ترى الروائية والاختصاصية النفسية الأمريكية جودي بالارد أنَ كلمةَ مبدعٍ تُحيلُ إلى حالةٍ نفسيةٍ ومزاجية، لأنَ الإبداعَ هو عملية خلقٍ تتطلبُ الكثيرَ من التأملِ والحساسيةِ الجماليةِ العالية، وهذه الحالةُ التأمليةُ تدعوْ المبدعَ إلى العزلةِ والانزواءْ والتركيز، ومهما كانت الحالة الإبداعية للمبدع، شاعراً أو أديباً أورساماً، فالحالة النفسية تكاد تكون متشابهة وهي تؤدي في الأغلب إلى حالة من الهوس،ويمكن تعريف حالة الهوس تلك بأنها قمة النشاط العقليّ الذي يصل إليه المبدعون في فترة توهجهم العقليّ، مما يستنزف الذهن جراء تدفق كمّ هائل من الصوروالأفكار والأخيّلة، سيتم تفريغها على الصفحات البيضاء التي تشكل متن النص الإبداعيّ وحاملته.
يعتقدُ الكثيرون أن الإعاقة قد تكون حاجزاً بين الإنسان ومحيطه أو تُشكل أزمة بينه وبين وجوده،والحقيقة قد تكون عكس ذلك،إذ أثبتت التجربة بأن قسماً من” ذوي الإعاقات”، يمتلك مواهب عالية مُعوضاً عن جسده أو حواسه الناقصة من خلال الإرادة التي يمتلكها في إثبات النفس والاعتماد على نقاط القوة والحواس البديلة . البعض منهم يستسلم للوحدة والانعزال وتحطيم الذات وإنكارالأمل،أمّا البعض الآخر فينتصر لطموحه من خلال تحدّي الواقع المرير والاندماج في المجتمع بشكل طبيعي،فيسعى جاهداً للتنقيب عن القدرات والمواهب الخفية واكتشافها وتنميتها وتعويض النقص الجسدي والحسّي عن طريق صقل المهارات الفنية والرياضية والثقافية وغيرها .
إن الإبداع ليس مصطلحاً بسيطاً ، فمنهم من ربطه بالجنون ومنهم من اعتبره روحاً أثيرية قادمة من فضاء آخر أو من البرزخ وعالم الجن،ولكن هل يكتمل الإبداع دون صاحبه، وهل الجنون جزء لا يتجزأ من تركيبة المبدع النفسية والجينية؟
إذا كانت سيّر المبدعين تدل على خلل استعصت أسبابه على المحللين والنقاد، فكيف إذا كان هذا الأخير من ذوي الإعاقة وعليه بذل جهود مضاعفة ليترك أثراً وهل علينا ربط المبدع بخصال التفلت والجنون أو اعتبار الحياة مصحاً نفسياً كبيراً يحتاج إلى فلاسفة وشعراء وفنانين يصفونه بألوان وكلمات عبثية،لا تشبه الواقع من قريب أو بعيد .
كلُنا لدينا احتياجاتنا وقلقنا الخاص، أحيانا يصعب علينا فهم ذواتنا،أو تحليل موقف عاطفيّ، كلنا لا نملك إجابات شافية على أسئلة متكررة عبرالزمن،رغم أن التكنولوجيا دخلت إلى اسرتنا واستباحت غرفنا الحميمة.
فكيف بإنسان لديه صعوبة في التّعلم مثل الديسليكسيا أو صعوبة الفهم والتركيزأو تأخر ذهني أو إعاقة أن يندمج مع الواقع ويصبح قادراً على الانجاز العلميّ أو الأدبيّ والانتقال إلى مسارات إبداعية،وكيف لإنسان لديه اعاقة تمنعه من معرفة المحيط والتفاصيل اليومية للحياة،أو القيام بنشاط اعتياديّ بسيط أن يُصبح مُبدعاً ويرى في المرآة الداكنة أفكارًا لا يراها المبصر الحقيقي وكيف لمن لم يلمس الموجودات أن يغرق بشكلها وكيف للأصم أن يلون الألفاظ ويكتشف المعاني الضبابية، ربما عبّر بورخيس عن هذا الصراع حين قال:”عندما أجد أن رغباتي لا يمكن لأيّ شيئ في هذا العالم أن يُرضيها أويُشبعها،أفكر أن التفسيرالمنطقيّ الوحيد لذلك،هوأنّني أنتمي لعالم آخر”.
لا شك أن هذا العالم الآخر يتصل بالخفة والجنون،أو بداخل يُشبه خيال صاحبه وتوقه للفن كمخلص من العالم البديهيّ والملموس، فالحيّز واللون والموسيقى والرقص والكتابة والمسرح فنون تختلط ببعضها وتتسامر حول الموقد في الشتاء، إذ لا يمكننا إبعاد الجسد عن الروح أو الروح عن الجسد لأنهما يعملان كثنائيّ ناجح ويبصران ويلمسان ويختلطان بالدين والرغبة والأساطير ويتنافسان الأول على الخلود والثّاني على الفناء .
من هنا يستطيع “المعوق” من الناحية الجسدية أن يُحلق بروحه،معتمداً على ما يُشبه المس لإيقاظ الحواس الأخرى والاعتماد عليها للنهوض بذاته نحو مسارات جديدة وترك بصمة لا تشبه الوجع المُترتب على مصابه.
يبدو أن هذا العصر معنيّ بشكلٍ مباشر بدعم “ذوي الاحتياجات الخاصة”ودمجهم في المجتمع كعناصر فاعلة،وقد منحهم حقوقاً ووضع أمامهم خيارات كي لا يكونوا على هامش المجتمع وقد أثبت التاريخ صحة هذه النظرية إذ أن الكثيرين من عباقرته تركوا لنا إرثاً ثقافيا وفنياً لا يُستهان به .
وهنا يَحضرني قولٌ لبيكاسوعن الفنانين : ” إنهم يخلعون أجسادهم قبل الشروع في الرسم كما يخلع المسلمون أجسادهم عند أبواب المساجد ” .
إذاً لماذا لا نعتبر أنّنا حين نمتلك شرارة الموهبة وتوقد الخيال فإنّه بإمكاننا التّخلي عن أجسادنا أو أجزاء منها ومبارزة الحياة بعقول متوهجة، فالتعويض هنا يعني استبدال الحاسة المعطوبة بالخيال ومسرحة الأشياء وترميمها وفقاً لإلحاح الدّاخل،وهنا يصبح كل ما هو خارجيّ جزء من” أنا” المبدع التي تعكسها مرآته الدّاخلية على شكل كلمات أو خطوط أوموسيقى هائلة.
إن المرضى النفسيين والمرضى العاديين،هم أيضاً من ذوي الاحتياجات الخاصة،ولديهم قلقهم ووساوسم وأفكارهم الهدّامة عن أنفسهم لذلك فهم يحتاجون إلى العناية والتّدخل، وذلك بهدف مساعدتهم لتخطي الأفكار الانتحارية، وتمكينهم من التفكير بإيجابية من خلال اتخاذ الفن كعلاج بديل عن اليأس والقنوط.
إن الرسام الانطباعيّ هنري ماتيس، كان قد أصبح مُقعداً في آخر حياته فابتكرأسلوبًا جديداً يتلاءم مع طبيعة هذه المرحلة فبدلاً من الرسم بالريشة والألوان لجأ إلى لصق المساحة الملونة لصقًا على اللوحات على طريقة الغرافيتي كونه أصبح ثقيل الحركة،ومن أهم أعمال هذه المرحلة التي شكلت مسارًا جديدًا في الرسم لوحة “حزنُ الملك “. كذلك فإن الرحالة “ماجلان”، وهو بحار برتغالي شهير، كان يعرج عرجاً شديداً دائما، ومع ذلك فقد قام بعدة رحلات بحرية مهمة، ومنها تلك الرحلة التي اكتشف فيها كروية الأرض، وقد وصل الى أقصى جنوب قارة أمريكا الجنوبية، كما عبر المحيط الهادئ وسمّاه بهذا الإسم .
وهنا لا بدّ من الإشارة للعالم البريطاني ستيفن هوكينغ ،الحائز على أعلى منصب أكاديميّ في مجال الرياضيات وهو كرسيّ الرياضيات الذي كان يُشغله العالم الشهير نيوتن،وهذا العالم كان مقعدا يتحرك بواسطة كرسيّ متحرك. لقد أصدر العديد من الكتب منها: تاريخ موجز للزمن وكتاب ثقوب سوداء.
لا بد أن نستذكر في هذا السياق أيضاً شخصيات حققت إنجازات وأعمال أدبية كبرى، رغم ضياع حاسة النظر التي تُعتبرمن أكثر الحواس خطورة بسبب فقدان الصلة بالمرئيات وبخاصة في حال كان العمى بالولادة، فإن المُصاب به لا يستطيع تمييز شكل الأجسام والموجودات أو التعرف الى الظواهر الطبيعية وتحولاتها اللونية الرائعة . فاللون ليس أساسيًا بالنسبة للرسام وحده بل هو عصب الصورة الشعرية وأحد روافدها وهذا ما يظهر في نصوص رامبو وبودلير وأبي نواس. إن حضور الألوان يُخرجها من دلالاتها الواقعية إلى دلالاتها الرمزية، لذلك فإن هوميروس رغم عمّاه استطاع أن يُقدّم الالياذة والاوذيسه التي تزخر باللوحات والمشهديات والمعارك المحسوسة والأماكن والمصائر، كذلك فإن تجربة بشّار بن برد تتّسم بدورها بالشغف والشهوة والاحتفاء بالحياة كما بالمرأة، وربما يبدو قوله الشهير : ” والأذن تعشق قبل العين أحياناً “على المستوى النفسيّ بمثابة تعويض بالسمع عن فقدان البصر، ونجد في شعره الكثير من الانتباه والدّقة ورسم التفاصيل، وقد تميّز بشار باندفاعه وحبه للحياة . أمّا أبا العلاء المعري راح بخلاف بشار يبحث عن الحقيقة في ظلمات نفسه ويعوّض عبر طرح الأسئلة الدّاخلية وأسئلة الوجود الكبرى عن ملامح العالم الخارجيّ ويتعرف عليه من خلال التنقيب والاستبطان .
أمّا بالنسبة لعميد الشّعر العربيّ طه حسين فقد جنح إلى التأمل والتقصّي وإعمال الفكر في حاضر الثقافة وماضيها، فقد خلق طه حسين من عمله قدرة غير عاديّة على النقد والتقويم وإعادة النظر في الحقائق والمُسلمات .
أمّا بورخيس الأرجنتينيّ فقد ذهب في عماه أبعد من الجميع حيث أحلّ القراءة وحدها محل البصر، وينقل ألبرتو مانغويل في كتابه عن بورخيس قول هذا الأخير : ” إن من سخرية القدر كون الله منحه الكتابة والليل في آن واحد.
وهنا تحضرني قصيدة نزار قباني عن طه حسين وهو يُخاطبه قائلاً:
” ضَـوءُ عَـيـنَـيـكَ أَم هُـمَـا نَـجْـمـتَـانِ
كُـلُّـهُـم لَا يــرى، وَأَنْــتَ تَـــرَانِـــــي
ضَــوءُ عَـيـنَـيـكَ أَم حِــوارُ المَــرايَــا
أَمْ هُـمَـا طَــائِـــرانِ يَــحْــتَــرِقَـــانِ
ارمِ نَــظَّـارَتَــيـكَ مَـا أَنـتَ أَعْــمْـــى
إِنَّـمَـا نَـحْــنُ جُــوقــــةُ العميانِ”.
لا يمكننا أن نتكلم عن ذوي الاحتياجات الخاصة دون أن نستذكر بتهوفن الذي أصيب بالصمم في آخر حياته، فأصبح ذا إعاقة ناجمة عن تصلّب الأذن الوسطى بالتوصيف العلميّ. وفي الأمر دلالة كبيرة فللموسيقيّ علاقة ضرورية بحاسة السمع، لكن بيتهوفن حين فقدها بلغ قمّة مجده على الرغم من تداعيات ذلك على حياته النفسية والشخصية. وفي هذه المرحلة بالذات أبدع بيتهوفن بالتأليف السمفوني حيث كتب سيمفونيته الأخيرة وهو أصمّ بالكامل وأدخل فيها الأصوات الأوبرالية الشجيّة مستلهمًا أشعار شيلر الخالدة فتمّ اعتماد هذا المقطع ليكون نشيد الاتحاد الأوروبيّ.
وفي إطار الحديث عن الموسيقى لا بد من الإشارة إلى أندريا أنجل بوتشيلي، الحائز على وسام استحقاق الجمهورية الإيطالية ووسام استحقاق دوارتي وسانشيز وميلا، وهو مغنّي أوبرا إيطالي، وكاتب أغاني ومنتج تسجيلات، صرحت سيلين ديون :” أنّه لو كان للآله صوت غنائيّ، فلا بدّ أن يكون شبيهاً جدّاً بصوت أندريا بوتشيليّ “. كذلك ديفد فوستر فإنّه يعتبر من جهته أن صوت أندريا هو أجمل صوت في العالم .
أصيب بوتشيلي بالزرق الرضخي وأصبح أعمى تماماً في الثانية عشرة ، وعلى الرغم من ذلك سجل ١٥ ألبوماً منفرداً لكل من موسيقى البوب والموسيقى الكلاسيكية ، وأقام عروضاً أوبرالية ، وحاز على عدد لا يُحصى من الجوائز، بالإضافة إلى وسام استحقاق الجمهورية الإيطالية .
أمّا الشيخ إمام فقد أُصيبت عيناه بالرمد، وعلى طريقة طه حسين فقدَ الصبيّ بصره وذهب إلى كتاب القرية لحفظ القرآن وهكذا وجد الصبي الكفيف نفسه في قلب القاهرة الهادر ، ومن حجرته المتواضعة ظل إمام يجول ويصول بالأناشيد الدّينية والأغنيات الحماسيّة والسياسية التي تنتقد الواقع حتى نهاية حياته وقد ترك بصمة كبيرة في عالم الغناء والموسيقى .
إذا كان الرابط بين الموسيقى والأذن نوعاً من المحاكاة والتأمل والتآزر، فكيف لموسيقيّ فقد هذه الحاسة أو فقد أصابعه أن يستبدل حاسته المشلولة بالحلم وأصابعه بالتمتمة لتصبح العلاقة بين الفنان وآلته الموسيقية علاقة شغف ونهاية وقدر، والصلة بينه وبين الحياة خلق من نوع آخر يشبه ما اتهم به الجمهور المفتون عازف الغيتار باغانيني بأنّه تلميذ الشيطان لشدّة جنوحه الابداعيّ، وهذا ما يؤكد الصفات المشتركة بين المبدعين وهي الموهبة .
أخيراً، يبدو أن فقدان حاسة أو عضو من الجسد جزء من تركيبة المبدع النفسية الذي يتكيف مع المتغيرات ويبذل أجزاء منه ليكتمل العمل، فحتى المبدعين الذين لم يفقدوا إحدى الحواس وأجسادهم كانت كاملة،خضعوا للجنوح والجنون ليس بالمعنى السلبيّ، بل بمعنى المزج بين ما هو ما ورائيّ ومتخيل وما هو ماديّ وملموس، لتصبح المعادلة نحتاً في صخر الروح للوصول إلى تجارب إبداعية،ولعلّ صراع المبدع مع ذاته والسماء والإيديولوجيا والفلسفة هي بمثابة تعبير حيّ عن ضريبة الموهبة واتقادها . ويبدو أن صعود القطار يحتاج الى أقدام عارية ومتماسكة، تلك الرحلة من محطة إلى أخرى متصلة بالأحلام وكما يقول يونغ ” سوف تصبح رؤيتك واضحة فقط عندما يمكنك النظر إلى قلبك. من ينظر من الخارج يحلم، من ينظر من الداخل يستيقظ . وفي عبارة أخرى “أنا لست ما حدث لي، أنا ما أختار أن أصبح “. لذلك فإن العائق الوحيد بين الإنسان والنجاح هو نفسه ولا وعيه وأصوات الذكريات وطيف الطفولة فإمّا أن يكون مُعوقاً وهو في كامل صحته،وإمّا أن يكون مبدعاً وإن نقص جسده حاسة أو عضواً، فالتّاريخ يتذكر فقط الصوت المختلف والطاقات التي لا تشبه الّا نفسها ولا ترسم سوى بالشوك مصيرها لتؤكد أن الموهبة ليست نوعاً من الرخاء بل قضية شاقة وطريقاً معبدّاً بالألغام نتيجته زهرة الخلود التي تهرم الأجساد لأجلها بينما تحيى الأرواح على امتداد الأرض والسماء في برزخ المبدعين،حيث تلتحم الفنون في ما يشبه الاحتفال الكونيّ مؤكدة أنّه لولا الفن لما كانت الحياة لتُعاش ولولا المبدعين لما كانت لتكتمل الرؤية.