اقتصادها غارق في ركود وسط تآكل قاعدتها الصناعية ومنافسة خارجية شرسة
*”كبح الديون” هو قاعدة دستورية ألمانية اعتمدت خلال الأزمة المالية العالمية في 2009
* شهدت الانتخابات التشريعية عودة المحافظين وصعود اليمين وسط خسارة مدوية للاشتراكيين
ذات يوم، كان اقتصاد ألمانيا قاطرة نمو أوروبا الاقتصادي… عوامل عديدة وضعت ألمانيا في موضع الحسد بين نظيراتها الاتحاد الأوروبي وساهمت في تعزيز قوتها واستقرارها، أبرزها قطاعها الصناعي المتطور وبنيتها التحتية المتقدمة وسياساتها الاقتصادية الحكيمة.
لكن الوضع اليوم مغاير تماماً عما كان عليه في ذاك اليوم. فعندما تخلصت الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي من الركود الناجم عن جائحة كورونا وأعادت تشغيل محركاتها الاقتصادية، بقيت ألمانيا ذات الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي، “عاطلة” عن العمل. إذ تعثر مسارها الاقتصادي في السنوات الأخيرة، حتى أن نموها الاقتصادي سجل انكماشاً العام الماضي. والتوقعات لهذا العام لا تبدو أفضل حالاً، فهي تُظهر اقتصاداً ينزلق بسرعة إلى الوراء.

لقد دخلت البلاد في انتخابات تشريعية مبكرة لانتخاب أعضاء البوندستاغ (مجلس النواب)، بعدما كان من المقرر اجراؤها في 29 سبتمبر (أيلول) 2025. لكن إقالة المستشار (في حينه) أولاف شولتس لوزير المالية وانسحاب بقية وزراء الحزب الليبرالي من الحكومة أدى إلى انهيار الائتلاف الحكومي في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وكانت مسألة شح المال سبباً رئيسياً في انهيار الحكومة الاتحادية السابقة التي كانت مكونة من “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” و”حزب الخضر”، و”الحزب الديمقراطي الحر” (الليبرالي). فعند إعداد موازنة عام 2025، كان هناك نقص بقيمة 25 مليار يورو (26 مليار دولار)، وأراد كل من “الاشتراكي الديمقراطي” و”الخضر” تعويض هذا العجز من خلال القروض، لكن “الحزب الديمقراطي الحر” رفض هذا الإجراء رفضاً تاماً متشبثاً بنظام “كبح الديون”. عندها، أدى عد الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة إلى انهيار الائتلاف.
و”كبح الديون” هو قاعدة دستورية ألمانية تم إدخالها خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2009، في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، لضمان الاستقرار المالي للبلاد، بعدما تكبدت الحكومة تكاليف باهظة لبرامج الإنقاذ بلغت نحو 464 مليار يورو، مما تسبب في ارتفاع الدين العام إلى نحو 81 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010.
قنبلة الانتخابات
جرت الانتخابات المبكرة، في فبراير (شباط) الماضي، وكانت نتائجها غير متوقعة. إذ شهدت عودة المحافظين بقيادة فريدريش ميرتس وصعود اليمين وسط خسارة مدوية للاشتراكيين. وهو ما وضع البلاد أمام مشهد سياسي معقد وتحديات اقتصادية متزايدة.
لقد كان الاقتصاد موضوعاً ساخناً أثناء الحملات الانتخابية، حيث اعتبر ميرتس أن خططه السياسية – بما في ذلك تخفيضات ضريبة الدخل والشركات، وتقليل البيروقراطية، والتغييرات في المزايا الاجتماعية وإلغاء القيود التنظيمية – من شأنها أن تعطي اقتصاد البلاد دفعة ضرورية.
وجاء تطور نتائج الانتخابات في وقت يعاني الاقتصاد الألماني من مخاطر ركود متعددة، مدفوعة بارتفاع تكاليف الطاقة، وتباطؤ الطلب العالمي، وتشديد القيود المالية. ويضاف إلى هذه المخاطر، تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على الصناعات التصديرية الحيوية في البلاد، كما عاماً رابعاً من الحرب في أوكرانيا والتي كان

وقعها شديد الوطأة على الاقتصاد الألماني. فبرلين تعتمد بشكل كبير على الطاقة المستوردة، وخصوصا الغاز الطبيعي من روسيا، فيما تسببت الحرب بارتفاع حاد في أسعار الطاقة، مما أثر سلباً على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.
والحقيقة أن قدرة الحكومة على معالجة هذه القضايا مقيّدة بقيود “كبح الديون” المفروضة على الدين الحكومي والعجز، مما يجعل من الصعب تمويل الإنفاق العسكري، وتحديث البنية الأساسية المتداعية وتنفيذ مبادرات أخرى يقول خبراء الاقتصاد إنها حاسمة لتحفيز النمو. مع العلم أن تخفيف نظام ما يعرف بـ”كبح الديون” يتطلب غالبية الثلثين في البرلمان لتعديل الدستور. لكن نتائج الانتخابات لم تبشر بإمكان حشد الدعم المطلوب لذلك.
الركود الاقتصادي
تتمثل المشكلة الأكثر إلحاحاً في ألمانيا في الفرملة التي يمر بها نموها الاقتصادي، حيث تتوقع المفوضية الأوروبية نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.7 في المائة فقط في عام 2025، وهو ما يمثل أبطأ وتيرة بين دول الاتحاد الأوروبي.
فمنذ عام 2017، نما الاقتصاد الألماني بنسبة 1.6 في المائة فقط، أي أقل بكثير من متوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 9.5 في المائة. وقد أدت نقاط الضعف الهيكلية، كارتفاع تكاليف الطاقة، وانخفاض الاستثمار العام، والاعتماد المفرط على الصادرات، إلى ترسيخ الركود.
وأوضح توصيف لما يمر به الاقتصاد، ذاك التصريح الذي أطلقه وزير الاقتصاد روبرت هابيك في يناير (كانون الثاني) الماضي، حين قال: “ألمانيا عالقة في حالة ركود”. وتلاه تصريح “منبّه” آخر أطلقه رئيس البنك المركزي الألماني (البوندسبانغ) يواكيم ناغل في منتصف فبراير (شباط) حذر فيه من أن الحكومة الألمانية المقبلة سترث اقتصاداً قد يظل راكداً للعام الثالث على التوالي. وقال بوضوح: “من غير الممكن استبعاد عام تقويمي ثالث على التوالي من دون نمو. وهذا يجعل من المهم للغاية أن تتخذ الحكومة الفيدرالية الجديدة تدابير فعالة بسرعة”.
مع الإشارة هنا إلى أن “البوندسبانغ” سجل خسارة فادحة جديدة في العام 2024 بقيمة 19.2 مليار يورو بسبب الآثار المترتبة على عقد من التيسير الكمي والذي أعقبه ارتفاع حاد في أسعار الفائدة.
التضخم
استعاد معدل التضخم وتيرته التصاعدية ليسجل في فبراير (شباط) الماضي ما نسبته 2.4 في المائة في مستوى غير متوقع. وكان التضخم الألماني تبطأ إلى ما دون هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 في المائة في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، لكنه تسارع مرة أخرى بعد ذلك وظل فوق المعدل الحاسم لمدة خمسة أشهر متتالية الآن.
ورغم أن التضخم ارتفع في الآونة الأخيرة، فإن التوقعات تشير إلى بلوغه في المتوسط عند 2 في المائة في عام 2025، وهو أقل قليلاً من معدل التضخم البالغ 2.2 في المائة المسجل في عام 2024.
القاعدة الصناعية
تتآكل القاعدة الصناعية في ألمانيا، التي كانت ذات يوم العمود الفقري لاقتصادها. وقد انخفض الإنتاج الصناعي بشكل مطرد، حيث بلغ في عام 2024 نسبة 90 في المائة فقط ما كان عليه من مستويات العام 2015.
ومن أبرز الضحايا، قطاع صناعة السيارات الذي غذى في الماضي صعود ألمانيا كقوة اقتصادية في أوروبا، وهو يفاقم أصلاً الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد. بمعنى آخر، يواجه صانعو السيارات عاصفة لا مثيل لها: التحول من محرك الاحتراق، الذي أظهر الهندسة الألمانية، إلى السيارات الكهربائية الأقل تعقيداً حيث لا تتحكم ألمانيا في تكنولوجيا البطاريات. كما أن مصنّعي السيارات الألمانية يكافحون أيضاً تراجع الطلب على السيارات الكهربائية في أوروبا، وارتفاع تكاليف الطاقة والعمالة، وانهيار المبيعات في سوقهم الرئيسية في الصين، ووصول منافسين صينيين شرسين إلى القارة.
سوق العمل
وتنعكس تحديات المشهد الصناعي أيضًا في سوق العمل. إذ ارتفع عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا إلى أعلى مستوى له منذ عقد من الزمان متأثراً بضعف الاقتصاد على سوق العمل. وهو ما يجعل عدد العاطلين عن العمل قريباً من 3 ملايين شحص.
كانت آخر مرة ارتفع فيها عدد العاطلين عن العمل في يناير (كانون الثاني) في عام 2015 عندما بلغ 3.032 مليون شخص.
وتظل توقعات سوق العمل للعام الحالي قاتمة. فوفقاً لاستطلاعات حديثة، تخطط عدد أكبر من الشركات (28 في المائة) للمرة الأولى لتقليص الوظائف مقارنة بتلك التي تعتزم خلق وظائف جديدة (19 في المائة).
حيوية الاقتصاد…
تواجه برلين معضلة كبيرة يصعب حلها تتعلق بتكلفة موارد الطاقة. في العام 2011، قررت التخلي عن الطاقة النووية والفحم واعتمدت على الغاز الروسي لتلبية حاجاتها. لكن الحرب الروسية على أوكرانيا تسببت بتدهور العلاقات بين موسكو وبرلين وأثقلت كاهل صناعات رئيسية في ألمانيا كالصلب والأسمدة والكيميائيات بفعل صعود أسعار الطاقة إلى مستويات قياسية بعدما قطعت موسكو الغاز عن أوروبا.
كما أن برلين تواجه تحدياً من نوع آخر، مصدره الصين. بعدما كان صادراتها من السيارات تحتل الصدارة، بدات تتراجع بشكل كبير في ظل منافس شرس من نظيرتها الصينية. وهو الأمر الذي كبّد شركات سيارات كبرى في ألمانيا خسائر فادحة دفتها إلى إغلاق عدد من المصانع، وهو حال شركة “فولكس فاغن” مثلاً.
ولا تقتصر مشاكل الاقتصاد الألماني على التحديات الخارجية فقط. فالبيروقراطيو تعوق النشاطات الاستثمارية، في وقت تجد الشركات الأملانية صعوبة في تأمين عمال لديهم كفاءات تناسبها. هذا فضلاً عن إحجام الحكومة عن الاستثمار في مشاريع طويلة الأجل بسبب نظام “كبح الديون”.
لاشك أن مهمة الحكومة ليست سهلة أبداً، لكنها ليست مستحيلة. فمن يتذكر “أجندة 2010” الإصلاحية التي نفذتها الحكومة الألمانية المشكلة من تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي إن لم تحقق أهدافها كاملة، يعرف أن لا شيء مستحيلاً، وأن لكل أزمة دواءها.