” أقبل ان أكون أي شيء، إلّا أن أكون لا مرئيّة”

الإعلاميّة والشاعرة اللبنانيّة “نور خليفة”

بكامل حساسيّتها تنزل إلى الشارع، ولا شيء يحميها سوى الشعر، فيسهل عليها السقوط في الخفّة من الوقوع في الثقل، لا تخاف الموت بل تخاف طقوسه، حتى أنها تخشى الأكل في الجنازات، تصنع من الهشاشة يومها، وتعيش نهارها بانتظار الساعة الثامنة، موعد نشرة الأخبار المسائية، وللحرب تعطي تلويحة، وترتدي أضخم سترة لديها كي تواجه العالم بمظهر شرس، هذا العالم الكئيب كيوم أحد على كورنيش البحر، يضحي التعاطف عندها سيئًا أمام مشهديات القتل والانمحاء الوجودي، فيخرج نحيبها من عظام صدرها لتكتب قصيدة إلى حسن الطفل الذي يعرف كيف يحتضن أخته جيّدًا ويموتا معًا.

بهذا الأسلوب السلس المرن، وبعبارات وجمل شعريَة، تحتفي الإعلاميّة اللبنانيّة ” نور خليفة” بكتابها “سيرك” الصادر عن دار النهضة العربيةّ، العام 2025، والذي شهد عدّة توقيعات.

يعبر صوتها الإذاعي مسامع الذاهبين إلى أعمالهم مبكرًا، انطلقت من خشبة المسرح وهي الحائزة على درجة الماجستر في الإخراج المسرحي، وشاركت في أعمال مسرحية منها “نساء في الحرب”، “توليفة نضال”، قدمت عدّة برامج إذاعيّة وحواريّة على إذاعات لبنانية، منها: (سترايك، وإذاعة الجرس، وحاليًا إذاعة روتانا). كما قدّمت بودكاست “أدباء نوبل” الذي قدّم لشخصيات أدبيّة وفنيّة بأسلوب سرديّ مميّز، وبودكاست “المشهد” الذي قدّم لأفلام وشخصيات بأسلوب شيّق ومقاربة مع الواقع، حتى استقرّ مركبها في عالم الشعر.

 مرهفة الحسّ غنيّة المضمون، لا ترهق قصيدتها بالغموض ولا تُضعفها بالوضوح، وما بين بين تتخفف اللغة من صرامتها، والموسيقى من تفعيلاتها فيحضر النص بمرونة مدهشة العاديّة، رائق على الرغم من صخبه، وعميق حتى تطفو مشاعرنا على سطحه تتأمل في سماء لا متناهيّة المعنى.

لا أتعالى على لقب، ولا أتباهى به

بدأت خليفة مسيرتها الإعلاميّة من خلال برنامج لاختيار مذيعي الراديو، ووصلت فيه إلى النهائيّات ضمن الخمسة المتأهلين، ومن بعدها بدأت بتقديم أوّل برنامج إذاعي لها “بعد الظهر”، تذكر بأنّها حاضرة في الإذاعة، والمسرح، والكتابة، ولكلّ منها مكانته في قلبها، ولكنّ المسرح يحتل جزءًا من روحها:

” ومن هناك اكتشفت صوتي كمذيعة وكاتبة”.

ممثلة، إعلاميّة وشاعرة تقرّ خليفة بأنّها لا تتعالى على لقب ولا تتباهى به، وأنّ اللقب في تقديرها هو تعريف يُشير إلى ماهي عليه، وتقول: ” لستُ شاعرة لأن اللقب قيل في حقي، بل لأنني كذلك “.

وتُضيف: “في زمن الألقاب السهلة، لا يعنيني التزيّن بما لا يُجسّدني. فمهما تعددت الأوصاف، تبقى بلا معنى إن كانت الروح فارغة. لذلك، لا أتعالى على لقب، ولا أتباهى به”.

وهنا كان للحصاد معها هذا الحوار:

الحصاد: كيف تحضّرين لبرنامجك الإذاعي في زمن الصورة، وهل تجدين أنّ هناك حاجة للهروب من عجقة التصوير والصورة إلى الاستماع كحاجة لتهدئة العقل؟

خليفة: أحضّر لبرنامجي كما أُخرج مشهدًا مسرحيًّا؛ أختار النبرة، الإيقاع، الصمت، وكأنّ المُستمع يجلس في الصف الأول. ومع إنّني أقدّر الصورة، أُفضل أن تبقى صورة الراديو متخيّلة؛ تولد في ذهن المستمع، لا تُفرض علي، لذلك لا أميل لبثّ صوتي وصورتي معًا، بل أختار أن أظهر بالصوت فقط. أنا أؤمن أنّ في الاستماع راحة لا تمنحها الصورة، راحة تشبه تنفّسًا هادئًا وسط صخب العالم، كأنّني أقول للمستمع: خذ لحظتك…

الحصاد: خلال توقيع كتابك الشعري “سيرك” في معرض بيروت الدولي للكتاب.   بدوت امرأة تسعى نحو الأضواء وتجعلين من شخصك حدثًا يحتفي بنفسه، هل مجال دراستك الإخراج هو الذي قادك لهذا التفنُن في الظهور؟ وكيف تعملين على إبقاء ضوئك متوهجًا في زمن سرعة الإضاءة وسرعة الانطفاء؟

خليفة: في كل ظهور لي، لا أبحث عن الضوء بقدر ما أُجسّد حضوري. أنا مهرجان متنقّل، لا أعرف أن أمرّ عابرة. أقبل ان أكون أي شيء، إلّا أن أكون لا مرئيّة .

 حاضرة بكلّ أدواتي: روحي، لغتي، مظهري، وحسّي الفني.

المشهد، كما أراه، يجب أن يكون مكتملاً. قد يبدو الأمر للبعض استعراضًا، لكنّه بالنسبة لي امتنان للحظة، واحتفاء بالحلم حين يصير ملموسًا.

مجال دراستي في الإخراج منحني عينًا ثالثة، لكن الذي قادني إلى الفن حقًا، هو شخصيتي التي لم تكن يومًا باهتة، تلك التي ترى في كل مشهد حياة، وفي كل لحظة فرصة لتكون لوحة.

أما عن الضوء… فأنا لا أطارده، أنا أخلقه من داخلي. وفي زمن تتسارع فيه الأضواء وتنطفئ، أؤمن أن من يصنع نوره من قلبه، لا يخاف الانطفاء.

الحصاد: في كتابتك عن الحرب ومشهديّاتها المؤلمة كما في نص “بطاقة بريدية إلى حسن”، ونص “تلويح” وغيرها من قصائد، ما الذي حاولت قوله في زحمة السيرك ؟

خليفة: في قصيدة “بطاقة بريدية إلى حسن”، كتبتٌ النص من حادثة طفل استشهد هو وأخته في مبنى في الضاحية لم يكن هناك إسقاط شخصي، بل كان التركيز الكامل على حسن، الطفل الشهيد، على كيانه، روحه، ملامحه… كنوع من مقاومة هذا الزمن الذي يُعلي شأن “الشهداء الأجمل” أو “الأكثر تداولًا.”

فكتبت:

 ” هذا حسن

 لا يشبه الأطفال المدللين

ليس أشقر…

 والمؤكد أنه لا يحبّ الماكدو

يحبّ المنقوشة والبونجيسة

 حسن لا يشبه أطفال الإعلانات…”

أمّا في قصيدة تلويح، فقد تسرّب الشخصي من المشهد، حين رأيت لحظة قصف استهدفت المسعفين أثناء انتشال الشهداء.

استدعت هذه اللحظة موقفًا شخصيًا وتذكّرت كيف أن القاتل أحيانًا لا يترك لك حتى مكانًا للنجاة ولا ظلًا للاختباء.

فكتبت:

” أوقعوا المنزل الآمن

وأنا أغسل وجهي بماء الزهر

هذا ما فعل الأحبّة

هذا ما فعل العدو

منعوا المسعفين من الوصول

لم يتركوا مكانًا للنجاة”.

هي لحظة يتقاطع فيها العام مع الخاص، لا كاستعارة، بل كجُرح مشترك.

الحصاد: تقولين التعاطف أسوأ من نهار أحد كئيب، ما الذي أضفته خيبات العالم على تفكيرك؟

خليفة: نعم، أقولها بيقين: التعاطف أسوأ من نهار أحد كئيب، كتبت تلك الجملة بعد أن لمحت مراهقة على البحر، تهرب بنظرتها إليّ، كأنها تنتظر تعاطفًا يخلّصها من مللٍ ثقيل .لم أشأ أن أنظر إليها من مكان أعلى… أنا مثلها، مثل كثيرين، مثيرون للشفقة أحيانًا.

 الحصاد: كتبت عن “الأمومة الهشة، “أمي هشة مثلي تهرب إلى عيون الممثل حتى لا تتجنب النظر إلى عيناي المرتعبتين” كيف تقاربين علاقتك بالأمومة، والطفولة؟

خليفة: أنا طفلة، وأقولها بكل ما تحمله الكلمة من فقدٍ وحنين. لا أعرف كيف تبدو الأمّ القوية ليس لأن أمي لم تكن موجودة، بل لأنها كانت هشّة مثلي.

كنا طفلتين في بيت واحد، ترتبك هي من حزني، وأرتبك انا من قسوة العالم فأختبئ تحت لحفاها المزيّن بالورود كما ذكرت في احدى القصائد، لا أعرف شكل الأم التي تحضن ولا تنهار، التي تنظر في عيون ابنتها لتطمئنها، لا لتختبئ منها. لهذا… لا أدري أي أم سأكون القوية أم المرتبكة .

ربما سأكون تلك التي تختبئ مع طفلها تحت اللحاف، وتقصّ عليه حكايات الوحوش، لا لنخافهم، بل لكي نضحك في وجوههم معًا.

الحصاد: كيف تقاومين الانكسار من دون أن تعلقي في التكرار، تكرار الصور الشعرية التشابيه والاستعارات؟

خليفة: الإنكسار ليس حدثًا عابرًا في التجربة الشعرية، بل يتطلب لغة وصورًا متجددة. أحياناً تتكرر الصور في قصائدي لأنها نابعة من جرح لم يندمل وكأنك تسبح في دائرة، وكأنّ المشهد يُعاد لكن بزوايا إضاءة مختلفة. قد يكون ذلك ايجابيًّا لإيصال ثقل الشعور من خلال قصائد مختلفة. وأحاول أن أوازن بين الإخلاص لمشاعر لم تُشفَ تمامًا، وبين الحرص على تقديمها بقوالب جديدة، لا تقع في التكرار، بل تجد صورة مختلفة لتجسيد الشعور.

الحصاد: بين العمل الإعلامي، التمثيل والكتابة الشعريّة، يبدو أن نور خليفة تعيش في زحمة، وكتابك “سيرك” غنيّ يتشظى بين مواضيع مختلفة وهواجس وقلق كيف تتفرغين للشعور من دون أن تتصنعينه؟

خليفة: الزحمة لم تكن عائقًا يومًا بل كانت المولد الأوّل لما أكتب. من قلب الزحمة وُلد كتابي “سيرك”وما هذا السيرك الا مرآة للكثرة والضجيج والتعدّد.

هذا السيرك لم يولد من مكان هادِئ ولا من شخصية أحاديّة بل من امرأة حياتها مليئة بالمشاهد والتقاطعات.

أنا لا أهرب من التعدّد، بل أعيشه، لأن هذه الفوضى التي قد تبدو مربكة للآخرين، هي ما يمنحني مادتي الخام، ومشهدي، ونصّي. وهكذا، لا أفتعل الإحساس، بل ألتقطه كما هو، من وسط الزحام حيّاً ومفاجئاً.

الحصاد: كيف تتعاملين مع النقد الذي يطال كتابتك، وما هي خططك القادمة في المسرح والشعر؟

خليفة: أنا أُصغي للنقد، لكنّني أميّز بين ما يُقوّم النص وما يُحاول تقويضه. لا أتصنّع تقبّله، ولا أرفضه بتعصّب. ما كان منصفًا أرحّب به، وما كان للتهديم أو المجاملة أتجاوزه بهدوء.

 في كل مرحلة ألحق بحاجتي، والآن أنا في مرحلة أحتاج فيها لأن أطوّر كتابتي الشعرية وللتمثيل. أحتاج لأن أعبر بباقي حواسي، الجسد يطالب بدوره في الحكاية.

حاليًا؛ أُحضّر لكتابي الجديد، وهو امتداد لما بدأته .أمّا المسرح والإذاعة، فهما مكانان لا أغادرهما… أنا باقية فيهما كما تُقيم الروح في بيتها، فيهما أتنفس، وأكتب، وأتكلّم بصوتي الحقيقي.

“أنا خلاصة الأشياء

لبستُ هالة الممثلات

وضعتُ صورتي الشمسيّة المضحكة إلى جانبهنّ

روحي تملأ المسارح..”