وقفة الحائر أمام ركام وطنه

كيف بأيام معدودات تنهار دولة وجيشها وتختفي نُخبها الحاكمة؟ هذا ما حدث في سورية ودخل أكثر فأكثر في دائرة الغموض. ولا تشفع في التوضيح معلومات غير دقيقة عن التأثير المباشر التركي في تدمير النظام العسكري الأسدي الذي كنّا نتوهّم رسوخه.

قيل إنها إرادة أميركية وأوروبية، وإنها مصلحة إسرائيلية مباشرة، أو إنها فرصة لتخفّف روسيا من أعباء متعاظمة للدفاع عن نظام سوري لم يعد يحظى بثقة موسكو. وقيل من باب المبالغة إن ذلك النظام أصيب بالجنون فحطّم نفسه فيما يشبه انتحار نزيل في مستشفى الأمراض العقلية. وتتردد أقوال بأن حالة ضجر غريبة أصابت السوريين جميعا عدا مجموعة من البشر المصفّحين بأوهام دولة دينية غالباً ما تصنعها دوائر استخبارات معدومة الضمير. هؤلاء البشر كانوا متسلطين على إدلب وجوارها فامتدت سلطتهم الغرائبية على الدولة كلها وعلى معظم المواطنين.

ولا أحد يشرح للناس ما حدث ويقنعهم بكيفية انهيار الدولة واختفاء نخبتها الحاكمة، إذ فجأة تتسلم الحكم ميليشيات ترعب المسلمين قبل غيرهم، وأول أهدافها تشكيك المواطن المسلم بإيمانه المعهود لمصلحة شعارات تهدف إلى تدمير أرواح المسلمين قبل غيرهم.

هكذا في سورية يستعيدون الماضي مشوّهاً، أما في غزّة فقد صلب الشعب نفسه أمام العالم، وقل إنهم صلبوه بإرادة منه، ليؤكد وجوده كشعب في وطن اسمه فلسطين. ومن خلال الضحايا، وفي مدى زمني هو الأطول في الحروب العربية الإسرائيلية، يتأكد هذا الوجود في ضمائر العالم ويلطّخ بالوحل وجه دولة إسمها إسرائيل.

وفي لبنان، أنت اللبناني تحضن جراحاتك تاركاً الحجر تحت ريح ومطر وشمس.

ولا تقلق. ستعود يوماً.

وينتظرك الحجر مهما طالت الرحلة.

تلتفت إلى الوراء بلا خوف ولن تحصد الندم.

تقف عند أول الشارع حيث المشردون يهددون ولن يدعوك تمر.

قد ينتهي عمرك ولا تمر.

أنت في الخريطة المرسومة خط لا يتحرك. تلتفت إلى الوراء ثم تخاف.

لن تستعيد الماضي، إذ تلمس أناملك أول العشب وآخر الغبار.

لك المستقبل وحده والسؤال مسكناً والحلم الذي لا يتجسّد.

نقطة الحاضر، مستديرة الحاضر، وأنت في الدوامة.

تذهب إلى حيث جئت وتعرق مثل رياضي يتمرّن. الحياة ملعب وأنت اللعبة لا أكثر.

وفي لبنان تحيا المدن وفق تواريخها الصغيرة.

في بيروت يصلحون البناية: يجددون البلاط حيث كان الجنرال الإنكليزي يذرع الممرات بكعبه الحديد، دافعا الفرنسيين بعيدا، لنقيم استقلال الوطن من فراغنا ومن فرصة قدّمتها الحرب العالمية الثانية.

ويرمّم النجار الباب المخلّع لشقة الطبيب اليهودي، محافظاً على مقرعة الحديد التي طالما قرعتها أمهات يحملن أطفالهن المحرورين. يفتح الطبيب الأصلع الباب ويدعوهن بلكنته الحلبيّة إلى ممر الإنتظار. ويتعاون عمال مهرة في إعادة تكوين شقة العانسات الروسيات، تاركين لهنّ غرفة واحدة ينتظرن فيها اكتمال التجديد. ومثل عاشقات دراكولا لا يأتي زوارهن أو يأتون منتصف الليل. لم يدخل العمال غرفة انتظار العانسات ويجددوها، ولم يروا البيضاوات اللواتي هربن من الجيش الأحمر يحملن صناديق الأهل النبلاء.

في بيروت يصلحون البناية، وحين نضجر من أصوات العمال ورائحة الدهان نتجه إلى البحر القريب نسبح أو نصطاد من برك صغيرة بين الصخور ونقرأ مجلات قديمة مبلّلة عن تحرير فلسطين، لا ندري من رماها على ذلك الشاطيء الصخري.

وفي لبنان تختنق الأرض تحت الأعشاب المستوردة، أرضنا التي كانت حرّة، وعشبها وزهرها في الربيع، وشجرة التين عارية تحت سماء الرماد.

كم نفتقد الأرض حين يفكر الإنسان في علبة، ويتلقى التجربة عبر شاشة تشعلها الكهرباء. التجربة بلا جسد. الركض مع أبطال الأفلام في براري بلاد بعيدة.

خطو أقدامنا على الرصيف المتكسّر. كأننا ننزلق لا نمشي. العصافير صور في الكتب العلمية، والغناء في القلب. نحن أبناء أيام الإنسان الأبكم.

ونحن التجريد. كم يفاجئنا الموت. وحدها لحظته الحاسمة تذكرنا بوجود الجسد.

للأبكم أن يصرخ، يحتاج إلى استرداد جسده من أصحاب الصرخة الواحدة والمعممة.

لم أتصل بأصدقائي السوريين، الأدباء والفنانين. منعني الحياء من اقتحام تأملهم في حال وطنهم، لا أحرجهم أو أحرج نفسي، خصوصا إن عواطف اللبناني مهمها بلغ صفاؤها، لا تستطيع تجاوز إلتباسات الوجود العسكري والأمني للسلطة السورية في لبنان طيلة أربعين سنة، إذ تناوبت الجماعات السياسية اللبنانية كلها في موقعي الحليف والخصم.

لكن بيروت في كل أحوالها كانت ولا تزال عاصمة ثقافية ومالية للداخل السوري، داخل كان بالنسبة إلينا هيولى تاريخ وبشر. يدنا على القلب من خشية ورجاء.

ونشير إلى السوري فخري البارودي ونشيده الذي كان منتشرا: ” بلاد العرب أوطاني، من الشام  لبغدان، ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان”، فمع الأحداث السورية ينطوي النشيد وورقة القومية العربية التي خطّها لبنانيون وسوريون في مواجهة قومية طورانية استولت على قرار السلطنة العثمانية.

وكانت العروبة غواية القوم وجوابهم السهل على هزيمة فلسطين، وشعارهم الذي يحجب الكسل عن إنجاز التنمية الصعبة. وعلى رغم “هجرة” البعض من الوحدة العربية إلى الوحدة الإسلامية الأوسع فإن هتافات المتظاهرين السوريين تشير إلى رغبة باستنهاض وطنية سورية تلتقي بالوطنيتين التونسية والمصرية في ساحات الإعتراض .