الاقتصاد العالمي 2026
مع اقتراب نهاية عام شهد “زلازل اقتصادية” متتالية، لم تقتصر على صدمات الطاقة والتضخم المستمر فحسب، بل امتدت لتشمل تحولات جذرية في موازين القوى الجيوسياسية والسياسات التجارية، يستعد العالم لاستقبال عام 2026 وهو على أعتاب مرحلة جديدة تتسم بـالتقلب المفرط وعدم اليقين الهيكلي.
لقد كانت أبرز سمات العام 2025 هي التآكل المتسارع لمبادئ العولمة التي سادت لعقود، مما أدى إلى إحياء قوي لمفهوم الحمائية الاقتصادية. هذا التوجه، الذي تجسد بشكل واضح في تصاعد الإجراءات التجارية الانفرادية، وخصوصاً من قبل الولايات المتحدة في ظل الإدارة الثانية للرئيس دونالد ترامب، يهدّد الآن بتحويل سلاسل الإمداد العالمية إلى ساحة صراع، ويدفع الاقتصاد الدولي نحو توازن أسوأ يتميز بضعف التجارة وارتفاع مستويات التضخم المصاحب لتباطؤ النمو.
وفقًا لآخر تقارير صندوق النقد الدولي الصادرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، أظهر الاقتصاد العالمي في عام 2025 أداءً يتسم بـالمرونة المحدودة وسط بيئة عالمية متقلبة، حيث من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي ليبلغ 3.2 في المائة في نهاية العام الجاري. وقد تم تعديل هذا التوقع صعودياً مقارنة بالتقديرات السابقة (في تقارير يوليو وأبريل)، مما يعكس الأداء الأفضل من المتوقع في النصف الأول من العام.
وفي ظل هذه التطورات، تصبح التوقعات لعام 2026 محفوفة بالحذر، حيث تتضاءل مكاسب المرونة الاقتصادية المستدامة أمام ثقل المخاطر الناجمة عن التجزئة الجيوسياسية واحتمالية السياسات الخاطئة التي قد تعمق الانقسامات وتعرقل التعافي العالمي المنشود.
لقد أثبت الاقتصاد العالمي قدرة على الصمود بعد جائحة كوفيد-19، لكنه يواجه الآن تحديات هيكلية وسياسية تهدد استدامة النمو. ففي الوقت الذي تشير فيه توقعات حديثة إلى مراجعة تصاعدية طفيفة لآفاق النمو على المدى القريب، مدفوعة بمتانة بعض الاقتصادات الكبرى والاستثمار في التكنولوجيا، فإن التوقعات للعام 2026 تحمل حذراً عميقاً، إذ من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي إلى مستوى لا يزال دون الاتجاهات التاريخية.
التباطؤ الحذر

تجمع التقديرات الاقتصادية، بما في ذلك تلك الصادرة عن صندوق النقد الدولي في أحدث تقاريره، على أن عام 2026 سيشهد تباطؤاً في وتيرة النمو العالمي، حتى لو كانت التوقعات الأخيرة أكثر تفاؤلاً بقليل من التقديرات السابقة. وتشير توقعات الصندوق إلى أن النمو العالمي قد يستقر عند حوالي 3.1 في المائة في عام 2026، بعد النمو المتوقع بـ 3.2 في المائة في 2025. هذه الأرقام، على الرغم من أنها تعكس مرونة ملحوظة مقارنة بتوقعات سابقة أكثر تشاؤماً، إلا أنها تؤكد أن الاقتصاد العالمي يتحرك بأقل من سرعته المعتادة.
وفي المقابل، تتوقع وحدة “الإيكونوميست” أن يتباطأ النمو العالمي بشكل أكبر ليصل إلى 2.4 في المائة في عام 2026، وهو أدنى معدل نمو منذ الجائحة. يعكس هذا التباين في الأرقام بين المؤسستين اختلافاً في تقييم الآثار طويلة المدى لعدم اليقين في السياسات.
أما على الصعيد الإقليمي، فيتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الأميركي بـ 2.1 في المائة في 2026، مدعوماً بالاستثمار القوي في الذكاء الاصطناعي، لكن هذا الزخم قد يتأثر سلباً بـالظروف التضخمية الناتجة عن التعريفات.
وفي المقابل، يواجه اقتصاد منطقة اليورو تباطؤًا، بينما قد تشهد الصين نمواً أبطأ، متأثرة بالتوترات التجارية وضعف قطاع العقارات، رغم الجهود الحكومية لتوجيه الاقتصاد نحو الاستهلاك الخاص.
أما اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية، فيتوقع أن تسجل نمواً أعلى بقليل من 4 في المائة، ولكنها تظل عرضة لارتفاع تكاليف الاقتراض وضعف الطلب العالمي على السلع.
حمائية ترامب
تُعد عودة الحمائية التجارية الأميركية في ظل الإدارة الثانية للرئيس دونالد ترامب المحور الأبرز في رسم ملامح المشهد الاقتصادي لعام 2026. فالتطبيق غير المتوقع للتعريفات الجمركية، التي ارتفعت إلى مستويات لم تُشهد في العصر الحديث، يخلق صدمة سلبية على العرض ويُغذي حالة من عدم اليقين في السياسات تضر بالاستثمار العالمي.
يُقر صندوق النقد الدولي بوجود مرونة في الاقتصاد العالمي أمام الصدمة التجارية، ويعزو ذلك إلى الامتناع عن الرد الانتقامي من قبل الشركاء التجاريين، والاتفاقيات الثنائية التي قدمت إعفاءات جزئية، وسرعة الشركات في إعادة توجيه سلاسل الإمداد والاستيراد المسبق للبضائع قبل سريان الرسوم. ولكن الصندوق يحذر من أن التأثير الكامل للتعريفات لا يزال في مراحله الأولى، وأن أي تصعيد إضافي في التوترات التجارية، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، يمكن أن يخفض الناتج العالمي بشكل ملموس في 2026، خاصة مع انحسار تأثيرات “الاستيراد المسبق” التي دعمت التجارة مؤقتاً في 2025.
وترى ” الإيكونوميست” من جهتها، أن هذه السياسات تدفع الاقتصاد العالمي نحو توازن أسوأ، حيث ستؤدي إلى اضطرابات تجارية أشد، وتباطؤ في التجارة العالمية للسلع، مما يضر بالبلدان الأكثر ارتباطاً بالطلب الأميركي. إن الاستقطاب الجيوسياسي والاقتصادي الناجم عن سعي الولايات المتحدة لإعادة التوازن في علاقاتها الاقتصادية والأمنية يهدّد بتفكيك التحالفات التقليدية ويدفع عجلة إعادة الاصطفاف الاقتصادي العالمي.
متاهة القرار في ظل عدم اليقين
تخلق البيئة الحالية تحديات جمة أمام المصارف المركزية وصناع السياسات النقدية. فرغم أن التوقعات تشير إلى استمرار انخفاض أسعار الفائدة قصيرة الأجل عالمياً، خاصة مع قرب انتهاء دورات التشديد النقدي في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا، إلا أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لا يزال يواجه طريقاً وعراً.
يُتوقع أن يخفض الفيدرالي أسعار الفائدة بـ 50 نقطة أساس في 2026 بعد تخفيضات مماثلة في 2025، لكن هذا التخفيف لن يكون سهلاً. إذ أن التطبيق غير المتوقع للتعريفات الأميركية يجعل من الصعب على البنوك المركزية فك شفرة اتجاهات التضخم، نظراً لأن التعريفات الجمركية تمثل صدمة عرض سلبية تدفع أسعار السلع الصاعدة إلى الارتفاع، مما يساهم في ظهور ظروف تضخمية ركودية في الولايات المتحدة. ويحذر صندوق النقد الدولي من أن التضخم الأميركي قد يبقى فوق الهدف، مع ترجيح المخاطر نحو الارتفاع.
كما يبرز خطر سياسي كبير يتمثل في محاولات إدارة ترامب للمساس باستقلالية الاحتياطي الفيدرالي، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع الأسواق المالية ويزيد من تكاليف الاقتراض.
موازين القوى والتكنولوجيا

إلى جانب عدم اليقين في السياسة التجارية، تظل المخاطر الجيوسياسية عاملاً رئيسياً في تحديد آفاق 2026. ومن المتوقع أن يكون صراع المخاطر والمجابهات الجيوسياسية سمة أساسية للمشهد العالمي، مما سيساهم في استمرار علاوات المخاطر المرتفعة واحتمالية صدمات أسعار السلع الأساسية. فرغم الجهود المبذولة، من المتوقع أن تستمر حرب أوكرانيا، مع ترجيح بسيط لاحتمال التوصل إلى اتفاق هش ينهي المرحلة الحركية من الصراع.
وفي المقابل، يبرز الاستثمار في الذكاء الاصطناعي كأحد الفرص السانحة ومحرك أساسي للنمو، لا سيما في الولايات المتحدة، حيث يمثل دعامة حيوية للنمو في مواجهة التباطؤ في قطاعات أخرى.
ويتوقع المحللون استمرار دورة الاستثمار الصاعد في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، مما يعزز قطاعات أشباه الموصلات في آسيا ويدعم مشاريع البنية التحتية في الشرق الأوسط.
وفيما يشير صندوق النقد الدولي إلى أن طفرة الذكاء الاصطناعي تشبه إلى حد ما طفرة الإنترنت في التسعينات، فإنها تمثل خطراً مزدوجاً: فإما أن تدفع أسعار الفائدة الحقيقية للارتفاع وتتطلب تشديداً نقدياً، أو أن تفشل في تبرير التوقعات العالية للأرباح، مما قد يتسبب في تصحيح حاد في الأسواق المالية يؤثر على الاستهلاك والاستقرار المالي.
التحدي الأكبر
في ظل هذه البيئة المتقلبة، التي تتسم بتنافر بين النمو المدعوم بالذكاء الاصطناعي والديون العالمية المتصاعدة – التي يتوقع صندوق النقد الدولي أن تصل نسبتها إلى 96.8 في المائة من الناتج العالمي الإجمالي في 2026 – تبرز الحاجة الملحة إلى استعادة الثقة والاستدامة المالية.
ويُشدد صندوق النقد الدولي على ضرورة أن يركز صناع السياسات على:
- السياسة النقدية: الحفاظ على استقلالية البنوك المركزية والتركيز على استقرار الأسعار في وجه ضبابية التضخم.
- السياسة المالية: تنفيذ ضبط مالي موثوق به على المدى المتوسط لإعادة بناء الهوامش المالية، لا سيما أن العديد من الاقتصادات الكبرى تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب ارتفاع الدين.
- الإصلاحات الهيكلية: مضاعفة الجهود لإحياء نمو الإنتاجية، وتفادي التجزئة، وتعزيز التعاون متعدد الأطراف لضمان استقرار النظام التجاري العالمي.
الأسواق المالية في 2026
تنعكس بيئة الاقتصاد العالمي المتقلبة والمحفوفة بالمخاطر الجيوسياسية والحمائية التجارية بشكل مباشر على الأسواق المالية العالمية، مما يؤدي إلى استمرار ارتفاع علاوات المخاطر في عام 2026. ففي ظل عدم اليقين العميق في السياسات التجارية الأميركية وتأثيرها المربك على تدفقات التجارة وسلاسل القيمة، تجد الأسواق صعوبة بالغة في تسعير الأصول بدقة، مما يزيد من تقلبات السوق.
كما أن التضخم الناجم عن التعريفات الجمركية يخلق حالة من الغموض حول مسار السياسة النقدية الأميركية؛ فإذا اضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول لمواجهة هذا التضخم المستورد، فإن ذلك يرفع تكلفة الاقتراض عالمياً، ويضغط على تقييمات الأسهم ويزيد من مخاطر الديون السيادية للأسواق الناشئة.
إضافة إلى ذلك، فإن الاستقطاب الجيوسياسي يُبقي على احتمالية صدمات أسعار السلع الأساسية، مما يهدد هوامش ربح الشركات ويغذي التقلب في الأسهم والسندات المرتبطة بالمواد الخام، بينما قد تشهد الأسهم المرتبطة بقطاع الذكاء الاصطناعي استمراراً في ارتفاع التقييمات، رغم التحذيرات من خطر حدوث تصحيح حاد في حال لم تتحقق التوقعات الطموحة للأرباح.
ختاماً، إن عام 2026 سيكون اختباراً حقيقياً لصمود الاقتصاد العالمي وقدرة قادته على التعامل مع مزيج من التحولات في التجارة والجغرافيا السياسية، مع الإبقاء على مسار نحو نمو شامل ومستدام وتفادي الوقوع في فخ السياسات الخاطئة في هذا المناخ المتغير بسرعة.
