عُيّنَ الدكتور ناصيف حتّي وزيراً لخارجية لبنان في حكومة الرئيس الدكتورحسان دياب في 21 كانون الثاني / يناير 2020، وفي 3 آب/ أغسطس 2020 قدم استقالته منها، وبرر الاستقالة بالقول في بيان: إنه اضطر لإتخاذ القرار بعد “تعذر أداء مهامه”. كما اشتكى من “غياب رؤية لإدارة البلاد وغياب إرادة فاعلة في تحقيق الاصلاح الهيكلي الشامل المطلوب الذي يطالب به مجتمعنا الوطني ويدعونا المجتمع الدولي للقيام به”.
وحذر من أن “لبنان ينزلق للتحول إلى دولة فاشلة”، داعيا الحكومة والمسؤولين عن إدارة البلاد إلى “إعادة النظر في العديد من السياسات والممارسات”.
انطلاقاً من مضمون كتاب استقالة الوزيرحتي المليء بالاعتراضات على الاداء الحكومي والرسمي في لبنان،
والمستبطن انتقادات لطبيعة النظام السياسي والممارسات الرسمية التي اوصلت لبنان الى الانهيار التام، كان لمجلة “الحصاد” هذا الحوارمع حتّي، متضمناً نظرته لتركيبة النظام السياسي ورؤيته لكيفية الخروج من الازمة وتحقيق الاصلاحات البنيوية، واعادة بناء الدولة المدنية غير الطائفية ومؤسساتها كافة، انطلاقا من مفهوم التغيير الديموقراطي ومن ضمن الدستور اللبناني، معطوفاً على تغييرات لا بد منها، سواء في تركيبة النظام او الاداء الرسمي، وحتى الاداء الشعبي عبر قانون انتخاب غير طائفي.
- بيان استقالتك تضمّن توضيحا لجوهر النظام واداء المسؤولين، من خلال تجربتك في الوزارة، ما هي برأيك اسباب انهيار الوضع في لبنان على هذا النحو غير المسبوق؟ ومن يتحمل المسؤولية؟
- رأيت اننا سائرون نحو الانهيار، وانا منذ العام 2017 حذرت في مقالات عديدة من اننا بلد يُصدّر ابنائه للخارج وان هناك “تجويفاً كليّاً”، وبدل ان نأخذ المصعد الاجتماعي اخذنا المهبط الاجتماعي، فازدات مستويات الفقر. ما يعني ان هناك خللاً هيكلياً اوبنيوياً. وان الازمة المالية تعكس ازمة اقتصادية وبالتالي ازمة سياسية تمس تركيبة النظام. ما يستوجب إصلاحاً شاملاً.
سبب الازمة في العمق غياب مأسسة السلطة، نحن نعيش شخصنة السلطة وتطييف السلطة كأننا نعيش “فيدرالية” امر واقع من الطائفيات السياسية، لذلك فدور الدولة مُصادر من قبل تركيبة من الزعماء يتبادلون المسؤوليات.
- كيف يكون المخرج اوالحل؟
- علينا ان نبدأ من الاساس، وهو الدخول في عملية اصلاح تدريجي، صحيح هناك ازمة مالية واقتصادية، لكن لا يمكن معالجة هذه الازمة من دون معالجة مسبباتها وجذورها، وهي سياسات اقتصادية تقوم على اقتصاد ريعي غير منتج، وسياسات تقوم على منطق “الزبائنية” وشخصنة السلطة. لا اقول ان الاصلاح ممكن خلال يوم او شهر، لكن علينا القيام بخطوة اولى لنصل الى بناء دولة المؤسسات.
- وكيف نبني دولة المؤسسات في ظل هذه التركيبة السياسية الطائفية التي تحكم البلد؟
- نبدأ بمعالجة الازمة المالية – الاقتصادية ببناء اقتصاد منتج وليس اقتصاداً ريعياً. وبناء دولة المؤسسات التي تلغي اوتضعف بمرحلة اولى ثم تقضي على منطق الزبائنية، فيصبح مفهوم الولاء للمؤسسة وللدولة لا للطائفة. ولا اقول ان نلغي التمثيل الطائفي في الحكم هذا موضوع آخر، لكن ان نلغي تمثيل الزعماء في السلطة تحت عنوان الطائفيات السياسية.
بناء دولة المؤسسات اكثرمن اساسي بحيث يكون لدينا نظام مالي ناشط وفعال ونظام اقتصادي منتج. ان اقتصاد الخدمات ضروري، لكن اين الاقتصاد المنتج، اين التصنيع الزراعي؟ هناك عدة وسائل لإطلاق التصنيع الزراعي كما يحصل في اوروبا، عبر طريقة “المايكرو كريدي”، اي الانتاج اولاعلى مستوى رجل وعائلته، ثم على مستوى القرية وعبر التعاونيات التي تتولى تصريف الانتاج… وهكذا. فقبل ان يكون هدفنا توطين الآخر في لبنان يجب ان يكون
هدفنا الاساسي توطين اللبناني في ارضه عبر الاقتصاد المنتج وتعزيز فكرة المواطنة في دولة مؤسسات، وليس عبر زعامة طائفية سياسية. لذلك اقول انه من الصعب الخروج مما نعيش فيه اذا بقينا نعمل ضمن المنطق نفسه.
- اليست تركيبة النظام وممارسات اهل النظام هي سبب الازمة وليس الوضع الاقتصادي فقط؟
- إذا لم تكن هناك مساءلة ومحاسبة ودولة مؤسسات بل شخصنة للسلطة، تصادر الدولة عندها دور المؤسسات. وبالتالي يجب ان نقوم عندها بمراجعة شاملة. جذور الازمة في لبنان مترابطة سياسية واقتصادية ومالية، فالأزمة الاقتصادية سببها سياسي عبر توزيع المنافع والزبائنية. لذلك نحتاج الى نظرة شاملة للإصلاح لكن بمدخل تدريجي.
من هنا يبدأ الاصلاح التدريجي
- من اين يبدأ الاصلاح التدريجي؟
- نبدأ بإنتخاب رئيس للجمهورية والاتفاق على الاصلاحات الاقتصادية والمالية وفي جوانب اخرى. لكن ما يميز الوضع الحالي ان كل الازمات التي مرت على لبنان لم تكن بحدة الازمة التي نمر بهاحالياً. لبنان استفاد في الماضي مما اسميه “سلطته الناعمة”، اي العلم والانفتاح والثقافة، فكان يأتي اليه الجميع اما للإستثمار او للتعلم والاستشفاء أو للمنتدى الثقافي. لكن هذه الامور تغيرت نتيجة تطور المحيط الاقليمي الذي اصبحت لدى دوله هذه الميزات، فلم يعد يجوز ان نعيش في الماضي.
ثانيا، ازمة لبنان بنيوية وتحتاج الى مقاربة شاملة للإصلاح. والنظام اللبناني ترهّل، واذا لم نقم بالمقاربة الشاملة للاصلاح السياسي والمالي والاقتصادي لن نصل الى نتيجة. والمهم ان يكون هناك قرار سياسي بالاصلاح! فالمفاوضات الاولية مع صندوق النقد الدولي اكدت على ضرورة الاستثمار في الشأنين الاجتماعي والاستثماري، إذ لا توجد شبكة امان اجتماعية في لبنان.
تركيبة اصلاحية للسلطة
- الا يحتاج الاصلاح الى رجال دولة اصلاحيين؟ اين هم في لبنان، كما يقول دائماً الرئيس سليم الحص؟
- من دون شك، نحتاج في اول حكومة تتشكل بعد انتخاب رئيس الجمهورية الى ان تكون الحكومة فريق عمل بمشروع اصلاحي واضح لا فريق وفكرمناكفات، كمن تعطي كل وزير او فريق حق “الفيتو” وهوما اسمّيه “فقه النكاية او فقه المناكفة” . كما نحتاج استعادة المصداقية اولاً لأهل البلد، وثانيا للخارج. فالمركب يغرق ونحن نغرق في نقاش حول “ديكور” المركب بينما الجميع خاسر في نهاية الامر.
لذلك طالبت بهدنة سياسية على قواعد واضحة حتى ننقذ المركب، لكن على قواعد في المضامين وليس في العناوين، فالشيطان يكمن في التفاصيل. فلا بد من بناء نظام الشفافية والمساءلة وبناء سلطة ذات رؤية وبرنامج اصلاحي شامل يشمل كل نواحي الاصلاح الاقتصادي والمالي والسياسي، ليس الامر سهلاً لكن هذه هي الطريق التي يجب ان نسلكها، عبر تركيبة اصلاحية في السلطة.
- كيف نبني سلطة اصلاحية برئيس جمهورية وحكومة وادارة سليمة بينما الجمهور الناخب هومن يأتي بالسلطة، فماعلاقة قانون الانتخاب في بناء سلطة اصلاحية، وما هي الثغرات في الدستور؟
- هناك ثغرات في الدستور لا شك، لكن انا ارى انه حصل في لبنان طائفين (نسبة لإتفاق الطائف). طائف انهاء الحروب اللبنانية وحروب الآخرين التي جرت بأيادٍ وبقناعات لبنانية. والطائف الثاني الذي فتح الباب للإصلاح، فالمفروض اطلاق مسارات الاصلاح وبناء الدولة المدنية، وهنا يجب الّا نخاف من عبارة الدولة المدنية فهذه لا علاقة لها بالدين، انها دولة نزع الطائفية السياسية من السلطة. لذلك لحظ اتفاق الطائف ودستوره اجراء انتخابات خارج القيد الطائفي وانشاء مجلس شيوخ لقضايا الطوائف لمنع تحكم الطوائف بالبلد وتبادل رمي المسؤوليات على الاخرين.
انا اعتقد ان الاوضاع الحاصلة في لبنان والتفكك الحاصل ستدفع بمن يعارض الاصلاح الى قبول انطلاق مسار الاصلاح. عدا عن ان الدول الصديقة لن تساعدنا الا اذا واكبت مسار الاصلاح، وهذا لا يعتبر تدخلا في تقرير مصير لبنان، بل يساعد في تنفيذ الاصلاحات.
الدستور وقانون الانتخاب
- وماذا عن تعديل دستور الطائف وقانون الانتخاب؟ اي قانون انسب للبنان لتحقيق الاصلاح؟
- لم يسمح المسؤولون اللبنانيون بتطبيق الدستور منذ اليوم الاول لوضعه، الدستورليس كتاباً مقدساً بل جاء ليطلق دولة جديدة، كان بداية طريق لإعادة بناء الدولة. وانا اعتبر ان العودة الى ما قبل الطائف انتحار، لكن كل طرف اراد بناء دولة على قياسه.
اما قانون الانتخاب فهو يعيد انتاج السلطة بما يكرس الطائفية السياسية، لذلك ارى ان الدائرة الانتخابية الواحدة في كل لبنان هي الافضل، مع انها صعبة التحقيق، ولكن يمكن اعتماد الدوائر الكبرى لتكريس المواطنة بدل تكريس طائفية السلطة.
علينا ان نعقد طاولة حوار لنفكر في رأب الصدع وتكريس مفهوم المواطنة على حساب مفهوم الرعايا الطائفية … فنظام فيدرالية الطوائف لا يمكن ان يخرجنا من النفق او يرفعنا من القاع.
لبنان اللاعب لا الملعب
- ألا يساهم الخارج في الانقسام الداخلي وهل له ان يلعب دوراً في الاصلاح والتغيير؟
- في ثقافتنا السياسية هناك نوع من القدرية السياسية وانا اسميه “الحَوَلْ السياسي”، بمعنى ان كل فريق يعتمد على صديقه الخارجي في الاقليم. فالتفاهم السعودي- الايراني مثلاً امراكثرمن مهم وضروري للبناء عليه، لكنه ليس بديلاً عن ان نفعل ما علينا لتصحيح الخلل، الاطراف المؤثرة في لبنان تُنجز تسويات لكن علينا نحن العمل على الحلول. الخلل والثقوب عندنا هي في النظام، المساعدة الخارجية ضرورية لكن عليك انت ان تقوم بماعليك. نحن في لبنان لدينا قابلية للتدخل الخارجي بل نحن”نشحذ” التدخل الخارجي.
لبنان قادر على الاستفادة من التفاهمات الخارجية لإصلاح النظام، والمطلوب منا إجراءات جراحية، فسياسة المراهم غير مجدية. لا بد من سياسة خارجية جديدة للبنان، فلم يعد يستطيع البلد ان يكون في حضن هذه الدولة اوتلك. مصلحة لبنان هي في الحياد السياسي الايجابي لا النأي بالنفس، فليس علينا تحمل كل شيء عن الآخرين. لا اريد ان نبقي ملعباً للآخرين بل ان نتحول الى لاعب دور اطفاء الحرائق في المنطقة، لنكن جسراً سياسيا على قواعد تنظيم الخلافات بما يعزز امننا الوطني.
كادر مع الموضوع
ناصيف يوسف حتّي
هو سياسي ووزير لبناني. شغل سابقا منصب سفير لبنان والمتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربية ورئيس بعثة جامعة الدول العربية في فرنسا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو منذ مطلع عام 2000.
كان منذ مطلع عام 1991 المستشار السياسي والدبلوماسي الخاص لأمين عام جامعة الدول العربية، وكان أيضاً أستاذاً في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بين عامي 1992–1999، وعضواَ في هيئة تحرير مجلة شؤون عربية الصادرة عن جامعة الدول العربية.
إلى جانب ذلك كان الدكتور حتي أستاذاً زائراً في الأكاديمية المتوسطية للدراسات الدبلوماسية في مالطا. كما أنه يحاضر في عدة جامعات غربية ومراكز أبحاث، وصدر له كتابان هما نظرية العلاقات الدولية (1985)، والعالم العربي والقوى الخمس الكبرى: دراسة مستقبلية (1987)، وله أيضاً عدد من الدراسات والأبحاث في الشؤون الدولية والعربية نشرت في دوريات متخصصة. كما أنه يساهم بمقالات سياسية في عدد من الصحف العربية. وشارك في كثير من الندوات والمؤتمرات حول قضايا الشرق الأوسط وقضايا المتوسط والسياسة الدولية، وهو عضو في مراكز أبحاث تعنى بالقضايا الدولية وقضايا الشرق الأوسطز
نال الدكتور حتي الإجازة في العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية في بيروت (1975)، والماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة ذاتها (1977). ونال الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأمريكية 1980.