تخبّط اميركي بين دعم اسرائيل وصفقة وقف النار
لم يكن من خيار امام رئيس حكومة الكيان الاسرائيلي بنيامين نتيناهو سوى تمديد امد الحروب من غزة الى لبنان وايران، وعلى امل يراوده بجر الولايات المتحدة الاميركية وربما بريطانيا الى خوض المواجهات العسكرية معه ضد من يعتبر انهم “اعداء مشتركين”، وسط مؤشرات تتزايد داخل الادارة الاميركية وداخل الكيان الاسرائيلي على رغبة جامحة تولّدت خلال الاسابيع الماضية بضرورة التخلص من نتنياهو بأسرع وقت، قبل ان يجرّ منطقة الشرق الاوسط الى حرب شاملة، لأنه يدرك انه ما ان تتوقف الحرب سينتهي سياسيا ما لم يذهب الى السجن.
وفي بيروت تقديرات لدى مسؤولين رسميين وخبراء متابعين لمسار الوضع منذ عشرة اشهر، بأن ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن باتت عاجزة عن كبح جماح نتنياهو لأنها ادارة راحلة بعد اشهر قليلة، ونتنياهو يلعب على حبلي التناقضات بين
الديموقراطيين والجمهوريين وفي الوقت الفاصل عن الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 تشرين الثاني /نوفمبر المقبل، ويعتمد على دعم اغلبية اعضاء الكونغرس الاميركي من الجمهوريين. واياً كانت الادارة الجديدة سواء مع الرئيسة الديموقراطية كامالا هاريس او الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، فإن ما بعد تسلم احداهما المسؤولية سيكون غيرما قبله.
ولأن نتنياهو يحظى بالدعم الاميركي خاصة والاوروبي عموماً تحت شعار”حق اسرائيل بالدفاع عن نفسها”، تمادى الى حد واسع جداً في توسيع نطاق إستفزاز ايران بإغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية في طهران، واستفزاز حزب الله بإغتيال القائد العسكري الكبير في الحزب فؤاد شكرفي قلب الضاحية الجنوبية معقل الحزب الاساسي لجرهما الى الرد القاسي، وهومدرك سلفاً ان مثل هذه العمليات لن تمر من دون ردٍّ قاسٍ يسمح له بالرد ايضاً بدعم عسكري اميركي .
وكما افشل نتنياهو اكثرمن مرة قرارات واتفاقات برعاية اميركية لوقف اطلاق النار في غزة، عبر ارتكاب مجازر متعددة كانت تنسف أي محاولة للحل، ارتكبت قواته مجزرة مدرسة “التابعين” (اكثرمن 100 شهيد)، بينما كانت الدول الثلاث العاملة على خط المفاوضات اميركا ومصر وقطرتتفق على جولة جديدة منتصف آب /اغسطس الماضي، ووافق نتنياهوعلى حضورها.
بالمقابل، اعتبرت مصادر سياسية متابعة لما يجري ميدانياً “إن سياسة نتنياهو تتلخص بكلمتين هما “الهروب الى الامام”، من خلال بحثه المستمر عن خطوات عسكرية تصعيدية تؤدي الى وقف اي مفاوضات بشأن الوضع في غزة، وإستجرار المنطقة الى الحرب، ودفع الولايات المتحدة الأميركية الى التدخل ضمن عنوان “الدفاع عن مصالح إسرائيل”، وتأخير سقوطه السياسي المحتوم بعد توقف الحرب.
حشد عسكري داعم الى متى؟
لكن لا شك ان مصالح الرئيس جو بايدن ا بعد انسحابه من الانتخابات الرئاسية تبدلت اولوياتها، وحسب متابعين في بيروت فقد بات بايدن عملياً قادراً على امرين: اولاً، يساعد اكثر في إطلاق يد نتنياهو لحسم الموقف العسكري في غزة
بالسرعة الممكنة اذا استطاع، وثانيا وبالتوازي يعرض مقترحات جديدة للتفاوض مجدداً بالتنسيق مع مصر وقطر، حول وقف اطلاق النار في غزة وتبادل الاسرى وإدخال المواد الغذائية.
كما ان بايدن اصبح مطلق اليدين في إدارة الحرب مباشرة. ففك الحصار عن ارسال القنابل الثقيلة الى اسرائيل حيث تم استخدامها اكثرمن مرة، كما أرسل اسطوله الى سواحل لبنان وفلسطين في تهديد للمقاومة اللبنانية، والى الخليج لتهديد ايران، ورفع جهوزيته العسكرية في البحر الاحمر في تهديد للحوثيين، وكل ذلك بهدف الدفاع عن إسرائيل بما يتيح التصدي للصواريخ والطائرات المسيرة التي قد تطلق بإتجاه اهداف محددة داخل فلسطين المحتلة في حال الرد القوي على اغتيال هنية وشكر.
كما انتقل بعد ذلك الى الشرق الاوسط قائد القيادة المركزية الأميركية الفريق أول مايكل كوريلا مرتين، في مهمة وصفت بأنها “لحشد دعم التحالف الإقليمي والدولي الذي دافع عن إسرائيل من الهجوم الذي شنته إيران في 13 نيسان – أبريل الماضي بعد قصف القنصلية الايرانية في دمشق”. وبحث مع وزير الحرب يوآف غالانت ورئيس الاركان هاليفي ما وصف “الاستعداد للاستجابة للتهديدات في الشرق الأوسط”، وهي رسالة موجهة الى “محور المقاومة” في المنطقة بأن اميركا لن تترك اسرائيل وحدها في مواجهة هذا المحور.
ويستفيد بايدن من ان المرشحة الديموقراطية للرئاسة كامالا هاريس في حمأة معركتها الانتخابية غير معنية كثيراً بمتابعة الوضع في غزة بالتفاصيل، وكذلك المرشح الجمهوري دونالد ترامب، إذ لم يكونا ضمن مجموعة القرار بعد عملية “طوفان الاقصى” وما تلاها من تطورات، ولهما رؤية مختلفة لمقاربة ما يجري من احداث وتطورات. ويرى بعض المتابعين، أن الانتخابات الرئاسية الاميركية لم تعد مؤثرة كثيرا في اتخاذ الخيارات والقرارات حيال وضع المنطقة ، مالم يقرر ترامب أوهاريس امراً خلال حملتهما الانتخابية لكسب اصوات الناخبين اليهود اوالعرب والمسلمين.
مأزق وتخبّط اميركي
مصادر فلسطينية في بيروت، ترى ان هناك مأزقاً اميركياً فعلياً نتيجة التخبط بين متطلبات المعركة الانتخابية للديموقراطيين والجمهوريين على السواء، وبين تصعيد المواجهة من البحر الأحمر الى الخليج فالبحر المتوسط، او استيعاب الضربات على إسرائيل من لبنان وايران والعراق واليمن وتقبلها مهما كانت أهدافها ونتائجها، كما بين استمرار مسعاه لعقد صفقة حول غزة. عدا عن ان هناك تحولاً كبيراً في الرأي العام الأميركي يميل الى وقف الدعم العسكري المفتوح لإسرائيل لوقف مجازرها بحق الفلسطينيين، وحيث تنامى بشكل كبير رفض الرأي العام الاميركي للدعم اللامحدود لإسرائيل “والذي بات يكلف دافعي الضرائب والخزينة الاميركية المليارات”.
لذلك تجنبت ادارة الرئيس بايدن حصول حرب كبرى تترتب عليها نتائج ليست في مصلحتها، لكنها تعطي إسرائيل ما تريده لحسم الموقف لمصلحتها. وعلى هذا يعتبر “محورالمقاومة” ان المواجهة هي فعلياً مع اميركا وليس مع إسرائيل. كما تعتبر اميركا وإسرائيل فعليا ان المعركة هي مع إيران التي تحرك اذرعها في الشرق الأوسط. من هنا نشطت حركة الاوروبيين وبعض العرب تجاه ايران وحزب الله لمنع توسع الحرب من خلال الرد على اغتيال اسماعيل هنية وفؤاد شكر. وكان البارز في هذا الحراك اتصال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالرئيس الايراني مسعود بزشكيان، وزيارة وزير الخارجية الاردني ايمن الصفدي الى طهران ، عدا الاتصالات التي تقودها مصر والسعودية وقطر وتركيا، بهدف حصر الرد ومنع نتنياهو من استغلال اي ضربة كبيرة لتوسيع رقعة الحرب. اضافة الى الاتصالات الكثيفة الجارية مع الحكومة اللبنانية.
اين لبنان؟
لبنان من جهته استمر في المواجهة الرسمية الدبلوماسية عبر لقاءات واتصالات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب واحيانا رئيس المجلس نبيه بري بالجهات الدولية المعنية بالوضع اللبناني، وفي المواجهة العسكرية من جبهة الجنوب عبر استمرارعمليات المقاومة ضد ثكنات ومواقع وتجمعات ومستعمرات قوات الاحتلال المقابلة، لا سيما وأن الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فصل بين استمرار إسناد غزة وبين الرد على اغتيال فؤاد شكر.
والمفارقة ان كل الموفدين والسفراء الاجانب كانوا ينقلون الى لبنان التحذيرمن الانجرار الى الحرب، من دون ان تمارس دولهم اي ضغط فعلي على اسرائيل لمنعها من توسيع نطاق الحرب او وقف ارتكاب المجازر وعمليات الاغتيال هنا
وهناك. بل ماحصل فعلياً هو عكس ذلك تماماً.
وسارعت الحكومة اللبنانية عبر بيان لوزارة الخارجية بالترحيب “بالبيان المشترك لقادة مصر وقطر والولايات المتحدة الاميركية، الذي أكد ضرورة وضع حد فوري لمعاناة الفلسطينيين في قطاع غزة والتوصل الى وقف لإطلاق النار وإبرام اتفاق للإفراج عن الرهائن والمعتقلين، ودعوته طرفي النزاع لاستئناف المناقشات العاجلة لتذليل العقبات المتبقية أمام التوصل الى الاتفاق المنشود”. وأكدت الحكومة “أن ما تضمنه بيان القادة الثلاث يجسد رؤية لبنان لخفض التصعيد في المنطقة ونزع فتيل اشتعال حرب اقليمية شاملة”.
ثم عممت الخارجية اللبنانية على كل البعثات الديبلوماسية اللبنانية في الخارج ولدى الامم المتحدة ورقة الحكومة اللبنانية التي “تُظهر القواعد الهادفة إلى تحقيق الاستقرار على المدى الطويل في جنوب لبنان. وطلبت منهم اجراء الاتصالت اللازمة في دول اعتمادهم، على المستوى الثنائي كما وضمن مجالس السفراء العرب ، لتظهير الموقف اللبناني المبني على العناصر المشار اليها في هذه الورقة”.
وهذه الورقة تضمنت بشرح مفصل اعتداءات اسرائيل على لبنان واهدافها من وراء التصعيد، وتأكيد حق لبنان بالدفاع عن نفسه، وتقترح على الدول المعنية العمل على خفض التصعيد على مراحل وصولا الى تطبيق كامل وشامل من جانبي لبنان واسرائيل للقرار 1701، حيث “سيلعب الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل دوراً محورياً في هذا المسعى. بهدف ضمان توافر الشروط اللازمة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١، وتلتزم الحكومة اللبنانية بزيادة عدد أفراد الجيش اللبناني من خلال حملة تجنيد جديدة”.
وكانت هذه الورقة بمثابة الحد الاقصى السياسي الرسمي لما قام به لبنان من اتصالات ولقاءات ومساعٍ، لتجنب اندفاعة الكيان الاسرائيلي نحو تصعيد المواجهة وتحويلها الى حرب اوسع لاطاقة له على تحمل نتائجها، كما وعرض مقترحات الحلول.
لكن الجانب “غير الرسمي” في التعاطي اللبناني مع الوقائع المستجدة تجلّى في استمرار عمليات المقاومة ضمن معركة إسناد غزة بمعزل عن الرد على اغتيال القيادي فؤاد شكر، فهذا الاغتيال في حساب حزب الله وقراره الثابت لا يمر “من دون رد قوي وفعّال مؤثر” كما قال الامين العام للحزب السيد حسن نصر الله في تشييع ومن ثم في تأبين شكر بعد اسبوع.
لذلك وقع لبنان بين حدّي الدبلوماسية الدولية الرافضة لتوسيع الحرب والضاغطة على الحكومة لإقناع حزب الله بتخفيف حدة الرد، وبين قرار الحزب بالرد على الاعتداء في الضاحية الجنوبية. لكن تحديد نوع الرد وحجمه ومكانه استغرق وقتاً نظراً للتدخلات الكثيفة من دول الغرب، ولطرح اقتراح جديد لوقف اطلاق النار في غزة، بحيث يمكن ان يُفسّر اي رد من الحزب على انه تعطيل للمبادرة الاميركية – المصرية – القطرية الجديدة ويتم تحميله المسؤولية.