هل باتت أمريكا على أعتاب ربيع جديد؟

مع اجتياح تسونامي الاحتجاجات الطلابية لجامعاتها اعتراضا على حرب غزة:

“لقد جئت إلى هنا ورأيت رجلاً ضخمًا يلقي أحد طلابنا على الأرض ويضغط على رقبته ويحتمل أن يخنقه مما يتسبب في إصابة تهدد حياته.. ولذلك ضربته على رأسه وأمسكوا بي، وألقوا بي على الأرض واعتقلوني وجرحوا ذراعي.. إن أولئك الذين بدأوا الاحتجاج كانوا هناك من أجل التضامن مع فلسطين..”  هكذا وصفت البروفيسورة الأمريكية كارولين فوهلين أستاذة الاقتصاد بجامعة إيموري مشاهداتها عن الممارسات الشرطية تجاه الطلاب لمجرد تعبيرهم عن الإحتجاج على الإجرام الصهيوني في حرب غزة. وهي شهادة تفضح زيف الديمقراطية الأمريكية التي يروجون لها في كل العالم.

المشهد يبدو خطيرا بل وصادما .. بدأ باحتجاجات غاضبة ومظاهرات للتنديد بالممارسات الإجرامية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، تحولت إلى أحداث عنف سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم داخل عشرات الجامعات وسط أجواء من التصعيد الخطير الذي وصل إلى استعانة رئيسة إحدى الجامعات برجال الأمن لفض اعتصامات طلابية بالقوة في سابقة خطيرة داخل الحرم الجامعي في دولة تدعي أنها قبلة الديمقراطية وحصن للدفاع عن حقوق الإنسان التي تتناساها في ازدواجية قبيحة حينما يكون صاحب الحق عربيا!

ديمقراطية زائفة وازدواجية في المعايير

إن ظهور عناصر شرطية مقنعة وأخرى تسير فوق الجياد لتنتهك حرمات الجامعات في مطاردة الطلاب الذين يمارسون حقهم الشرعي في التعبير عن رأيهم ومواقفهم السياسية، ومواجهتهم بمسدسات الصعق وسط موجة اعتقالات جماعية طالت أكثر من 2300 متظاهر خلال المظاهرات الطلابية في أيام قليلة..أمر صادم بالتأكيد!! والمسألة لم تقتصر على عنف الشرطة تجاه الطلاب إنما امتدت إلى احتجاز أساتذة الجامعة بحسب تقارير من محطات أمريكية كبيرة كشفت عن اعتقال عدد من الأساتذة الجامعيين من قبل سلطات إنفاذ القانون في ولاية جورجيا منهم إيموري كارولين فوهلين أستاذة الاقتصاد بالجامعة ونويل مكافي ورئيسة قسم الفلسفة بالكلية.

من يتابع تلك المشاهد عبر الشاشات والمواقع الإلكترونية يظن في بداية الأمر أنها تجري في بلاد متخلفة واستبدادية من العالم الثالث تسيطر عليها القبضة الأمنية ولا تعرف للديمقراطية معنى ولا سبيلا، ولكن المثير في الأمر أنها حدثت في بلد تنصب نفسها كعبة للديمقراطية ومحرابا للدفاع عن حقوق الإنسان ونبراسا للحضارة الإنسانية الراقية، فأي رقي وأي حضارة وأي ديمقراطية في ظل العنف الشرطي وعمليات الاعتقال القسرية لعشرات الطلاب والتضييق الأمني على حق التعبير عن الرأي وتعمد التكتم والتعتيم بإعاقة الإعلاميين عن القيام بدورهم في تغطية الأحداث وفضح الكذبة الأمريكية الكبيرة، وذلك كما حدث  في محاصرة قوات الأمن الأميركية الطلاب المحتجين في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ومنع وسائل الإعلام من تغطية أنشطتهم، للضغط عليهم لإنهاء الاعتصام المناهض للحرب على غزة.

لاشك أن تعامل الأمن مع تلك الاحتجاجات الطلابية السلمية التي تأتي في إطار القوانين والحريات التي ابتدعتها “دولة المؤسسات الأمريكية” وطالما استغلتها كثيرا وهي تتخذها مبررا للتدخل في شئون الدول “المارقة” من وجهة نظرها، كشف عن ازدواجية خطيرة وانحراف عن الشعارات الديمقراطية البراقة التي يرفعها ساكنو البيت الأبيض.

وقد عبر كتاب ومحللون غربيون عن دعمهم وتأييدهم لهذه المظاهرات وامتعاضهم من موقف الأمن منهم كاس مود أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورجيا الذي كتب مقالا في صحيفة الجارديان البريطانية بعنوان “لماذا تواجه الجامعات الأمريكية موجة قمع في أرض الحريّة؟” أعرب فيه عن حالة الصدمة التي أصابت الجميع من الممارسات الأمنية وهم يعتقلون الطلاب والأساتذة المحتجين سلمياً في حرم الجامعات الأمريكية. وقال إن الولايات المتحدة أو ما تسمى “أرض الحرية وموطن الشجعان” لا تبدو حرة ولا شجاعةــ باستثناء المتظاهرين الشجعان الذين يواصلون الوقوف في وجه قمع الدولة والجامعات”!

وفي مقابلة صحفية قال غريغوري باين، رئيس قسم دراسات الاتصال  بجامعة إيمرسون بولاية بوسطن الأمريكية، إننا “نعاصر فترة انقسام كما حدث عام 1970 حيث نعاني من فشل في القيادة من القمة إلى القاع”.

شرارة كولومبيا وتمثال جورج واشنطن

لقد أدت فظاعة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة إلى زلزلة عرش الديمقراطية الأمريكية ووضعتها على المحك أمام تسونامي الغضب الطلابي الذي اجتاح الجامعات الأمريكية وانتقلت عدواه إلى الشارع الأمريكي بانتشار المظاهرات الداعمة لفلسطين وقضيتها العادلة في كل مكان للمطالبة برفع الظلم ووقف مخطط الإبادة الذي يمارسه الإحتلال الصهيوني في فلسطين. وعلى الرغم من بشاعة ما يتعرض له الفلسطينيون من حرب إبادة وتدمير، إلا أنه ساهم في إحياء قضيتهم العادلة من جديد وإعادة النظر لدى كثير من الشعوب الغربية لتقييم الأوضاع بصورة مختلفة بعيدا عن التحيز الأعمى لحكوماتهم للمحتل الغاصب. ولاشك أن مواقف الطلاب في الجامعات الأمريكية تعكس هذا التغير وما يحدث هو جزء من صحوة شبابية خطيرة وضعت مستقبل الإدارة الأمريكية الحالية ومصيرها في الإنتخابات المقبلة على المحك.

بدأت الأمور طبيعية من قيام طلاب بالجامعات بالتعبير عن مواقفهم من الجرائم الإسرائيلية في غزة ولكن تعامل الشرطة بعنف استفز المزيد من الطلاب والأساتذة الجامعيين ولفت النظر إلى عدالة القضية الفلسطينية وضرورة الدفاع عنها وانطلقت الشرارة من جامعة كولومبيا وسط حالة من التصعيد الخطير للأحداث بدت ملامحه في باقي الجامعات بل وانطلقت إلى الشوارع والميادين المختلفة لتتسع دائرة الإحتجاجات فيما يشبه ثورات الربيع العربي التي دعمتها أمريكا كثيرا خلال السنوات الماضية، فهل باتت أمريكا على أعتاب ربيع جديد تمر فيه بمرحلة مفصلية في تاريخها غير العريق؟

على الرغم من انطلاق العديد من الفعاليات الاحتجاجية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية حرب غزة، إلا أن أحداث جامعة كولومبيا  الأخيرة كانت الشرارة الأكبر التي انتشرت نيرانها إلى باقي الجامعات الأمريكية في حالة غير مسبوقة منذ أحداث حرب فيتنام في الستينيات من القرن الماضي، وذلك بعدما تدخلت الشرطة وقامت باعتقال وتوقيف المئات من الطلاب وأساتذتهم. وانتشر الاحتشاد الطلابي في مختلف الجامعات بين تظاهرات واعتصامات لمطالبة رئيسهم بايدن بالتوقف عن دعم إسرائيل في إبادتها للفلسطينيين وسحب استثمارات بلادهم من الشركات التي تدعم الحكومة الإسرائيلية، مثل شركات توريد الأسلحة. وتضامن أعضاء من هيئة التدريس بجامعة كولومبيا مع الطلاب ونظموا إضرابا عن العمل بشكل اضطر الجامعة لاتخاذ قرار استئناف الطلاب للدراسة عن بعد.

تحت شعار “فلسطين حرة” و”أوقفوا الدعم لإسرائيل”امتدت الاحتجاجات والاعتصامات خلال فترة وجيزة إلى جامعات أخرى منها ييل وأريزونا ودنفر وإيموري وجورج واشنطن وولاية أوهايو وجنوب كاليفورنيا وتكساس ونيويورك وهو ما اعتبره بعض المسؤولين أمرا غير منظم يتطلب استدعاء الشرطة التي قامت بمداهمات لمخيمات الطلاب المعتصمين واعتقالهم. ووصلت هذه الاحتجاجات إلى الفعاليات الطلابية في حفلات التخرج. على شاكلة ما جرى في كولومبيا، اتخذت جامعات أمريكية أخرى مواقف عنيفة ضد المحتجين مستعينة برجال الأمن كما فعلت شرطة نيويورك التي أوقفت 44 شخصاً من المتظاهرين في حرم جامعة “ذي نيو سكول” The New School، بعدما أغلقوا مبنييْن ومنعوا الطلّاب والهيئة التعليمية من الالتحاق بالفصول الدراسية. وتكرر سيناريو مشابه في معهد شيكاغو للفنون حيث ألقت الشرطة الأمريكية القبض على ما يقرب من 50 طالبا كانوا يشاركون في احتجاج مقام بحديقة نورث غاردن” التابعة للمعهد

هذا الغضب يعيد للأذهان احتجاجات 2020 التي ضج بها الشارع الأمريكي على خلفية مقتل رجل أسود يدعى فلويد على ضابط شرطة أبيض يضغط بركبته على رقبته لما يقرب من تسع دقائق، حتى مات. إلا أن التظاهرات الطلابية الأخيرة في الجامعات الأمريكية تعد مختلفة واستثنائية في الدولة “الديمقراطية الكبيرة” لما تخللها من أحداث عنف وممارسات شرطية تشبه تلك التي وقعت لقمع مظاهرات الأمريكيين ضد حرب فيتنام عام 1968، وتعيد ذكريات الشعب الأمريكي الأليمة عند مقتل طلاب برصاص الحرس الوطني عام 1970 لاعتراضهم على تلك الحرب.

رمزية عالية عكسها ذلك المشهد الرائع حينما اكتسى تمثال جورج واشنطن في الجامعة التي تحمل اسمه بالعلم الفلسطيني الذي أحضره الطلاب المحتجون قبل أن ينصبوا خيامهم للاعتصام أمام التمثال تأكيدا على دعم القضية الفلسطينية في مواجهة الظلم والعدوان الإسرائيلي، وهو المشهد الذي آثار ردود أفعال واسعة خاصة وأنها جاءت في أعقاب حادث مثير وملفت للأنظار حينما أقدم طيار أمريكي يدعى أرون بوشنل على حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية على غزة، وكان يهتف “فلسطين حرة” وهو يصارع الموت حرقا. ولاشك أن هذه الواقعة لها تأثيرها في المجتمع الأمريكي، رغم تعمد الأجهزة الأمريكية تجاهلها بالصمت، وأثارت اهتمام الرأي العام هناك لدرجة أن  السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز قال عنها: “من الواضح أنها مأساة مروعة، لكنني أعتقد أنها تعبر عن عمق اليأس الذي يشعر به الكثير من الناس الآن بشأن الكارثة الإنسانية التي تحدث في غزة، وأنا أشاركهم هذه المخاوف العميقة”!

شهداء فلسطين وانتخابات الرئاسة الأمريكية

ما يقرب من 40 ألف شهيد و100 ألف جريح من النساء والأطفال خلفتهم الحرب الإسرائيلية على مدار ثمانية أشهر بعد عملية طوفان الأقصى، كانت كفيلة بإثارة حالة من السخط العام في أمريكا وشتى أنحاء العالم، وقد نشطت أكثر بعد أحداث جامعة كولومبيا خاصة في الدول الأوروبية. وذلك للإعتراض على دعمها مع بريطانيا وفرنسا لإسرائيل والتسبب في استمرار الحرب على قطاع غزة. لم يكن الطيار الأمريكي وحده هو الغاضب وكما أشعل النار في نفسه اشتعل الغضب العام ولم تكن الجامعات وحدها هي ساحة الاحتجاجات حيث امتدت موجاتها لشتى المدن والميادين والشوارع وتجاوز تأثيرها إلى مدى واسع انعكس جليا على الإنتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطية في وقت سابق عندما تم تنظيم حركة “غير ملتزم” السياسية المناهضة لسياسة الرئيس الأمريكي ودعمه لحرب إسرائيل على غزة مما يعد مؤشرا على افتقاد بايدن لأصوات الشباب الذين كانوا سببا في نجاحه في الانتخابات السابقة.

لاشك أن هذه الوقائع تتضمن رسالة قوية فحواها رفض الجيل الجديد وتمرده على السياسات المنحازة وغير العادلة لحكام بلادهم تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته التاريخية بشكل ينعكس إيجابيا في حدوث تغييرات مفصلية لصالحها.

والمثير في الأمر أن الاحتجاجات الأمريكية المؤيدة للفلسطينيين جذبت طلابا وأعضاء بهيئة التدريس من خلفيات مختلفة تشمل الديانتين الإسلامية واليهودية منها جماعة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”الصوت اليهودي من أجل السلام”. ما يؤكد أن الدفاع عن الحق الفلسطيني لا علاقة له بالإساءة لليهود كما يزعم البعض ممن يريدون تشويه صورة المناضلين من أجل قضيتهم.

لاشك أن هذه الأحداث تضع الإدارة الأمريكية الحالية في حرج كبير خاصة مع اقتراب موسم الانتخابات الرئاسية الأمر الذي يدفعها لمحاولة السيطرة والإلتفاف على الاحتجاجات الطلابية من خلال وضع عراقيل وموانع للحيلولة دون ارتفاع الأصوات المؤيدة للحق الفلسطيني. وفي هذا الإطار  أقر مجلس النواب الأمريكي بأغلبية كبيرة مشروع قانون يرمي إلى توسيع التعريف المعتمد في وزارة التعليم لمصطلح معاداة السامية، وهي الخطوة التي أثارت جدلا واسعا في الرأي العام الأمريكي الذي ينقسم بين التأييد للمشروع بزعم حمايته لحقوق اليهود والحد من انتشار معاداة السامية، والرفض خوفا من توظيفه سياسيا لقمع الحقوق والحريات ومنع انتقاد المسؤولين الإسرائيليين.

ومع ذلك فلن يتراجع صوت الحق مهما انحرفت الديمقراطية نحو قوانين متحيزة للظالم المعتدي، أو إجراءات تكرس لإحكام “القبضة الأمنية” تحت شعارات مزعومة. بعد ثبوت فشل إدارة بايدن في التعاطي بعدالة مع الأحداث وفشل سابقيه من الحكام الأمريكيين في نفس المهمة، أصبح الرهان على الشعب الأمريكي نفسه، خاصة فئة الشباب التي تشهد تغيرات كبيرة في التوجهات نحو القضايا العربية مع زيادة الوعي والإدراك بالحقائق بعيدا عن الزيف الإعلامي.

رياح غزة .. وربيع أمريكي

في دراسة للمستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة المصري بعنوان: “أمريكا تشهد نسختها الخاصة من الربيع العربي..الجامعات الأمريكية تنتفض لفلسطين ضد إسرائيل” يقول أن هذه الاحتجاجات كشفت عن انقسام كبير  بين الأجيال في أمريكا فيما يتعلق بشعبية الكيان الصهيوني وأن الأصغر سنا أي الشباب يمتلكون رؤية أكثر عدلا للقضية الفلسطينية من الأجيال السابقة بل ويدعون لإنقاذ تلك العدالة المفقودة في تعاطي الإدارة الأمريكية مع القضية وأنهم نجحوا في التأثير بقوة على الرأي العام العالمي. كما أشار إلى دعم كلية الديمقراطيين الأمريكيين (CDA) المنظمة الطلابية التابعة للحزب الديمقراطي، وإشادتها في بيان رسمي بطلاب الجامعات المشاركين في الاحتجاجات والذين وصفتهم بالوضوح الأخلاقي لرؤية حرب إسرائيل على قطاع غزة على حقيقتها بأنها مدمرة وإبادة جماعية وهو ما يشكل ضغطا آخر على الإدارة الحالية برئاسة بايدن، وعلى أي إدارة أمريكية قادمة باعتبار أن فئة الشباب تمثل كتلة ذات وزن كبير في انتخابات الرئاسة ولابد من أخذها في الاعتبار. وعلى ساكني البيت الأبيض أن يتأهبوا  للربيع الطلابي الذي هبت رياحه من أقصى الشرق من أرض غزة بفلسطين لتهز أركان دولة طالما تجبرت وظلمت وتعاملت مع قضايا العالم بمعايير مزدوجة وفق مصالحها الخاصة، وافتضح أمرها وانكشفت ديمقراطيتها الزائفة في اسلوب إدارتها لطوفان الاحتجاجات الذي اكتسح الجامعات الأمريكية.