأن حركة الشّعر الحرّ ستصل إلى نقطة الجزر في السنين المقبلة، وهذا يعني أنّ الشّعر الحرّ سيبقى قائماً ما قام الشعر العربيّ وما لبثت العواطف الإنسانية”.

تزوجت نازك الملائكة من الشاعر العراقي عبد الهادي محبوبة. وعلى الرغم من الصعوبات التي رافقتها في حياتها غير المستقرة، فإنها استثمرت معاناتها وخذلان الحياة لها ، بطريقة إبداعية لتصبح ملهمة لذاتها ، مشاركة في تحرير  القصيدة من قيودها ورجمها لأصنام الخيال الثابتة في المكان والزمان.

 لقد تبوأت سدّة المدافعين عن التخلي، التخلي كمقياس حقيقي لمغادرة القطار من باب آخر أكثر دلالة على الضوء الجديد القادم من عالم بديل .

تُعتير قصيدة ” الكوليرا” أول قصيدة تكتب على على بحر الشّعر الحرّ، والمؤسسة لمدرسة شعرية غاية في الحداثة والابتعاد عن المألوف، وهي من أوائل هذا النوع في الأدب العربيّ.

“سكَن الليلُ/ أصغ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاثْ

فى عُفْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواثْ

صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ/ حزنٌ يتدفقٌ، يلتهب

يتعتَّر فيه صَدى الآهاثْ/ فى كل فؤادٍ غليانٌ

فى الكوخِ الساكنِ أحزانٌ/ فى كل مكانٍ روحُ تصرحُ فى الظُلُماتْ/ فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتٌ

هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ/ الموتُ الموتُ الموثْ…”.

لم تكتف نازك الملائكة بكتابة الشعر، بل كتبت المقالات النقدية مركزة على تطوير القصيدة لتلائم روح العصر، سواء في الشكل أو المضمون.

ومن مؤلفاتها غير الشعرية ، “قضايا الشعر الحديث، التجزيئية في المجتمع العربي، سيكولوجيا الشعر، الصومعة والشرفة الحمراء”، إضافة إلى مجموعة قصصية تحت عنوان ” الشمس التي وراء القمة “.

وقد أحدث صدور كتابها ” قضايا الشعر الحديث” ضجة في الأوساط الأدبية ، ما بين مؤيد ومعارض نتيجة جرأتها في تناول قضايا الشّعر، وقدرتها على النقد اللاذع للنصوص الرديئة والتجارب الوضيعة، التي لم تنقذها القوافي والهندسة الخارجية من التعفن والهلاك.

لقد استطاعت الشاعرة المسكونة بالشعر والقلق الداخليّ الواضح، إبرام صفقة مع الحرية بكافة أشكالها، فكان لقب شاعرة الحداثة  كما ارتأته لنفسها، متخلية عن معطف الذاكرة الجمعي الثقيل ، مطلقة العنان لقصيدة من نوع آخر، غير متماثلة الوزن والقوافي،  فاسخة العقد مع الأبيات الخليلية، تاركة الخيار للمعنى والموسيقى التي تلحن كلماتها تبعاً لأهواء الرياح والأجراس والصمت أحياناً.

توفيت الشاعرة نازك الملائكة في العام ٢٠٠٧، بعد أن اختارت أن تعيش عزلة اختيارية في القاهرة منذ العام ١٩٩٠، ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة .

“الليلُ يسألُ من أنا /أنا سرُهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرّدُ / قنّعتٌ كنهى بالسكونْ

ولفقتٌ قلبى بالظنونْ / وبقيتٌ ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرونْ/ أنا من أكون؟

والريحُ تسأل من أنا/ أنا روحُها الحيران أنكرنى الزمانْ أنا مثلها فى لا مكان بقى نسيرُ ولا انتهاءْ بقى نمرُّ ولابقاءْ/  فإذا بلغنا المُنْحَنى/ خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ

فإذا فضاء!/ والدهرُ يسألُ من أنا/

أنا مثلهُ جبّارةٌ أطوي عُصورْ

وأعودُ أمنحها النشور

أنا أخلقُ الماضي البعيدْ من فتنةِ الأمل الرغيذْ

وأعودُ أدفنْهُ أنا/ لأصوغَ لى أمسًا جديدْ

غَدُهُ جليد/ والذاتُ تسألُ من أنا

أنا مثلها حيرَى أحدّقٌ فى ظلام لا شيءَ يمنحُنى السلامْ

أبقى أسائلُ والجوابْ/ سيظَل يحجُبُه سراب

وأظلّ أحسبُهُ دنا/ فإذا وصلتُ إليه ذابْ/ وخبا وغاب”.

أنا الشاعرة نازك الملائكة، لم يمنعني التواجد في مجتمع ذكوري، حاد الطباع ،  من محاربة   الجهل  والتقاليد. البالية.

نسجت من  عالمي الداخلي المضطرب، حالة تجدد ومهدت الطريق أمام الرواد الجدد .

كنت  “عاشقة الليل”، الذي شققت عبره طريقي وسط ظلام اللحظة، فأصبحت المرأة والشاعرة والأديبة التي لا تخشى على نفسها  بل على القصيدة المسجونة بأسلاك شائكة.

 لقد منحت لها كل ما أملك من أجنحة “الملائكة” لتتحرر وتحلق كغيمة تمطر غيوماً أكثر فأكثر، “ليغيّر ألوانه البحر”.

” حكمت أن الشعر الحرّ، قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار العالم العربيّ، ولم أكن يوم أطلقت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً حرّاً قد نظم في العالم العربي، قبل نظمي لقصيدة ” الكوليرا “.

” لا أحد من الشّعراء – من مختلف الأجيال – لم يقرأ لنازك سواء اتفق مع توجهها في القصيدة وأفكارها. لأنّها تعني مرحلة كاملة من تاريخ العراق الشّعريّ. وهي أصبحت أيقونة ومثلاً وقدوة ” كما يقول الناقد العراقي ماجد السامرائي.

وفي الختام يمكننا القول إن نازك الملائكة رقم صعب في حركة الحديث، حيث رسمت لنفسها بعداً إضافياً سواء في مجال النقد الذي أبدعت فيه أو في فن الشّعر، مثبتة أن المرأة قادرة على تغيير المجتمع والفن والثقافة السائدة.