نداء عاجل: انقذوا ما تبقى من السودان

كارثية الوضع ومأساوية الواقع تستلزم سرعة التحرك

“بسبب الحرب تحول السودان إلى دولة فاشلة..إن السيناريو الأسوأ أن يصبح نسخة جامحة من الصومال لمدة 20 أو 25 عاما مع احتمالات السرعة في أن يتحول الوضع فيه من حرب بين طرفين إلى حرب بين عدة أطراف تجذب إليها دول الجوار الكبيرة فنصبح أمام نسخة أسوأ من الصراع في ليبيا”..تحذيرات وردت على لسان توم بيرييلو، المبعوث الأميركي الخاص للسودان، من توابع الوضع القاتم والخطير الذي وصل إليه السودان بسبب الحرب ونذر تحولها إلى حرب شاملة تلقي بظلالها على دول المنطقة وتحدث تأثيراتها السلبية على الصعيد الإقليمي والدولي وفقا للمسؤول الأمريكي.

وضع كارثي وواقع مأساوي

لقد بات الوضع كارثيا في السودان بعد مرور ما يقرب من 15 شهرا على اشتعال الحرب بين أبنائها من السودانيين، بقيادة طرفيها قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، ورئيس قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الملقب ب”حميدتي”، وهي الحرب التي دمرت الأخضر واليابس، وسيخرج الجميع منها خاسرا فلا يوجد طرف منتصر فيها لأن المحصلة خسائر كارثية وتدهور غير مسبوق في أوضاع السودان بشكل يهدد كيان الدولة ووجودها بعد أن تسبب صراع الجنرالات في تدمير البنى التحتية وتخريب المباني السكنية والحكومية وتعريض مستقبل الآلاف من الطلاب في جميع مراحل التعليم للضياع بسبب عجزهم عن استكمال دراستهم، إضافة إلى تعرض المرضى للموت لعدم توافر الأدوية وتدمير المؤسسات المعنية بتقديم الخدمات الصحية والعلاج للحالات الحرجة وذوي الأمراض المزمنة.

في ظل هذه الأوضاع المأساوية حذرت منظمة الأمم المتحدة من أن المرافق الصحية السودانية تعمل بحدها الأدنى وأن الإمدادات الطبية لاتستطيع إلا تلبية ربع الاحتياجات فقط. وكشف مدير المراكز القومية لعلاج الأورام عن وفاة 20% من مرضى السرطان لعدم توفر العلاج أو صعوبة وصولهم للمستشفيات. وأشار إلى أن القتال في الخرطوم والجزيرة أدى إلى خروج الولايتين السودانيتين من الخدمة رغم أهميتهما الحيوية مما أدى إلى حرمان 80% من المرضى السودانيين من العلاج.

وتزداد الصورة قتامة يوما بعد يوم في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية ومطاردة الموت للسودانيين قتلا وجوعا، وحتى من يحاول منهم الفرار من ذلك الجحيم فإنه يتعرض للموت  غرقا كما حدث مؤخرا عندما غرق 25 سودانيا في النيل الأزرق أثناء محاولتهم الهرب من المعارك.

يقول رئيس مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في السودان جاستن برادي أن هناك 4.9 مليون شخص يعيشون الآن في حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، والتي تعتبر على مسافة خطوة واحدة فقط من المجاعة مشيرا إلى احتمال مواجهة موت عشرات بل مئات الآلاف جوعا في الفترة المقبلة بشكل يسهم في حدوث أكبر أزمة مجاعة في العالم منذ سنوات طويلة حيث اضطر السودانيون في مناطق الخرطوم إلى تناول أوراق الشجر والعيش عليها عوضا عن عدم توافر الغذاء خاصة مع تعثر الزراعة وتراجع انتاج الحبوب بنسبة كبيرة بسبب ظروف الحرب. ويعد الأطفال أكثر ضحايا هذه الحرب حيث يعانون أشد أنواع سوء التغذية بسبب نقص الإمدادات الغذائية التي اضطرتهم لأكل التراب في بعض المناطق السودانية ومنها مخيم زمزم في ولاية شمال دارفور حيث يسكن نصف مليون لاجئ سوداني.

شعب يدفع ثمن الصراع بين الجنرالات

للأسف الشديد تعيش المنطقة العربية أسوأ حالاتها في ظل امتداد الحروب إلى أجزاء كثيرة منها بشكل انعكس سلبا على أوضاع الشعوب. لم تكن غزة وحدها التي تعيش مأساة متجددة على مدار الساعة من قتل وتدمير وإبادة وتجويع على يد سلطات الإحتلال الصهيوني، إنما تشهد أجزاء أخرى من العالم العربي أوضاعا خطيرة ولاتقل مأساوية عما يحدث في فلسطين ولكنها لا تحظى بنفس الاهتمام الإعلامي الدولي ولايشعر بها العالم. ففي السودان تبدو الأجواء حالكة السواد بسبب الحرب الأهلية ونيرانها التي عكرت صفو  سمائه، والدماء المراقة والجثث الملقاة على قارعة الطريق والبقايا البشرية العائمة على المسطحات المائية، بينما يستمر القتال ويصير أشد شراسة ليلتهم خيرات وثروات السودان ذلك البلد الغني بأرضه الخصبة وموارده المتنوعة ليطارد شبح الموت أبناءه قتلا أو جوعا حتى علت الصرخات مدوية تنادي بالإسراع لإنقاذ ما تبقى من السودان العربي.

لم تقتصر المجازر على تلك التي يرتكبها المحتل الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني بصورة يومية، وإنما امتدت إلى ذلك البلد الطيب شعبه بعد أن اشتعلت الفتنة بين أهله وتسببت الحرب الأهلية السودانية في حدوث عمليات قتل وإبادة ومحازر بشعة يرتكبها أبناء الوطن الواحد في حق بعضهم البعض ومنها مجزرة قرية ود النورة في ولاية الجزيرة وسط البلاد في شهر يونيو الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من 100 قتيل بالإضافة إلى إصابة المئات.

حينما نجح الشعب السوداني في القيام بثورتهم ضد نظام البشير  كانت الآمال كبيرة في تحقيق أهداف الثورة التي قامت من أجلها في أقرب وقت وأن ينعم الشعب السوداني بجني ثمارها من الرخاء والسلام والعدالة، لكن كثيرا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فسرعان ما تعثرت خطى الثورة ووقع الصدام بين الشعب والجيش. وبعد الاقتراب من تحقيق الحلم في تولي سدة الحكم سلطة مدنية وفق اتفاق شامل بين جميع الأطراف، برعاية عربية ودولية، وقع ما لا يحمد عقباه واشتعل الموقف بصورة سريعة بين ليلة وضحاها وسط تصعيد خطير للأحداث عندما استيقظ السودانيون ليلة الخامس عشر من  إبريل 2023 على أصوات طلقات الرصاص المتبادلة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

المثير في الأمر أن ملايين الضحايا من نازحين ومشردين وقتلى ومصابين هم من يدفعون ثمن الصراع القائم بين قائدين عسكريين على السلطة والنفوذ في البلاد، بعد سقوط نظام البشير ، وهو صراع يرجع لنقطة خلاف أساسية تتعلق بخطة ضمّ قوات الدعم السريع التي يبلغ عددها 100 ألف عنصر، إلى الجيش ومن سيقود القوة الجديدة بعد ذلك. وبينما كانت الآمال معقودة على حلحلة الأزمة بالحوار، فجأة انهار كل شئ وأصبح العنف هو لغة التعامل السائدة بين أنصار الطرفين. وازداد الأمر سوءا مع اتساع رقعة القتال وامتدادها من محيط قصر الرئاسة في العاصمة الخرطوم حيث كانت الشرارة الأولى للأحداث، إلى مناطق أبعد حتى أصبح السودان كله ميدانا للحرب وساحة للإقتتال وصارت مشاهد المجازر تتكرر يوميا نتيجة التصعيد الخطير وما يصاحبه من خراب ودمار ومزيد من الضحايا.

في الفترة الأخيرة شهدت الحرب في السودان تطورات مخيفة أدخلت البلاد في منعطف شديد الخطورة سيما مع استهداف قوات حميدتي لمدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لدارفور، ثم مناطق سنار والنيل الأبيض حيث يوجد مئات الآلاف من اللاجئين النازحين من مناطق الجزيرة المختلفة بعد سقوط مدني في أيدي قوات الدعم السريع وهو الأمر الذي ازدادت معه الأوضاع الإنسانية سوءا خاصة مع استمرار عمليات القصف ومحاولات الاقتحام دون مراعاة للأرواح البريئة التي تتعرض للقتل. ووصلت الأوضاع إلى حد الكارثة لدرجة دفعت مجلس الأمن الدولي لتخصيص جلسة لمناقشة أوضاعها وإصدار قرار يطالب بوقف القتال وانسحاب القوات العسكرية من محيط المدينة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية.

تكشف الأرقام المعلنة في التصريحات الرسمية عن بشاعة الحرب في السودان وما خلفته من أوضاع كارثية حيث بلغت حصيلة قتلى الحرب الأولية 150 ألف قتيلا بحسب ما ذكره المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرييلو، منهم 15 ألف قتيلا سقطوا في منطقة الجنينة وحدها بولاية غرب دارفور وفق تقارير أممية. كما يعاني الناجون من أوضاع غاية في السوء بسبب عدم الاستقرار والبقاء تحت التهديد بصورة دائمة ما أدى إلى وجود 10 مليون نازحا سودانيا داخل وخارج البلاد ممن اضطرتهم الظروف إلى الفرار  بحثا عن الأمان المفقود. وفي ظل هذه المأساة تعالت الصيحات والأصوات الداعية إلى إنقاذ السودان فهل من مجيب؟!

الموقف خطير مع اتساع نطاق الحرب وانهيار الجيش

وفق رؤية براجماتية بحكم خبرتهم العملية يرى المسؤولون السياسيون السابقون في السودان أن الوضع صعب، ومنهم وزير الإعلام السابق فيصل محمد صالح الذي يبدو غير متفائل وقلقا على جيش بلاده ويقول أن الجيش السوداني بدا منهارا بعد أن فقد توازنه وتخلى عن صموده في العديد من المعارك الأخيرة أمام قوات الدعم السريع التي استطاعت السيطرة على مناطق هامة واستراتيجية منها مدينة سنار، ومنطقة جبل موية الاستراتيجية، التي مكنتها من التحكم في تقاطع عدد من الطرق المهمة وذلك قبل سويعات قليلة من سقوط مدينة سنجة في أيديهم ثم وصولهم  لمدينة الدندر، ثم المزموم، وكبري دوبا وذلك بالتوازي مع تحركهم في ولايتي دارفور وكردفان، والعودة لمهاجمة الفاشر، واحتلال منطقة وحامية الميرم في كردفان. ولاشك أن ما حدث خذل السودانيين الذين يدعمون جيش بلادهم وكانوا يظنونه أكثر صمودا قبل أن ينهار بهذه الوتيرة السريعة. لقد كان هناك اعتقاد مرجح  لدى الكثيرين من أبناء الشعب السوداني بأن المعركة محسومة لصالح الجيش ولكن حصول قوات حميدتي على دعم من الخارج ساهم في إطالة أمد الحرب واتساع نطاقها مما خلف عددا كبيرا من الضحايا.

من المحزن أن يشهد السودان هذا الخراب والدمار ويعاني أهله من صعوبة الحال في الوقت الذي يتمتع بمؤهلات ومقدرات اقتصادية كبيرة يمكن أن تضعه في مصاف الدول المتقدمة ذات المستوى الاقتصادي المرتفع، ولكن يبدو أن هذه المؤهلات صارت نقمة عليه لأنها أثارت الأطماع في الاستيلاء عليها.

يتمتع السودان بخيرات ومزايا استراتيجية كثيرة تدفع أطرافا خارجية لمساندة قوات الدعم وفق مصالح مشتركة تتيح لتلك الأطراف الاستفادة بالكنوز السودانية واستغلالها خاصة مناجم الذهب وحقول النحاس واحتياطيات اليورانيوم الكبيرة في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر. يضاف إلى ذلك الرغبة في استغلال الموانئ السودانية المهمة بحكم موقعها الحيوي على البحر الأحمر. وعندما تجتمع الثروات مع الأطماع الخارجية والفساد الداخلي والرغبة في الاستيلاء على السلطة والنفوذ تتراجع مصالح الشعوب ويصبح مستقبل الأوطان على المحك.

مبادرات إقليمية ودولية لإنقاذ السودان

مع الإنتباه لخطورة الوضع وانعكاساته المستقبلية على المنطقة نشطت في الفترة الأخيرة تحركات دبلوماسية وسياسية عربية وإفريقية ودولية أيضا لرأب الصدع والتقريب بين الفرقاء من أجل العمل على وقف الحرب وإنقاذ الشعب السوداني.  فقد استضافت العاصمة المصرية في بدايات شهر يوليو 2024 مؤتمر “معا من أجل وقف الحرب” والذي جاء بعد عدة محاولات إقليمية شهدتها عواصم إفريقية في جيبوتي وأوغندا وإثيوبيا منذ اشتعال الحرب نحو ذات الهدف، ووصف هذا المؤتمر من قبل خبراء بأنه فرصة أخيرة باعتباره كان جامعا لفرقاء السودان لأول مرة منذ اندلاع الحرب. كما جاءت الدعوة لمؤتمر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا تأكيدا لنفس الهدف والذي تزامن مع زيارة تاريخية للرئيس الإثيوبي آبي أحمد لعبد الفتاح البرهان بالسودان وهي الزيارة التي حملت رسالة ضمنية للدعم الإثيوبي للجيش السوداني بعد توتر شاب العلاقة في أعقاب استقبال إثيوبيا لزعيم قوات الدعم السريع في فترة سابقة والترحيب به، وهو يعكس تحولا إيجابيا في الموقف الإثيوبي.

كما فتحت زيارة مسؤول سعودي كبير للسودان مؤخرا آفاق التفاؤل نحو حلحلة الأزمة وقرب انفراجها وذلك لأهمية الدور السعودي الحيوي خاصة وأن زيارة نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، إلى مدينة بورتسودان، التي تعد الأولى لمسؤول سعودي منذ اشتعال الحرب للبلاد، كانت مصحوبة برسالة خطية من الديوان الملكي السعودي.كما تعمل الأمم المتحدة من جانبها على نجاح المفاوضات لدعم الجهود الإنسانية الخاصة بتسهيل وصول المساعدات للمتضررين من القتال وحماية المدنيين.

ومع ذلك توجه الإتهامات للمجتمع الدولي ومؤسساته الأممية بالتخاذل في التعامل مع الحرب السودانية والتواطؤ في التزام الصمت على ما يحدث من جرائم بشعة، وهو ما يؤكده الدكتور الفاتح المهدي – أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعات السودانية – واصفا الصمت الدولي تجاه الممارسات العنيفة لقوات الدعم السريع بأنه “صمت محير” وذلك بالمقارنة بما حدث عندما تم تكثيف القرارات والاجتماعات الأممية لحشد الآلة الدولية لمواجهة حرب دار فور الأولى، وهو ما لم يحدث في الحرب الحالية رغم خطورتها الأشد من حيث اتساع نطاقها وارتفاع عدد ضحاياها.

ما بين ذلك الصمت المحير والتدخل الدولي يثور التساؤل حول كيفية التعاطي مع الأزمة السودانية. إذا كان الصمت مرفوض فإن التدخل المباشر  في السودان محفوف بالمخاطر  وفقا لما أكدته التجارب السابقة حيث ثبت علميا فشل التدخل الدولي في العراق وسوريا وليبيا وغيرها لأنه أدى إلى الفوضى ومزيد من تعقيد الأوضاع بدلا من حلها. وأي تدخل دولي لابد أن يسبقه اتفاق لوقف إطلاق النار والضغط على الأطراف الخارجية الداعمة للمتقاتلين لوقف تقديم الأسلحة لهم. وهو أمر يستلزم استمرار  المبادرات الدولية والإقليمية العاملة على رأب الصدع ودفع المتقاتلين للجلوس على مائدة الحوار، ومن ثم فإن أولى خطوات إنقاذ السودان هي موافقة الفرقاء المتقاتلين على وقف الحرب والبدء في التفاوض السياسي والتخلي عن المطامع التي كانت سببا في الخصومة.

ولاشك أن نتائج المعارك على أرض الواقع ستلعب دورها في توجيه دفة التفاوض بشكل يرسم ملامح جديدة لحكم السودان وإدارته، وهو ما تكشفه الفترة المقبلة.