هجوم أميركي غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية
لم تشن الولايات المتحدة عمليتها العسكرية ضد إيران من فراغ. سُجل انقلاب في موقف واشنطن لجهة فرض التخصيب الصفري لليورانيوم على إيران قاد إلى انسداد مسار المفاوضات. قبل ذلك كانت واشنطن سمحت بالحرب الإسرائيلية ضد إيران لتحسين شروط التفاوض مع إيران وإجبارها على القبول بالشروط الأميركية. ومع ذلك فإن تدخل

الولايات المتحدة العسكري كان موضعيا لم يهدف إلى الانخراط في الحرب، بل تعديل شروط التفاوض وفرض أمر واقع جديد. غير أن تلويح واشنطن بتغيير النظام في إيران كان تطوّرا نوعيت جديدا وسابقة في تاريخ العلاقات الأميركية الإيرانية.
كيف فوجئت إيران بالحرب؟
على الرغم من تدافع المعطيات والأنباء والأعراض عن استعداد إسرائيل لشنّ ضربة “وشيكة” على إيران، أظهرت التطوّرات لاحقا أن طهران لم تجد هذه التهديدات جدية واعلنت أنها تهويلية فقط عشية جلسة مفاوضات جديدة. أظهرت الخسائر، لا سيما على مستوى قادة إيران، أن طهران تفاجأت من جدية وحجم الهجوم وفق تسلسل في التصعيد والصدام.
فجر 13 حزيرات (يونيو) 2025، شنّت إسرائيل موجات من القصف الجوي على أهداف شاملة في إيران. أعلنت إسرائيل أنها ضربات افتتاحية بدا أنها تهدف إلى إضعاف الهيكل القيادي العسكري الإيراني، وتقويض قدرة إيران على الرد، وتدمير وإعادة تدمير المواقع النووية والصاروخية. فقد استهدفت الغارات مواقع للدفاع الجوي وقواعد عسكرية ورادارات ومبانٍ سكنية. وشهدت طهران انفجارات مدمرة في أحياء مكتظة بالسكان. وقد استخدمت القنابل الدقيقة والطائرات المسيرة في قتل عدد من كبار القادة العسكريين إلى جانب مسؤولين سياسيين وشخصيات مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني.
كانت غالبية المباني المستهدفة مبان سكنية في مناطق راقية من العاصمة. فيما أفادت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية بمقتل القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، وقائد مقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري غلام علي رشيد، ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، فيما لم يتأكد مصير علي شمخاني، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي بعد استهداف منزله.
أربكت الغارات القيادة الإيرانية، لكن طهران سارعت إلى تعيين البدائل، قال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إن “الكيان الصهيوني ارتكب جريمة في بلادنا العزيزة بأيديه الشيطانية الملطخة بالدماء. وقد كشف عن طبيعته الخبيثة أكثر من أي وقت مضى من خلال استهداف المناطق السكنية”. وحذّر من “عقوبة قاسية بالذراع القوي” للقوات المسلحة الإيرانية، معترفاً بأن “عدة قادة وعلماء قد استشهدوا”، مضيفاً أن “خلفاءهم وزملاءهم سيواصلون أداء واجباتهم دون تأخير”.
هل هي خديعة؟
لفت المراقبون أن الضربة الإسرائيلية لا تقتصر على البرنامج النووي ومنشآته، بل أن أهدافها تصيب عصب نظام الجمهورية الإسلامية من خلال استهداف قائد الحرس الثوري وقادة أركان الهيكل العسكري الإيراني. لاحظو أن الضربات لم تستهدف واجهات قيادية سياسية عليا، لا سيما المرشد علي خامنئي. وعللوا ذلك بأن واشنطن تحتاح لقرارات جديدة تصدر عن القيادة يرعاها المرشد تأخذ بالاعتبار موازين القوى المستجدة.
اعترفت مصادر إيرانية مراقبة إن طهران قد فوجئت بالهجوم الإسرائيلي وأنها لم تتخذ إجراءات لحماية قادتها العسكريين اقتناعا بعدم وجود ضربة إسرائيلية. لم تفعل شيئا رغم الانباء التي صدرت من واشنطن عن تحضيرات إسرائيلية محتملة وحديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه عن احتمالات ضربة إسرائيلية “وشيكة”. لكن إيران وضعت الأمر في إطار تهويلي فقط.
تضيف المصادر أن إحدى الخدع التي وقعت فيها طهران هو إعلان موعد للجلسة السادسة للمفاوضات الأميركية التي تقرر أن تكون في مسقط في 15 حزيران (يونيو) 2025.
سيناريو التدخل الأميركي العسكري. لكن الخديعة الأكبر جرت حين نفذت الولايات المتحدة ضربات ضد منشآت نووية استراتيجية إيرانية ما اعتبر أعلى درجات التصعيد الذي تفرضه واشنطن على طهران منذ بداية السجال بين العاصمتين بشأن البرنامج النووي الإيراني خلال عقود. وهدد الحدث بتوسيع نطاق الحرب والذهاب بها إلى أهداف مستجدة كان من أخطرها تلويح الرئيس الأميركي بإمكانية تغيير نظام الجمهورية الإسلامية.
لماذا “أم القنابل”؟
في 21 حزيران (يونيو) 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قيام قاذفات أميركية برمي حمولة من قنابل GBU-57 المعروفة باسم “أم القنابل” على منشآت فوردو ونطنز النوويتين في إيران، كما استُهدفت في وقت متزامن صواريخ توماهوك أطلقتها غواصات في المحيط الهادي منشأتي نطنز وأصفهان النوويتين. اعتبر ترامب العملية “ناجحة جداً” محذرا إيران من “مأساة” في حال عمدت إلى الردّ على مصالح ومواقع أميركية في الشرق الأوسط.
تطوّر المسار العسكري للولايات المتحدة بعد أن عقد وفدان من واشنطن وطهران مفاوضات غير مباشرة على مدى خمس جلسات. وفيما أشاع الطرفان تقدما بطيئا في المفاوضات و “إيجابية بناءة”، وفق ما كان رئيس الوفد الإيراني عباس عراقجي يردد، تبدّل الموقف الأميركي من التلميح بالسماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة منخفضة (أقل من 4 بالمئة)، إلى عدم السماح لإيران بأي تخصيب لليورانيوم على أراضيها. وقد أكد وكرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الموقف واعتبره نهائيا. بالمقابل أعلن المرشد علي خامنئي وكافة المسؤولين الإيرانيين تمسكهم بالسيادة على عمليات التخصيب وعدم التخلي عم هذا الشرط.
تسمح “خطة العمل المشتركة الشاملة”، وهي الاسم الرسمي للاتفاق النووي الذي أُبرم في فيينا عام 2015، لإيران بنسبة تخصيب لليورانيوم لا تتجاوز 3.67 بالمئة. وبعد انسحاب ترامب من هذا الاتفاق بداعي أنه “اتفاق سيء”، وفق تقويمه، عام 2018، رفعت إيران بشكل متدرّج نسب التخصيب وأنتجت كميات من اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة ثم 60 بالمئة ووجد مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية آثار تخصيب بنسبة 83 بالمئة رفضت طهران إعطاء تفسير لها.
ويُعتقد أن انسداد أُفق المفاوضات شجع الرئيس الأميركي على القبول بخطة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باستخدام القوة العسكرية ضد البرنامج النووي. وقد بدأت الهجمات الإسرائيلية بعد أيام على مكالمة هاتفية جرت بين ترامب ونتنياهو، وسط تأييد ودعم سياسي وعسكري من الإدارة الأميركية في واشنطن. وقد تطلّبت العملية العسكرية لاحقا، وفق ما كان نتنياهو يردد، تدخّل الولايات المتحدة لتدمير البرنامج النووي.
مسار الضربة الأميركية:
تمسك الرئيس الأميركي بسردية مفادها النقاط التالية:
- المعركة تجري بين إيران وإسرائيل ولا علاقة للولايات المتحدة بها.
- قدّم نفسه وسيطا بين البلدين، وقادرا على وقف الحرب الإسرائيلية ضد إيران.
- طالب بعودة إيران إلى التفاوض.
- طالب بقبول إيران باقتناء برنامج نووي لأغراض مدنية لا جوانب عسكرية له.
- طالب تقديم طهران ضمانات أهمها التوقف التام عن تخصيب اليورانيوم.
انتقل ترامب لاحقا إلى التلويح بأنه يفكّر في الانضمام إلى الحرب ضد إيران وقرب الاستعداد لها قبل أن يفاجئ الرأي العام الأميركي والدولي في 19 حزيران (يونيو) بالإعلان أنه “نظرا لوجود فرصة كبيرة لإجراء مفاوضات، قد تحدث أو لا تحدث، مع إيران في المستقبل القريب، سأتخذ قراري بشأن الذهاب ( إلى الحرب) من عدمه خلال الأسبوعين المقبلين”.
وقد تمّ تنفيذ الضربة الأميركية بالاستفادة من مناورات خادعة أهمها:
- مناورة ترامب بشأن “هدنة” الأسبوعين.
- الإيحاء بأنشطة عسكرية محتملة مصدرها جزيرة دييغو غارسيا البريطانية في المحيط الهندي.
- الإعلان عن نقل قاذفتين من طراز B2 نحو الغرب وتُرك لأجهزة الرادار رصدها، فيما توجهت 7 قاذفات من هذا الطراز شرقا بشكل سري بعدما أُطفئت كافة مجسات التعقب من قاعدة وايتمان الجوية الأميركية في ميزوري الأميركية باتجاه إيران عبر أجواء المحيط الأطلسي في رحلة استمرت 18 ساعة.
قالت مصادر البنتاغون والبيت الأبيض إن العملية دمرت تماما المنشآت النووية الثلاث وسط غياب لأية جهة محايدة للتأكد من حجم الأضرار التي تسببت بها الغارات الأميركية. وقد أظهرت صورا للأقمار الصناعية ثقوبا في سطح منشأة فوردو اعتبرها خبراء عسكريون غربيون نجاحا للضربة العسكرية بسبب عدم حدوث انفجار في الخارج، ما يؤكد أن عملية اختراق قد حصلت وأن الانفجار قد حصل على عمق 60-80 مترا وفق تقديرات الخبراء العسكريين.
سردية واشنطن السياسية:
اعتمد الخطاب السياسي على المحددات التالية:
- أكد ترامب أن لا حرب بين الولايات المتحدة وإيران
- الضربة واحدة موضعية ولن تليها ضربات أخرى.
- دعوة إيران من جديد للعودة إلى التفاوض و “إقامة السلام”.
- كرر أركان الإدارة هذه المقاربة لا سيما على لسان نائب الرئيس.
- أكد وزير الدفاع أن الهدف هو البرنامج النووي فقط ومنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وأن لا خطط لدى واشنطن لاسقاط النظام في إيران.
يؤكد هذا الخطاب على محددات أهمها:
- عودة مسار الحرب إلى أصله، أي أن الحرب إسرائيلية إيرانية وعادت لتكون كذلك.
- بعث رسالة واضحة إلى إسرائيل وبنيامين نتنياهو بأن المهمة أُنجزت بالنسبة للولايات المتحدة وفعلت ما هو مطلوب باستهداف منشأة فوردو المنشأتين الأخريين.
- تقول الرسالة أيضا أن على إسرائيل أن تعيد قراءة المشهد وتقويم كيفية إدارة الحرب وربما إنهاؤها.
- يستبطن الخطاب الأميركي شراكة كاملة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لإغلاق هذا الملف منذ بدء العمليات الإسرائيلية ضد إسرائيل.
- الوعد باستمرار واشنطن في لعب دور ضاغط لإجبار إيران على القبول بشروط إنهاء الحرب.
- تعويل ترامب على إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات والإيجاء بإمكانية أن تلعب دول وسيطة مثل روسيا وأوروبا ودول المنطقة أدوارا في الضغط من أجل ذلك.
ورغم أن إيران تمّهلت في تنفيذ ردّ مباشر ضد الولايات المتحدة، واكتفت بالردّ ضد إسرائيل بصفتها “أكبر قاعدة أميركية في المنطقة”، وفق موقف للحرس الثوري، قبل أن ترد على القاعدة الأميركية في العديد في قطر، ورغم تحرّك طهران بأدوات سياسية باستخدام دعوات “مجلس الشورى” لإقفال مضيق هرمز، ودعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد، والتهديد بالانسحاب من “معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية” وطرد أي رقابة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، غير أن ترامب استبق رفض إيران دعواته للعودة إلى طاولة المفاوضات وإمكانية قيامها بردّ حتى من قبل أذرعها في المنطقة ضد مصالح أميركية، من خلال التلويح بورقة تغيير النظام في إيران. وقد كتب في منشور على منصته تروث سوشيال في 22 حزيران (يونيو): “ليس من الصواب سياسيا استخدام مصطلح تغيير النظام، لكن إن لم يكن النظام الإيراني الحالي قادرا على جعل إيران عظيمة مرة أخرى فلم لا يكون هناك تغيير للنظام؟”.
هل انتهت وظيفة إيران؟
تشتبه إيران بحصول تغيير عميق في النظام الدولي. دليل طهران أن ذلك النظام يستغني عن دور ووظيفة الجمهورية الإسلامية منذ قيامها عام 1979. ودّعت إيران نظام “الحرب الباردة” الذي أتاح لنظامها العبور إلى السلطة، وتعايشت في كرّ وفر مع نظام جديد قادته الولايات المتحدة، فناكفته تارة، وتماهت معه تارة أخرى، وقدمت خدمات من أجله طورا. استخدمت إيران السُبل التي نجحت دائما، وهي تستنتج أن سُبلها نفسها صارت متقادمة عصيّة على أي نجاح.
تقدمت إيران بـ “ثورتها” عام 1979 واعدة بتصديرها إلى المنطقة في وقت كان صراع الغرب ضد الشرق على أشده لا سيما ضد الاتحاد السوفياتي. لاحقا لم تكن العواصم الغربية تجد في حكم الملالي في طهران خطرا في وقت كان الساسة الغربيون يحجّون إلى أفغانستان في أيام الاحتلال السوفياتي لالتقاط الصور مع “المجاهدين”. وحين توسّع حضور تلك “الثورة” في لبنان واحتاج رسوخها إلى تفجير السفارة الأميركية ومقري المارينز والوحدة الفرنسية عام 1983، حمل هذا الغرب جنوده وانسحب أمام التقدم الإيراني.
كان رونالد ريغان الأميركي وفرانسوا ميتران الفرنسي ومارغريت ثاتشر البريطانية آنذاك يجدون الشرّ في الأمبراطورية السوفياتية ولا يجدون في النظام الذي أرساه روح الله الخميني، العائد إلى بلاده من فرنسا بتسهيلات أميركية، إلا عاملا دينيا مشاكسا لنظام “الإلحاد” في موسكو. وطالما أن الحرب رغم برودتها مستعرّة ضد العملاق الأحمر، فيجوز التعايش مع واقع جمهورية الخميني وطموحاتها التصديرية.
استفادت إيران من لحظة تاريخية كتلك اللحظة التي وفّرت ظروف ولادة نظامها الإسلامي. باتت طهران في مناخات ما بعد “غزوة نيويورك” في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حاجة ضرورية للولايات المتحدة الجريحة. وجد منظرو المحافظين الجدد المحيطين بالرئيس جورج دبليو بوش في إيران عنوانا واحدا للتحالف مع الشيعية السياسية ضد تلك السنيّة السياسية التي ارتكبت جريمة نيويورك. لم يرمش لطهران جفن في التقاط تلك اللحظة متطوّعة بالعون الكامل لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان (2001) و نظام صدام حسين في العراق (2003).
إيران تستنتج “خيانة” الغرب
تأكد دور إيران داخل النظام الدولي ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وخصوصا ما بعد سقوط البرجين في نيويورك. تولّت إيران مدَّ ثورتها وزرع الأذرع في المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بغزّة والخليج والعراق وسوريا تحت نظر، وربما رعاية، تلك الولايات المتحدة التي تقود ذلك “العالم الحر”. لم تكن إسرائيل بعيدة عن تخادم جرى بين طهران والغرب. غضّ الرئيس الأميركي باراك أوباما الطرف عن ملفات إرهاب وانخراط في منظمات إجرام في العالم تورّطت بها طهران وفصائلها التابعة وكانت أجهزة الأمن الدولية تحقّق بها على نطاق واسع. أُغلقت تلك الملفات من أجل ولادة الاتفاق النووي الشهير في فيينا عام 2015.
من يراقب ردود الفعل الحديثة الصادرة عن طهران يستنتج ذهولا من “خيانة” ذلك الغرب لوظيفة إيرانية حظيت دائما بصمت يوحي بالرضا. والأرجح أن العالم قد تغيّر بعد حرب أوكرانيا و “طوفان الأقصى” وتطوّر التناقض مع الصين وعودة الترامبية بنسخة محدثة. لم تعد قواعد العلاقات الدولية تجد للنظام الإيراني وظيفة ودورا ملائمين وإن لمّحت تلك القواعد بتمديد صلاحية ذلك النظام بـ “تغيير سلوكه”. تستنج طهران تلك الحقيقة بارتباك بعدما داهمتها أثناء الحرب الأخيرة مواقف الصين وروسيا المتماهية تماما مع قواعد العالم الجديدة.
من يتأمل مواقف طهران إثر تلك الحرب، وتخبط أعذارها لتأخير العودة إلى التفاوض، والترويج لقطيعة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والالتزامات المحيطة بها، وفقدان رشاقة التعامل مع الواقع الجديد، يستشعر اقتناعا في إيران بأن هذا العالم يستغني عن وظيفتها في النظام الدولي وأن إسقاط النظام أو ما يشبه ذلك قد يكون قرارا قد اتّخذ فعلا قد تظهر أعراضه الحادة بعد أجل. وكما أن هناك لحظة تاريخية للولادة هناك لحظة أخرى للاندثار حتى لو جاء بطيئا.
الرد الإيراني
سلط قصف إيران لقاعدة أميركية في قطر المجهر على ظروف اختيار طهران لدولة خليجية صديقة مسرحا لردّها على الولايات المتحدة (بعد قصف ثلاث منشآت إيرانية نووية)، على الرغم من وجود عشرات الأهداف الأخرى في المنطقة. ويعيد الحدث إيران إلى مربعها الأول خطرا استراتيجيا دائما على أمن دول الخليج.
ففي 23 حزيران (يونيو) 2025، أعلنت إيران أنها شنّت هجوما على القوات الأمريكية في قاعدة العديد الجوية في قطر. وجاء الهجوم بعد وقت قصير من إغلاق قطر لمجالها الجوي كإجراء احترازي، ما كشف لاحقا عن إبلاغ طهران الدوحة وواشنطن مسبقا بالهجوم. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري: “نعرب عن إدانة دولة قطر الشديدة للهجوم الذي استهدف قاعدة العديد الجوية من قبل الحرس الثوري الإيراني، ونعتبره انتهاكا صارخا لسيادة دولة قطر ومجالها الجوي، وللقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. وأكدت قطر احتفاظها بحق الرد بما يتوافق مع القانون الدولي.
لاحظ المراقبون أن البيان الرسمي القطري اتّهم “الحرس الثوري” بالقيام بعملية ولم يحمّل إيران الدولة المسؤولية (استخدمت الإمارات أيضا نفس صيغة الاتهام). وفي 24 حزيران (يونيو) أفاد الديوان الأميري القطري بتلقي أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، اتصالاً هاتفياً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أكد على “تضامن بلاده ووقوفها مع دولة قطر، وإدانتها الشديدة الهجوم الإيراني على قاعدة العديد الجوية”، داعياً أمير قطر إلى “ضبط النفس واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية”.
غضب الخليج
دانت السعودية واستنكرت “بأشد العبارات العدوان الذي شنته إيران على دولة قطر الشقيقة والذي يعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي ومبادئ حسن الجوار”، معتبرة أنه “أمر مرفوض ولا يمكر تبريره بأي حال من الأحوال”. ودانت الإمارات “بأشد العبارات استهداف الحرس الثوري الإيراني لقاعدة العديد الجوية في دولة قطر الشقيقة”، معتبرة ذلك “انتهاكا صارخا لسيادة دولة قطر ومجالها الجوي”. أعربت الكويت عن إدانتها واستنكارها الشديدين للهجمات “في انتهاك صارخ للسيادة القطرية ومجالها الجوي، وللقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وبما يعتبر تصعيدا خطيرا يهدد السلم والأمن والاستقرار في المنطقة”. واعتبرت سلطنة عُمان أن “القصف الصاروخي الإيراني الأخير لمواقع سيادية في دولة قطر الشقيقة، عمل مرفوض ومدان ينتهك سيادة دولة شقيقة من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويتنافى مع سياسة حسن الجوار”.
في 24 حزيران (يونيو) أعرب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في اتصال هاتفي مع أمير دولة قطر عن أسفه للهجوم، مؤكدا أنه لم يكن يستهدف قطر وشعبها، وفقا لبيان للديوان الأميري القطري. وقال البيان إن أمير قطر جدد -خلال الاتصال- إدانة بلاده الشديدة للهجوم باعتباره انتهاكا صارخا للسيادة ويتنافى تماما مع مبدأ حسن الجوار والعلاقات الوثيقة التي تجمع البلدين”. وفي 25 حزيران (يونيو) قام رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد بزيارة إلى الدوحة “وجدد تضامن بلاده مع دولة قطر ووقوفها إلى جانبها، مؤكداً دعم الإمارات لجميع الإجراءات التي تتخذها قطر للحفاظ على سيادتها وأمنها وسلامة شعبها”، وفق البيان الرسمي.
لماذا قصف قطر؟
اعتبر مراقبون أنه بغضّ النظر عن “الهندسة” التي تمّ إخراجها بين واشنطن وطهران لإنهاء حرب الـ 12 يوما، فإن إيران نفّذت اعتداءً مباشرا على دولة من دول مجلس التعاون الخليجي.أضاف هؤلاء أن الاعتداء يؤكد استمرار إيران في تشكيل الهاجس الأمني الاستراتيجي الأول للخليجيين، وهو هاجس يقف أساسا وراء تشكيل مجلس التعاون لدول الخليج العربي في عام 1981، أي بعد عامين من نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران وبعد عام من اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
لفت خبراء أن الاعتداء الإيراني تمّ على إحدى دول الخليج التي امتلكت دائما (إضافة إلى سلطنة عُمان) علاقات جيدة ومتقدمة مع إيران لطالما كانت مثار انتقاد من بعض دول الخليج الأخرى. لفتوا أيضا إلى أن إيران اعتدت على دولة لطالما لعبت وما زالت دور الوساطة بين طهران وواشنطن، كما أن إيران وقطر شريكتان في إنتاج الغاز من حقل الشمال المشترك.
ويقول محللون إن اعتبارات عديدة، منها مستقبل علاقاتها مع العراق، أجبرت إيران على تجنّب قصف قاعدة عين الأسد في العراق على منوال ما فعلت في يناير 2020 انتقاما لمقتل قاسم سليماني. يضيف هؤلاء أن إيران تجنبّت استهداف قاعدة الأمير سلطان في السعودية، لأن ذلك سيقضي على جهود التقارب بين طهران والرياض التي توّجت باتفاق بكين في مارس 2023، ولأن التوتّر مع السعودية سيؤدي إلى توتّر مع كل المنطقة في وقت تحتاج فيه إلى المحافظة على الموقف الإقليمي الذي تضامن مع إيران ودان الحرب الإسرائيلية.
ويرى خبراء أن خيار قصف “العديد” أضر باستثمار إيران الطويل في قواعد الاشتباك مع دول الخليج، وقد يُعد خطأ استراتيجياً يضع دول مجلس التعاون تحت ضغط لإعادة تقييم معادلاتها الأمنية وقوة ردعها. كما قد يدفع دول الخليج نحو الانحياز لمحور مناهض للنظام الإيراني.
كما اعتبر معلّقون أن الضربة أثارت تساؤلات حول مستقبل معادلات الردع، وجدوى التحالفات الدفاعية التقليدية مع الولايات المتحدة، التي استند إليها أمن الخليج لسنوات، في وقت يتسبب نزاع إيراني أميركي في تعريض أمن الخليج للخطر. ولفتت مصادر مراقبة إلى أن القواعد الأميركية منتشرة في كافة أرجاء الدائرة الإقليمية المحيطة في الخليج ناهيك من انتشار القطع البحرية الأميركية في مياه المنطقة، بمعنى أن الأهداف متوفّرة بكثرة واختيار إيران الردّ من خلال دولة خليجية عربية صديقة يكشف عقلية إيرانية بنيوية لم تتغيّر رغم حالة الانفراج العام مؤخرا في علاقات إيران مع بلدان المنطقة. ذهبت بعض الأصوات إلى المطالبة بمشاركة دول الخليج، لا سيما بعد الاعتداء على قطر، في طرح ملفات على طاولة المفاوضات على منوال طرح الأوروبيين لملفاتهم.
فتح التدخل العسكري الأميركي ضد إيران أبوابا كثيرة من الاحتمالات التي تنتظر إيران. توّج الحدث انحدارا دراماتيكيا منذ انفجار عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. انتقلت الحرب من كونها بالوكالة مع إسرائيل إلى الوضع المباشر المتعدد الذي تصاعد إلى مستوى الحرب الشاملة على مدى 12 يوما. بدا في الضربة الأميركية أن العالم يتغير، وأن المنطقة تتغير على نحو لم تشهده إيران منذ ولادة الجمهورية الإسلامية عام 1979.
فوجئت إيران بالهجوم الإسرائيلي ولم تتخذ إجراءات لحماية قادتها العسكريين اقتناعا منها بعدم وجود ضربة إسرائيلية. لم تفعل شيئا رغم الانباء التي صدرت من واشنطن عن تحضيرات إسرائيلية محتملة وحديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه عن احتمالات ضربة إسرائيلية “وشيكة”. لكن إيران وضعت الأمر في إطار تهويلي فقط.
تشتبه إيران بحصول تغيير عميق في النظام الدولي. دليل طهران أن ذلك النظام يستغني عن دور ووظيفة الجمهورية الإسلامية منذ قيامها عام 1979. ودّعت إيران نظام “الحرب الباردة” الذي أتاح لنظامها العبور إلى السلطة، وتعايشت في كرّ وفر مع نظام جديد قادته الولايات المتحدة، فناكفته تارة، وتماهت معه تارة أخرى، وقدمت خدمات من أجله طورا.
من يراقب ردود الفعل الحديثة الصادرة عن طهران يستنتج ذهولا من “خيانة” ذلك الغرب لوظيفة إيرانية التي حظيت دائما بصمت يوحي بالرضا. والأرجح أن العالم قد تغيّر بعد حرب أوكرانيا و “طوفان الأقصى” وتطوّر التناقض مع الصين وعودة الترامبية بنسخة محدثة. لم تعد قواعد العلاقات الدولية تجد للنظام الإيراني وظيفة ودورا.
لفتت مصادر مراقبة إلى أن القواعد الأميركية منتشرة في كافة أرجاء الدائرة الإقليمية المحيطة في الخليج، ناهيك من انتشار القطع البحرية الأميركية في مياه المنطقة، بمعنى أن الأهداف متوفّرة بكثرة، ومع ذلك اختارت إيران أن ترد على الولايات المتحدة بقصف القاعدة الأميركية في قطر ما أغضب كل الخليج.
