نوستالجيا عاطفة الأمس- تعيد الاعتبار للتراث والتاريخ

مسرحة المواقع الأثرية بالمغرب مشروع ضخم يخدم السياحة والفنون

عبر اقتفاء أثر خطوات الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة من العصر المريني والجغرافي والمؤرخ بومبونيوس ميلا الروماني، يتنقل جمهور العاصمة الرباط في ردهات الموقع الأثري “شالة”، الذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، في استعادة فنية رائعة لتاريخ هذا الموقع التاريخي المهم، المطل على نهر أبي رقراق، الذي يفصل العاصمة عن مدينة سلا، ومعه تاريخ وحضارة الدولة المغربية الضاربة في القدم، من العهد المريني إلى العهد العلوي، وذلك غي عرض

المخرج المغربي أمين ناسور

فني كبير ومبهر أطلق عليه اسم “نوستالجيا عاطفة الأمس”.

ومن مدخل موقع “شالة”، الذي اختلفت التأويلات حول معنى اسمه الذي يجمع بين اسم الفرس والقوة والخرقة التي يرفع بها القدر أو الشال الذي يلف على الصدر أو الرأس، وبوابته الشهيرة يتتبع الجمهور الرحالة والمؤرخ على مدى ساعة كاملة، ويستمتع بالعروض والمشاهد التمثيلية الحية التي يقدمها طاقم كبير من الفنانين والتقنيين يفوق 300 شخص، ويقرب الزوار من الحضارات التي تعاقبت على هذا الموقع، ويعطي فكرة عن الحياة الثقافية والفنية والفكرية والمعيشية للإنسان المغربي، والبطولات والحروب التي خاضها حتى استقر به الحال مع الأسرة العلوية التي تحكم اليوم المغرب.

تبدأ الحكاية بوصول الرحالة الشهير ابن بطوطة إلى مدخل موقع “شالة” ضمن موكب السلطان المريني أبو عنان ليدفن والده السلطان أبو الحسن في المقبرة المرينية بهذا الموقع التاريخي في القرن 14 ميلادي، حيث يلتقي ابن بطوطة بالمؤرخ الروماني بومبونيوس ميلا، ويشرعا معا في سرد حكاية هذا الموقع التاريخي، الذي أطلق عليه الجغرافي والرحالة العربي محمد بن حوقل اسم “المدينة الأزلية”، وهي إحدى أقدم المدن التاريخية بالمغرب الواقعة على ربوة تطل على نهر أبي رقراق، والتي أثارت بغموضها وشموخها فضول الزائرين، وتفخر بما تحويه أعماقها من أسرار الغابرين، لأنها معبر الحضارات ومقبرة الملوك والشهداء وخلوة الصالحين والعلماء، وأيضا معقل الأساطير والحكايات. وقد مر بها الفينيقيون والقرطاجيون والبيزنطيون والرومان والدول الإسلامية التي حكمت المغرب.

وعبر مشاهد تمثيلية حية أبدع فيها الممثلون المغاربة ومصممو الملابس والديكورات والإضاءة والأغاني وكل السينوغرافيا، يتعرف الجمهور على أجزاء من تاريخ هذا الموقع منها الصراع الذي كان دائرا بين النوميدي يوبا الأول والروماني يوليوس قيصر حول هذا الموقع الجغرافي، وزواج يوبا الثاني وسيليني ابنة الإمبراطورة الرومانية كليوباترا المصرية، وغيرها من الأحداث الإسلامية الأخرى في عهد بني مرين وتحديدا مع السلطان عبد العزيز أبو فارس المريني وحمايته للأديب والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، الذي لجأ إلى المغرب هربا من المؤامرات التي كانت تحاك ضده في قصر الحمراء، وتتهمه بالإلحاد والزندقة والطعن في الشريعة.، إلى أن اغتيل ودفن بمدينة فاس.

ملصق عرض أكادير

وخلال هذه الرحلة الفنية والتاريخية المهمة، يكتشف الجمهور الذي حج بغزارة لاكتشاف هذه العروض والتعرف على هذا الموقع الأثري الشامخ، على الكثير من الحضارات المتعاقبة على تاريخ المغرب، وعلى نمط العيش لدى الرومان والأمازيغ من خلال الألبسة والأطعمة والأنشطة التجارية وأساليب القتال والدور الفاعل للمرأة فيها وفي الحكم، إلى جانب بعض المظاهر الثقافية والفنية والتعليمية والعمرانية الممتدة من العصر الإسلامي إلى فترات حكم المرينيين، وصولا إلى عهد السلطان المولى إسماعيل وملوك الدولة العلوية.

وقد تميز عرض الموقع الأثري “شالة”، بتنوع فقراته الفنية التي تشمل الموسيقى، الرقص، والفن البصري، وغنى المعطيات التاريخية وسلاسة تقديمها للزوار، ما جعل الزوار لا يملون من هذه التجربة الفنية الفريدة في مسرحة المواقع، التي أخذتهم في رحلة ممتعة يستنشقون فيها عبق التاريخ ويستعيدون ذكريات الزمن الجميلة واللحظات العاطفية الآسرة من الماضي، التي تعزز روح الانتماء لهذا الوطن.

انطلقت عروض “نوستالجيا عاطفة الأمس”، المشروع الضخم الذي تقف وراءه وزارة الثقافة والشباب والتواصل بالمغرب بدعم من بعض المؤسسات والجهات المسؤولة عن تدبير المدن، منذ السنة الماضية بإشراف وإخراج المخرج أمين ناسور، ولقيت إقبالا كبيرا من طرف السياح الأجانب والزوار المغاربة، وهو ما دفع بالوزارة إلى التفكير في تعميمها في مختلف المدن المغربية التي تتوفر على مواقع أثرية مهمة، حيث شملت موقعي “قصر البديع” و”قصر الباهية” بمراكش، و”القصبة الأثرية” بشفشاون في شمال المغرب، و”مغارة هرقل” بمدينة طنجة التي عرفت عروضا بتقنيات متطورة تعرف بالإسقاط الضوئي “المابينغ فيديو”، و”الموقع الأثري الأركيولوجي سيدي عبد الرحمان” بالدارالبيضاء، الذي قدمت فيه عروض بمشاهد خيالية تعيد ذكريات الماضي عبر الاعتماد على طائرات بدون طيار “درونات ضوئية” تجمع بين التكنولوجيا الحديثة وسحر الماضي، وموقع “اكادير أوفلا” بمدينة أكادير، في انتظار أن تشمل جميع المواقع الأثرية المهمة بالمغرب.

وتجدر الإشارة إلى أن المواقع الأثرية بالمغرب شهدت فيما قبل مجموعة من العروض الفنية من مثل مشروع “صوت وأضواء فاس” الذي كانت تنظمه مؤسسة “روح فاس” في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يتوقف ويعود من جديد في عام 2018، كما احتضنت عروضا مسرحية كان المسرحي المغربي الراحل الطيب الصديقي سباقا لتقديمها في الموقع الأثري “الأوداية ” بالرباط، ليتلوه عرض مسرحية “إيسلي” وتعني الخطيب أو العريس بالأمازيغية، والذي اختار مخرجها محمود الشاهدي عرضها في المواقع الأثرية بدل المسارح. ناهيك عن تنظيم تظاهرات بها من مثل “مهرجان الجاز بشالة”، الذي تنظمه المفوضية الأوروبية بالمغرب بالموقع الأثري شالة بالرباط، ومهرجان “صيف الأوداية”، ومهرجان الفنون الشعبية بمراكش الذي ينظم بـ “قصر البديع”، وهو أعرق مهرجان بالمغرب، ومهرجان الموسيقى الروحية بمدينة فاس الذي ينظم في الموقع الأثري العسكري “باب الماكينة”.

غير أن هذه العروض المحدودة لم تستثمر هذه المواقع بالشكل الفني اللائق بها، ولم تعرف بها ولا بتاريخها المجيد، مثلما يحدث اليوم مع مشروع “نوستالجيا”، الذي يثمن هذه المآثر التي أولتها وزارة الثقافة المغربية عناية خاصة، حيث تم تصنيفها حديثا في المرتبة 14 عالميا فيما يخص غنى وتنوع التراث المادي، وفي المرتبة الثانية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

حوار

المخرج أمين ناسور:

“نوستالجيا” مصالحة حية مع التاريخ تطمح أن تغطي كل مآثر المغرب

وللتقرب أكثر من هذا المشروع، وجهنا بعض الأسئلة للساهر على إخراجها المخرج أمين ناسور، الذي حقق نجاحات كبيرة عبر عروضه المسرحية في المغرب والعالم العربي، والذي توجت مسرحيته الأخيرة “تكنزة قصة تودة” بالجائزة الكبرى في مهرجان المسرح العربي في دورته لهذا العام بالعراق، وسبق لمسرحيته “شاطارا” أن حصدت مجموع جوائز مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته 29 عام 2022، ومن ضمنها جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل.

+ كيف جاءت فكرة مسرحة المواقع الأثرية بالمغرب، وما الغاية منها؟

++ الفكرة الأصلية هي لمحمد مهدي بنسعيد وزير الشباب والثقافة والتواصل، الذي طرح هذا المشروع منذ توليه مهمة الإشراف على هذا القطاع، وحرص على أن يكون ضمن المشاريع الكبرى التي تشرف عليها الوزارة، حيث تم تكليفي بإخراج العروض الفنية لهذا المشروع، واتفقنا على مجموعة من التفاصيل بإشراف مباشر من مستشار وزير الشباب والثقافة والتواصل المخرج السينمائي يوسف بريطل، فتم تكوين خلية عمل تضم عدة متدخلين، سواء من الوزارة أو الخواص لإنجاز هذا المشروع الطموح.

والغاية من مشروع “نوستالجيا عاطفة الأمس” هو إحياء تاريخ المواقع الأثرية المغربية وإعادة الاعتبار لها، لأن الكثيرين يزورونها كجدران، ولكنهم لا يعرفون تاريخها، وتاريخ الحضارات التي مرت منها. إنها مصالحة حية مع التاريخ بالنسبة إلى زوار هذه المواقع الأثرية التاريخية المغربية.

+ انطلق هذا المشروع منذ العام الماضي وشمل موقع شالة ومواقع بمراكش وشفشاون قبل أن يعود هذا العام إلى شالة من جديد، فهل سيتم الاهتمام بجميع المواقع الأثرية المهمة بالمغرب؟

++ نوستالجيا مشروع طموح وضخم، انطلق منذ العام الماضي، حقق نجاحا مهما في المحطات التي ممرنا منها إلى اليوم في مدن الرباط ومراكش وشفشاون وطنجة والدارالبيضاء وأكادير، مع العلم أننا لم نقدم سوى عروض نموذجية من أجل أن تنخرط المدن التي توجد بها هذه المآثر التاريخية والخواص في هذا المشروع الكبير، الذي ليس شأنا خاصا بوزارة الثقافة فحسب، بل هو شأن وطني يدخل فيه ما هو اقتصادي وسياحي وتاريخي، وبإمكانه أن يخدم البلد على المستوى السياحي والثقافي والاقتصادي.

إن غاية هذا المشروع وطموحه هو أن يصل إلى كل المدن المغربية التي تضم مآثر تاريخية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب الصحراوي المغربي.

+ وما تقييمك لهذه التجربة الفنية الضخمة التي لقيت نجاحا كبيرا؟

++ لا يسعني إلا الافتخار والاعتزاز بهذه التجربة والنجاح الذي حققته، والذي كان فوق المتوقع. غير أن هذا النجاح في العمق ليس وليد الصدفة، بل هو وليد اشتغال واجتهاد كبيرين من طرف فريق كبير وكل الطواقم المشرفة على نوستالجيا، وتشجيع وزير الثقافة كي ننجح في تحقيق هذا المشروع في ضخامته وحلته التي شرفتنا وجعلت كل الزوار أجانب ومغاربة يعتزون بها.

ومن المتوقع أن تشمل هذه العروض الناجحة قريبا مدينة أكادير بجنوب المغرب، حيث يحرص المخرج أمين ناسور المشرف على كل هذه العروض مع وزارة الثقافة المغربية، على إعطاء كل موقع أثري ما يستحقه من الاهتمام، وإبراز الخصوصيات والتنوع الذي تتميز به الثقافة والحضارة المغربية العريقة، كل ذلك برفقة طاقم كبير من المشتغلين في الكتابة التاريخية، ومن التقنيين والفنيين المغاربة، حتى تكون كل العروض التي تستعيد هذا التاريخ في مستوى تطلعات الزوار تقنيا وفنيا ومضمونا.

+ وهل عقدت وزارة الثقافة شراكات مع جهات محلية لإنجاح هذا المشروع الثقافي والفني والسياحي الكبير؟

++ بالفعل فالمشروع أنجز بفضل بعض الشراكات لوزارة الثقافة مع بعض المؤسسات العمومية والخاصة، والتي لم تشمل بعد كل المدن التي تتوفر على مآثر تاريخية مهمة، وهذه هي الغاية لأن ميزانيته ضخمة ولا يمكن لوزارة الثقافة أن تتحملها لوحدها. وهذا هو المسعى الذي ينهجه وزير الثقافة في تدبيره للشأن الثقافي وفي أن تكون للبلد صناعة ثقافية حقيقية.

+ وكم عدد الفنانين والطواقم التقنية المشتغلة عليه؟

++ اشتغل على هذا المشروع الضخم أزيد من 300 فنان وفنانة وطواقم تقنية، وأحيانا كنا نتجاوز هذا العدد بكثير مثلما حدث في موقع شالة. نوستالجيا آلة إنتاجية واقتصادية وفرص اشتغال لمجموعة من الفنانين، سواء من خريجي المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي أو محليين في مختلف المدن، والفنانين الهواة الذين يشاركوننا في هذه الأعمال، وهذا المشروع هو من أضخم الأعمال التي تقدم اليوم بالمغرب.

+ وكمخرج لهذه العروض الفنية ما هي الرؤية الفنية التي اعتمدتها في تقديم هذا العمل؟ وهل استعنت بمتخصصين في التاريخ في إعداد المادة اللازمة للعروض؟

++ الاشتغال على الدراما التاريخية ليس بالعمل الهين، ومزجها بمسرحة المواقع تطلب منا رؤية فيها الكثير من الاجتهاد، ومن خلق تصورات تمزج بين المسرح وتقنيات تستخدم في السينما، والمادة التاريخية. لقد تطلب هذا العمل مجهودا فنيا كبيرا، ومساهمة فعالة من مختلف المشتغلين عليه بما فيهم الفنانين المساهمين في طاقم الإخراج والسينوغرافيا والديكور والملابس أو طاقم الكوريغرافيا، وباقي التقنيات الأخرى، أو الطاقم الفني عموما، هذا ناهيك عن الكتابة التاريخية الني تكلف بها سيناريست متخصص مع الاستعانة بمدققين تاريخيين ومتخصصين من كل المدن التاريخية، وذلك حتى نعطي لكل عرض حقه، ونحترم الحقيقة التاريخية ونحن نقدمها للزوار.

 إنه عمل فني كبير لفريق متكامل من الفنانين والتقنيين والمتخصصين، ونأمل أن يعطي صورة فنية عالية عن تاريخ هذا البلد العريق، ويعيد الاعتبار لمآثره ويصونه ويثمنه بالشكل المطلوب اليوم.

*إعلامية وكاتبة من المغرب

1 المخرج المغربي أمين ناسور 1.

2 المخرج المغربي أمين ناسور.

3 ملصق عرض أكادير.

4 جانب من جمهور عرض شالة بالرباط.

5 ملصق عرض طنجة بمغارة هرقل.

6 من عرض شالة بالرباط 1.

7 من عرض الدارالبيضاء بالدرون 1.

8 من عرض شالة بالرباط

9 من عرض شفشاون 2.

10 من عرض شفشاون

  1. 1 من عرض مراكش 1.

12 من عرض مغارة هرقل بطمجة.

مجلة “الحصاد”

ثقافة

مسرحة المواقع الأثرية بالمغرب مشروع ضخم يخدم السياحة والفنون

“نوستالجيا عاطفة الأمس” تعيد الاعتبار للتراث والتاريخ

المغرب: سعيدة شريف*

عبر اقتفاء أثر خطوات الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة من العصر المريني والجغرافي والمؤرخ بومبونيوس ميلا الروماني، يتنقل جمهور العاصمة الرباط في ردهات الموقع الأثري “شالة”، الذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، في استعادة فنية رائعة لتاريخ هذا الموقع التاريخي المهم، المطل على نهر أبي رقراق، الذي يفصل العاصمة عن مدينة سلا، ومعه تاريخ وحضارة الدولة المغربية الضاربة في القدم، من العهد المريني إلى العهد العلوي، وذلك غي عرض فني كبير ومبهر أطلق عليه اسم “نوستالجيا عاطفة الأمس”.

ومن مدخل موقع “شالة”، الذي اختلفت التأويلات حول معنى اسمه الذي يجمع بين اسم الفرس والقوة والخرقة التي يرفع بها القدر أو الشال الذي يلف على الصدر أو الرأس، وبوابته الشهيرة يتتبع الجمهور الرحالة والمؤرخ على مدى ساعة كاملة، ويستمتع بالعروض والمشاهد التمثيلية الحية التي يقدمها طاقم كبير من الفنانين والتقنيين يفوق 300 شخص، ويقرب الزوار من الحضارات التي تعاقبت على هذا الموقع، ويعطي فكرة عن الحياة الثقافية والفنية والفكرية والمعيشية للإنسان المغربي، والبطولات والحروب التي خاضها حتى استقر به الحال مع الأسرة العلوية التي تحكم اليوم المغرب.

تبدأ الحكاية بوصول الرحالة الشهير ابن بطوطة إلى مدخل موقع “شالة” ضمن موكب السلطان المريني أبو عنان ليدفن والده السلطان أبو الحسن في المقبرة المرينية بهذا الموقع التاريخي في القرن 14 ميلادي، حيث يلتقي ابن بطوطة بالمؤرخ الروماني بومبونيوس ميلا، ويشرعا معا في سرد حكاية هذا الموقع التاريخي، الذي أطلق عليه الجغرافي والرحالة العربي محمد بن حوقل اسم “المدينة الأزلية”، وهي إحدى أقدم المدن التاريخية بالمغرب الواقعة على ربوة تطل على نهر أبي رقراق، والتي أثارت بغموضها وشموخها فضول الزائرين، وتفخر بما تحويه أعماقها من أسرار الغابرين، لأنها معبر الحضارات ومقبرة الملوك والشهداء وخلوة الصالحين والعلماء، وأيضا معقل الأساطير والحكايات. وقد مر بها الفينيقيون والقرطاجيون والبيزنطيون والرومان والدول الإسلامية التي حكمت المغرب.

وعبر مشاهد تمثيلية حية أبدع فيها الممثلون المغاربة ومصممو الملابس والديكورات والإضاءة والأغاني وكل السينوغرافيا، يتعرف الجمهور على أجزاء من تاريخ هذا الموقع منها الصراع الذي كان دائرا بين النوميدي يوبا الأول والروماني يوليوس قيصر حول هذا الموقع الجغرافي، وزواج يوبا الثاني وسيليني ابنة الإمبراطورة الرومانية كليوباترا المصرية، وغيرها من الأحداث الإسلامية الأخرى في عهد بني مرين وتحديدا مع السلطان عبد العزيز أبو فارس المريني وحمايته للأديب والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، الذي لجأ إلى المغرب هربا من المؤامرات التي كانت تحاك ضده في قصر الحمراء، وتتهمه بالإلحاد والزندقة والطعن في الشريعة.، إلى أن اغتيل ودفن بمدينة فاس.

وخلال هذه الرحلة الفنية والتاريخية المهمة، يكتشف الجمهور الذي حج بغزارة لاكتشاف هذه العروض والتعرف على هذا الموقع الأثري الشامخ، على الكثير من الحضارات المتعاقبة على تاريخ المغرب، وعلى نمط العيش لدى الرومان والأمازيغ من خلال الألبسة والأطعمة والأنشطة التجارية وأساليب القتال والدور الفاعل للمرأة فيها وفي الحكم، إلى جانب بعض المظاهر الثقافية والفنية والتعليمية والعمرانية الممتدة من العصر الإسلامي إلى فترات حكم المرينيين، وصولا إلى عهد السلطان المولى إسماعيل وملوك الدولة العلوية.

وقد تميز عرض الموقع الأثري “شالة”، بتنوع فقراته الفنية التي تشمل الموسيقى، الرقص، والفن البصري، وغنى المعطيات التاريخية وسلاسة تقديمها للزوار، ما جعل الزوار لا يملون من هذه التجربة الفنية الفريدة في مسرحة المواقع، التي أخذتهم في رحلة ممتعة يستنشقون فيها عبق التاريخ ويستعيدون ذكريات الزمن الجميلة واللحظات العاطفية الآسرة من الماضي، التي تعزز روح الانتماء لهذا الوطن.

انطلقت عروض “نوستالجيا عاطفة الأمس”، المشروع الضخم الذي تقف وراءه وزارة الثقافة والشباب والتواصل بالمغرب بدعم من بعض المؤسسات والجهات المسؤولة عن تدبير المدن، منذ السنة الماضية بإشراف وإخراج المخرج أمين ناسور، ولقيت إقبالا كبيرا من طرف السياح الأجانب والزوار المغاربة، وهو ما دفع بالوزارة إلى التفكير في تعميمها في مختلف المدن المغربية التي تتوفر على مواقع أثرية مهمة، حيث شملت موقعي “قصر البديع” و”قصر الباهية” بمراكش، و”القصبة الأثرية” بشفشاون في شمال المغرب، و”مغارة هرقل” بمدينة طنجة التي عرفت عروضا بتقنيات متطورة تعرف بالإسقاط الضوئي “المابينغ فيديو”، و”الموقع الأثري الأركيولوجي سيدي عبد الرحمان” بالدارالبيضاء، الذي قدمت فيه عروض بمشاهد خيالية تعيد ذكريات الماضي عبر الاعتماد على طائرات بدون طيار “درونات ضوئية” تجمع بين التكنولوجيا الحديثة وسحر الماضي، وموقع “اكادير أوفلا” بمدينة أكادير، في انتظار أن تشمل جميع المواقع الأثرية المهمة بالمغرب.

وتجدر الإشارة إلى أن المواقع الأثرية بالمغرب شهدت فيما قبل مجموعة من العروض الفنية من مثل مشروع “صوت وأضواء فاس” الذي كانت تنظمه مؤسسة “روح فاس” في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يتوقف ويعود من جديد في عام 2018، كما احتضنت عروضا مسرحية كان المسرحي المغربي الراحل الطيب الصديقي سباقا لتقديمها في الموقع الأثري “الأوداية ” بالرباط، ليتلوه عرض مسرحية “إيسلي” وتعني الخطيب أو العريس بالأمازيغية، والذي اختار مخرجها محمود الشاهدي عرضها في المواقع الأثرية بدل المسارح. ناهيك عن تنظيم تظاهرات بها من مثل “مهرجان الجاز بشالة”، الذي تنظمه المفوضية الأوروبية بالمغرب بالموقع الأثري شالة بالرباط، ومهرجان “صيف الأوداية”، ومهرجان الفنون الشعبية بمراكش الذي ينظم بـ “قصر البديع”، وهو أعرق مهرجان بالمغرب، ومهرجان الموسيقى الروحية بمدينة فاس الذي ينظم في الموقع الأثري العسكري “باب الماكينة”.

غير أن هذه العروض المحدودة لم تستثمر هذه المواقع بالشكل الفني اللائق بها، ولم تعرف بها ولا بتاريخها المجيد، مثلما يحدث اليوم مع مشروع “نوستالجيا”، الذي يثمن هذه المآثر التي أولتها وزارة الثقافة المغربية عناية خاصة، حيث تم تصنيفها حديثا في المرتبة 14 عالميا فيما يخص غنى وتنوع التراث المادي، وفي المرتبة الثانية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

حوار

المخرج أمين ناسور:

“نوستالجيا” مصالحة حية مع التاريخ تطمح أن تغطي كل مآثر المغرب

وللتقرب أكثر من هذا المشروع، وجهنا بعض الأسئلة للساهر على إخراجها المخرج أمين ناسور، الذي حقق نجاحات كبيرة عبر عروضه المسرحية في المغرب والعالم العربي، والذي توجت مسرحيته الأخيرة “تكنزة قصة تودة” بالجائزة الكبرى في مهرجان المسرح العربي في دورته لهذا العام بالعراق، وسبق لمسرحيته “شاطارا” أن حصدت مجموع جوائز مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته 29 عام 2022، ومن ضمنها جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل.

+ كيف جاءت فكرة مسرحة المواقع الأثرية بالمغرب، وما الغاية منها؟

++ الفكرة الأصلية هي لمحمد مهدي بنسعيد وزير الشباب والثقافة والتواصل، الذي طرح هذا المشروع منذ توليه مهمة الإشراف على هذا القطاع، وحرص على أن يكون ضمن المشاريع الكبرى التي تشرف عليها الوزارة، حيث تم تكليفي بإخراج العروض الفنية لهذا المشروع، واتفقنا على مجموعة من التفاصيل بإشراف مباشر من مستشار وزير الشباب والثقافة والتواصل المخرج السينمائي يوسف بريطل، فتم تكوين خلية عمل تضم عدة متدخلين، سواء من الوزارة أو الخواص لإنجاز هذا المشروع الطموح.

والغاية من مشروع “نوستالجيا عاطفة الأمس” هو إحياء تاريخ المواقع الأثرية المغربية وإعادة الاعتبار لها، لأن الكثيرين يزورونها كجدران، ولكنهم لا يعرفون تاريخها، وتاريخ الحضارات التي مرت منها. إنها مصالحة حية مع التاريخ بالنسبة إلى زوار هذه المواقع الأثرية التاريخية المغربية.

+ انطلق هذا المشروع منذ العام الماضي وشمل موقع شالة ومواقع بمراكش وشفشاون قبل أن يعود هذا العام إلى شالة من جديد، فهل سيتم الاهتمام بجميع المواقع الأثرية المهمة بالمغرب؟

++ نوستالجيا مشروع طموح وضخم، انطلق منذ العام الماضي، حقق نجاحا مهما في المحطات التي ممرنا منها إلى اليوم في مدن الرباط ومراكش وشفشاون وطنجة والدارالبيضاء وأكادير، مع العلم أننا لم نقدم سوى عروض نموذجية من أجل أن تنخرط المدن التي توجد بها هذه المآثر التاريخية والخواص في هذا المشروع الكبير، الذي ليس شأنا خاصا بوزارة الثقافة فحسب، بل هو شأن وطني يدخل فيه ما هو اقتصادي وسياحي وتاريخي، وبإمكانه أن يخدم البلد على المستوى السياحي والثقافي والاقتصادي.

إن غاية هذا المشروع وطموحه هو أن يصل إلى كل المدن المغربية التي تضم مآثر تاريخية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب الصحراوي المغربي.

+ وما تقييمك لهذه التجربة الفنية الضخمة التي لقيت نجاحا كبيرا؟

++ لا يسعني إلا الافتخار والاعتزاز بهذه التجربة والنجاح الذي حققته، والذي كان فوق المتوقع. غير أن هذا النجاح في العمق ليس وليد الصدفة، بل هو وليد اشتغال واجتهاد كبيرين من طرف فريق كبير وكل الطواقم المشرفة على نوستالجيا، وتشجيع وزير الثقافة كي ننجح في تحقيق هذا المشروع في ضخامته وحلته التي شرفتنا وجعلت كل الزوار أجانب ومغاربة يعتزون بها.

ومن المتوقع أن تشمل هذه العروض الناجحة قريبا مدينة أكادير بجنوب المغرب، حيث يحرص المخرج أمين ناسور

من عرض شفشاون

المشرف على كل هذه العروض مع وزارة الثقافة المغربية، على إعطاء كل موقع أثري ما يستحقه من الاهتمام، وإبراز الخصوصيات والتنوع الذي تتميز به الثقافة والحضارة المغربية العريقة، كل ذلك برفقة طاقم كبير من المشتغلين في الكتابة التاريخية، ومن التقنيين والفنيين المغاربة، حتى تكون كل العروض التي تستعيد هذا التاريخ في مستوى تطلعات الزوار تقنيا وفنيا ومضمونا.

+ وهل عقدت وزارة الثقافة شراكات مع جهات محلية لإنجاح هذا المشروع الثقافي والفني والسياحي الكبير؟

++ بالفعل فالمشروع أنجز بفضل بعض الشراكات لوزارة الثقافة مع بعض المؤسسات العمومية والخاصة، والتي لم تشمل بعد كل المدن التي تتوفر على مآثر تاريخية مهمة، وهذه هي الغاية لأن ميزانيته ضخمة ولا يمكن لوزارة الثقافة أن تتحملها لوحدها. وهذا هو المسعى الذي ينهجه وزير الثقافة في تدبيره للشأن الثقافي وفي أن تكون للبلد صناعة ثقافية حقيقية.

+ وكم عدد الفنانين والطواقم التقنية المشتغلة عليه؟

++ اشتغل على هذا المشروع الضخم أزيد من 300 فنان وفنانة وطواقم تقنية، وأحيانا كنا نتجاوز هذا العدد بكثير مثلما حدث في موقع شالة. نوستالجيا آلة إنتاجية واقتصادية وفرص اشتغال لمجموعة من الفنانين، سواء من خريجي المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي أو محليين في مختلف المدن، والفنانين الهواة الذين يشاركوننا في هذه الأعمال، وهذا المشروع هو من أضخم الأعمال التي تقدم اليوم بالمغرب.

+ وكمخرج لهذه العروض الفنية ما هي الرؤية الفنية التي اعتمدتها في تقديم هذا العمل؟ وهل استعنت بمتخصصين في التاريخ في إعداد المادة اللازمة للعروض؟

++ الاشتغال على الدراما التاريخية ليس بالعمل الهين، ومزجها بمسرحة المواقع تطلب منا رؤية فيها الكثير من الاجتهاد، ومن خلق تصورات تمزج بين المسرح وتقنيات تستخدم في السينما، والمادة التاريخية. لقد تطلب هذا العمل مجهودا فنيا كبيرا، ومساهمة فعالة من مختلف المشتغلين عليه بما فيهم الفنانين المساهمين في طاقم الإخراج والسينوغرافيا والديكور والملابس أو طاقم الكوريغرافيا، وباقي التقنيات الأخرى، أو الطاقم الفني عموما، هذا ناهيك عن الكتابة التاريخية الني تكلف بها سيناريست متخصص مع الاستعانة بمدققين تاريخيين ومتخصصين من كل المدن التاريخية، وذلك حتى نعطي لكل عرض حقه، ونحترم الحقيقة التاريخية ونحن نقدمها للزوار.

 إنه عمل فني كبير لفريق متكامل من الفنانين والتقنيين والمتخصصين، ونأمل أن يعطي صورة فنية عالية عن تاريخ هذا البلد العريق، ويعيد الاعتبار لمآثره ويصونه ويثمنه بالشكل المطلوب اليوم.