هل أُسدل الستار على الأونروا ..؟

              تستكمل اسرائيل حملتها ضد الفلسطينيين وبينما استمرت الإبادة كل هذا الوقت لأربعة عشر شهراً ألقت فيها على غزة ما يعادل عدة قنابل نووية كان تأثيرها يشبه تلك القنابل التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي ولكن بالتوازي تستغل اسرائيل غبار الحرب لفرض وقائع أبعد كثيراً من القتل والتدمير صحيح أنها تفعل كل شيء لتصحير غزة والذهاب نحو إنهاء كامل للقضية الفلسطينية ظناً منها أنها يمكن أن تتخلص من شعب وقضيته رغم تجربتها الطويلة التي فشلت بها على مدار عقود ماضية .

                 في اطار هجمتها المسعورة على الشعب الفلسطيني واستهداف مقومات وجوده ذهبت للحد الأقصى لتقوم بمنع عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية وهي المؤسسة المسؤولة عن حياة اللاجئين الذين طردتهم اسرائيل من أرضهم عام 48 ليقيموا في مخيمات داخل وخارج فلسطين وهي المؤسسة التي أنشاتها الامم المتحدة لرعاية وتشغيل اللاجئين وتقديم الخدمات لهم بعد النكبة مباشرة وقد باشرت عملها منذ مطلع خمسينات القرن الماضي .

                       في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي قبل حوالي شهر قامت الكنيست الإسرائيلية بالتصويت بالقراءتين الثانية والثالثة على قانون منع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين من العمل في الأراضي ” الإسرائيلية ” وفي إطار القانون الإسرائيلي المخالف للقانون الدولي شملت اسرائيل الضفة الفلسطينية وقطاع غزة في إطار الأراضي الإسرائيلية وتلك وحدها ربما تظهر نوايا السياسات الإسرائيلية بالسيطرة على كل الأراضي الفلسطينية بعد أن خدعت العالم لعقود بإنها تسعى لتسوية مع الفلسطينيين .

                كانت كنيست اسرائيل في الثالث عشر من الشهر نفسه قد أقر قانون منع الوكالة من العمل ووقف نشاطها بالقراءة الأولى تمهيداً للمصادقة النهائية بعد أن أجازت لجنة بالكنيست خلال أيلول السابق مسودة القانون تمهيداً لعرضه للتصويت وهو ما فعلته الكنيست بشكل نهائي ليتحول إلى قانون ملزم يمنع المؤسسة من العمل ويلغي امتيازاتها الضريبية بإعتبارها كانت معفاة من الضرائب والجمارك ويوقف حساباتها البنكية ويمنع القانون الذي تم اقراره أي مسؤول اسرائيلي من الإتصال أو التواصل مع وكالة الغوث .

                     فجر الرابع من نوفمبر أرسلت الخارجية الإسرائيلية رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة تبلغها فيها بإلغاء العمل بإتفاقية 1967 الموقعة بين الإحتلال والأنروا بعد أن قامت اسرائيل بإحتلال الضفة الغربية والقطاع غزة والقدس وإصبحت بالقوة الجهة التي تدير تلك المناطق كان لا بد للأنروا أن تنسق عملها مع تلك الجهة الإحتلالية وبإبلاغها الأمم المتحدة رسمياً يعني مباشرتها بتطبيق قانونها والإبلاغ عن الإجراءات وتشمل :

  • سحب تصاريح VIP من موظفي الأنروا ومنع إدخال المساعدات .
  • إغلاق مقرات الأونروا ومصادرتها “وقد تم ذلك بالفعل في مدينة القدس ” .
  • عدم إدخال الأموال للأونروا .
  • رفع الغطاء الأمني والحصانة على مقراتها وموظفيها .

                تلك الإجراءات حسب الرسالة ستصبح سارية المفعول بعد ثلاثة أشهر من تاريخ الإبلاغ أي في في الرابع من فبراير القادم وبحسب قوانين الإحتلال لا يمكن إلغاء هذا القانون إلا بقانون جديد من الكنيست وهذا أصبح مستحيلاً ليس فقط  لجهة اليأس من أي تغير في السياسات الإسرائيلية التي باتت في عقودها الأخيرة تنزاح نحو اليمين الديني القومي العنيف بل أن قانون منع الأونروا قد مر بإجماع 92 عضو كنسيت من أصل 120 عضو ومعارضة عشرة أعضاء هم الأعضاء العرب ما يعني أن الأمر تجاوز الحكومة اليمينية القائمة ليشمل المعارضة الإسرائيلية التي انضمت للتصويت أي أنه يمكن القول أن هذا واحد من القرارات التي تحظى بهذا القدر من الإجماع الكبير ” 92 عضو من أصل 110 عضو يهودي” ويحتاج إلغاؤه إلى موافقة ثلثي الكنيست أي ثمانين عضواً وهذا بات مستحيلاً .

               إلغاء عمل الأونروا اجراء شديد الخطورة يتعلق بالوضع الراهن والمستقبل ، لا يتعلق فقط بالجانب الإنساني على أهميته بل أيضاً بالجانب السياسي وقد كتبنا في مادة سابقة نشرت هنا في المجلة في عدد مطلع شباط الماضي عن الحملة المبكرة التي كان نتنياهو قد شنها على الأونروا منذ مطلع عام 2018 ورغبته بإلغائها وتحويل اللاجئين إلى المفوضية العليا للاجئين لولا استشارة قانونية بأن وظيفة المفوضية هي إعادة اللاجئين من المناطق التي نزحوا منها ليتراجع عن المشروع وما ان جاء ترامب حتى التحق بحملة نتنياهو ليصفه الأونروا بأنها منظمة فاسدة ينبغي إنهائها ويقوم بقطع تمويلها  الذي عاد مع الرئيس بايدن .

                في البعد الخدماتي الإنساني تشرف الوكالة على تقديم ثلاثة أنواع من الخدمات وهي الصحة – والتعليم – والمساعدات الأنسانية والغذائية لمئآت آلاف من اللاجئين الذين تعتبر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين مصدر إعاشتهم وشريان حياتهم الوحيد ومن بالتفاصيل وما فعلته دولة الإحتلال منذ بداية الحرب يدرك أن الامر لم يكن يتعلق بمشاركة اثنا عشر موظفاً في الأونروا في عملية السابع من أكتوبر هذا إذا صحت الرواية الإسرائيلية بقدر ما ان الأمر امتداداً  للحملة المبكرة بشطب الأونروا التي برزت أولى حلقاتها قبل ثماني سنوات .

                   كان اقرار الكنيست الحلقة الأخيرة في الحملة وتتويجاً لها فما قامت به اسرائيل قبل اقرار القانون باستهداف منظم للخدمات الثلاث فقد دمرت المدارس التي تديرها وكالة الغوث أي القطاع التعليمي فقد تعرضت أكثر من 80% من مدارس الوكالة للتدمير ” كما نشر مفوض الاونروا في تغريدة له على منصة x بأن 4 من كل 5 مدارس تعرضت للدمار ” هذا كان في شهر أيلول الماضي وبالتأكيد الرقم تجاوز ذلك حالياً أما مراكز الرعاية الأولية التي تشرف عليها وتديرها وكالة الغوث والتي بلغت 22 مركزاً صحياً فقد تم تدميرها واستهدافها أما حول الخدمة الثالثة والإغاثية والإنسانية فقد أعاقت اسرائيل دخول المساعدات الخاصة بالانروا وقامت بقتل حراس الشاحنات القليلة لتتركها عرضة للنهب والسلب وبهذا كانت مبكراً تطلق النار على تلك المؤسسة ليأتي قرار القانون بحظرها ما يشبه عملية الدفن الأخيرة .

                 في اشارته قال مفوض الأونروا ” أن ثلاثمائة ألف طفل في غزة يتلقون تعليمهم في مدارس تابعة لوكالة الغوث تم حرمانهم من التعليم ” هكذا بكل بساطة لكن بالنسبة للرعاية الصحية فالرقم يتجاوز مليون وثلاثمائة ألف عمادها رعاية النساء الحوامل وتلك شديدة الأهمية بين اللاجئين الفقراء حيث غياب التغذية الصحية الكاملة ما يؤثر على صحة النساء وتحديداً الحوامل منهن والجنين الأمر الذي يتطلب رعاية خاصة وتتكفل وكالة الغوث أيضاً بتوفير الدواء للأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري إذ تتكفل به بشكل دائم وهو أمر يصعب شرائه بالنسبة للاجئين من الفلسطينيين وهم الأشد فقرا .

               هذا حكم بالإعدام على ذلك المجتمع  صحياً وتعليمياً وانسانياً وهو بالضبط ما تفعله اسرائيل لتكون سلسلة الإجراءات القاتلة تفتح على الجانب السياسي الإستراتيجي المتعلق بتحويل قطاع غزة لمنطقة غير صالحة للحياة وتضييق الخناق على وكالة الغوث ومنعها من العمل هي إحدى أبرز أدواتها لذلك وهذا يصب في مشروع تهجير سكان القطاع وهو الهدف الذي بدأته اسرائيل منذ الأيام والأسابيع الأولى للحرب كما جاء في كتاب الحرب لمؤلفه ” بوب وودوارد ” حين نقل حواراً بين بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل وأنتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة بأن نتنياهو طالب الاخير بالضغط هلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإستيعاب سكان قطاع غزة في سيناء .

              أما الجانب السياسي فهو الأخطر صحيح أن الديمغرافيا وخصوصية غزة كانت تشكل أزمة دائمة لإسرائيل بلغت ذروتها في طوفان الأقصى العملية التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر للعام الماضي لكن البعد السياسي لقضية اللجوء كان الهاجس الذي سكن اسرائيل لعقود طويلة وكان الهدف الرئيسي لثورة الفلسطينيين الحديثة التي انطلقت في ستينات القرن الماضي وهو إعادة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها وهو ما عرف بحق العودة الذي ظل يتداول الفلسطينيون مفاتيح بيوت الأجداد يعيشون في المخيمات لكن عيونهم ترنوا هناك وهو ما تدركه اسرائيل وحتى حين بدات محاولة التسوية بين الجانبين في ظروف عربية مهزومة بعد ضرب العراق وتحطيمه كان الفلسطينيون يضعون حق العودة على الطاولة .

                    تعتبر اسرائيل أن بقاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تعني استمرار قضية اللجوء والحفاظ على حق العودة وهو ما تعمل منذ سنوات على إلغائه بشتى الطرق إلى الحد الذي تحرض فيه على المناهج الدراسية الفلسطينية لشمولها المدن الفلسطينية في الداخل فهي تريد مسح أدمغة الأجيال الفلسطينية بهدف نسيان العودة بعد أن تمكنت من فرض وقائع بالقوة المسلحة على تدمير طموحات الفلسطينيين المركزية بالتركيز على أبرز عناصر القضية الوطنية ، الأرض التي امتلأت بالإستيطان بحيث لم يبق متسع ليقيم عليه الفلسطينيون دولتهم والقدس التي أحاطتها بالمستوطنات وعملت بكل طاقتها على تهويد المدينة وألغت رموزها الإسلامية ومعالمها العربية وأصبح اقتحام الجماعات الدينية للأقصى حدثاً دائماً بعد أن فرضت تقسيما زمانياً للمكان الأكثر مقدس للفلسطينيين لم يبق سوى حق العودة .

                  تلك الإجراءات بما يتعلق بالقضية تشي بالهدف من النيل من الأونروا فمن السذاجة التعاطي مع الفرية الإسرائيلية بأن عناصر من حماس يعملون في الأونروا التي لا تتحمل مسؤولية الإنتماء السياسي لموظفيها كما أية مؤسسة في العالم بل تصرفت كأن هؤلاء يتلقون التعليمات من الاونروا بمهاجمة اسرائيل فالأمر أكثر انكشافاً لكن اسرائيل تستغل لحظة تاريخية تدرك أنها لن تتكرر يقف العالم فيها صامتاً أمام حملة إبادة تنظمها وهي فرصة لتحقيق كل برامجها وكل أحلامها السياسية تحت غبار المعارك المتصاعدة في غزة .

               العالم الذي ترك اسرائيل تفعل ما تشاء لم تكن ردود أفعاله تتناسب مع الحدث ما يشجع اسرائيل على الذهاب أبعد في استهداف الحقوق الفلسطينية بل سحقها كما تفعل بالبشر في غزة وجاء انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتاريخه المعروف وموقفه الأكثر وضوحاً من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ليشكل دفعة معنوية هائلة لطموحات بنيامين نتنياهو السياسية ومشاريعه المعلقة منذ زمن وإذا كان نتنياهو قد وجد بعد طوفان الأقصى فرصة تاريخية فإنه بإنتخاب ترامب بقي مطمئناً ولديه ما يكفي من الوقت للقضاء على تطلعات الفلسطينيين .

                 وإذا كان الامر كذلك ما الذي يفعله العالم في مواجهته ؟ ما الذي يفعله أعضاء الجمعية العامة للامم المتحدة الذين قرروا إنشاء الأونروا وتحديد صلاحياتها ؟ ما الذي سيفعله العرب والجامعة العربية تجاه شعب قررت تلك الجامعة ذات يوم بانها مسؤولة عن تحقيق التطلعات الفلسطينية وخصوصاً أن الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة تم احتلالها من الدول العربية ولم تكن تحت سيطرة الفلسطينيين ؟ الفلسطيني يقاتل بأظافره لكن ظهره بدا عارياً والأكثر عرياً هو الضمير العالمي والأخلاق العالمية التي كشفتها اسرائيل بسلوكها الإجرامي إلى هذا الحد .